منذ العصور القديمة، تدفقت مياه الحمامات المعدنية على أرض الجزائر الشاسعة حاملة الصحة والمتعة، ويفوق تعدادها 200 منبع موثق رسميا وتضمن بعضها تكفلا طبيا، ما يجعلها مصدرا مهما للسياحة الحموية، لكنها ليست بالضرورة مقصد من ينشد التداوي، إنما كثيرا ما تكون وجهة الراغبين في إزالة رواسب تعب الأيام... ومن أروع حمامات الجزائر، اخترنا حمام الشلالة بقالمة (المسخوطين سابقا) لنرحل سويا في رحلة استكشافية شيقة. الدباغ أو الشلالة أو المسخوطين تسميات مختلفة لحمام واحد تعود جذور استعماله للعلاج إلى العهد الروماني. شيد حمام الشلالة على آثار حموية رومانية قديمة على بعد 20 كلم من مدينة قالمة، حيث يعود تاريخ المكان إلى فترة الرومان الذين أدركوا قدرات مياهه العلاجية، فأسسوا حماماتهم، وأطلقوا على المنطقة إسم ''أكوا تيبيتانا'' aqua'' Thibitanae'' ويتميز هذا الحمام بخصائصه العلاجية المتميزة نظرا لنوعية المياه وجوٌه اللطيف. كما تنفرد مياه هذا الحمام بكونها المياه الجوفية الأكثر حرارة في العالم بدرجة 96 مئوية، حيث تشير الدراسات المختصة إلى أن جوف الأرض تحت حمام الشلالة يشكل بحرا حقيقيا من المياه المعدنية الشديدة السخونة.. وقد تم تصنيف هذا الحمام بالإضافة إلى حمام أولاد علي من ضمن مجموع سبع محطات معدنية بالولاية. وقد حاولت بعض السلطات تغيير اسم الحمام لحمام دباغ، ثم الشلالة، ولكن الظاهر هو أن سكان قالمة الأصليين وحتى الزوار لا زالوا متشبثين بتسمية ''المسخوطين'' القديمة. أسطورة حمام المسخوطين منظر لحجارة على شكل أشخاص هو أول ما يشد الزائر للمكان.. ولتلك الصخور ذات الشكل الآدمي أسطورة تفسر سر تسمية الحمام بالمسخوطين.. تقول الأسطورة المتداولة في المنطقة أن أصل كلمة المسخوطين يعود إلى واقعة قديمة مفادها أن الصخور المتواجدة في منطقة الحمام، هي عبارة عن أشخاص مُسخوا حجرًا بسبب تعديهم على حدود الله، وذلك عندما حاول بطل القبيلة الزواج من شقيقته، فقام الرب بتحويل العروسين والمدعوين إلى حجارة تتدفق منها المياه المعدنية. بمجرد أن تصل إلى الحمام، تلفت انتباهك الحركية الملحوظة السائدة، والتي تبدأ عند المدخل.. والسر هو ذلك الشلال الشامخ الساحر الذي أضفى على الموقع جاذبية تستوقف كل من يمر من هناك لتأمل إبداع رباني ينبض جمالا، ما جعله موقعا حقيقيا للصحة المغمسة بالترفيه وانشراح الصدر. أطفال ورجال ونساء من فئات عمرية متباينة، ومن مختلف الولايات، كانوا بالمكان يوم زيارتنا للموقع رفقة وفد صحفي استفاد من رحلة سياحية مؤخرا تزامنا واليوم العالمي للسياحة، من تنظيم وزارة السياحة والديوان الوطني للسياحة.. إقبال ملفت رغم أن يوم الزيارة كان أربعاء.. الكل استوقفه الزمن أمام مشهد الشلال الذي يغازل المارة بألوانه التي تتدرج بين البني والأبيض الناصع وببخار مياهه المتصاعد، حيث أن هذا الحمام المشهور عالميا يقع في مكان مناسب للتنزه، ذلك أن مياهه تجري على مجرى صغير متصل بالجبل الكلسي، والذي يعتبر في نفس الوقت شلالا... وأمام هذا المشهد الخلاب، لا يسعنا سوى ترديد عبارة: ''ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار''. وتحت تأثير تلك الآية الربانية الفاتنة، لم يكن من السهل علينا الالتزام بتعليمات السيدة ''ذهبية حماني''، المشرفة على الفوج الصحفي، والتي تلح في كل مرة على ضرورة احترام الوقت المخصص لزيارة المواقع السياحية. .. تفرقت جموع الوفد الصحفي بين من يبحث عن تذكار يعود بالذاكرة إلى الرحلة الشيقة التي قادتنا إلى ولاية قالمة، وبين من أبى إلا أن يلتقط له المصور صورة تذكارية قبالة الشلال وأمام زوجين من فرخ الطاووس وكذا الغزالة الجميلة ''سارة'' صاحبة 13 عاما. استطاعت تلك الغزالة صغيرة الحجم أن تنال إعجاب كافة الزائرين، منهم الزميلة ''نسيبة'' من الإذاعة الدولية التي أبت إلا أن تطعمها بحبات الفول السوداني، وما كان من هذا الحيوان الوديع إلا أن تعلق بها على التو! ليس بعيدا عن الغزالة ''النجمة''، وقف أحد المواطنين ليتأمل المشهد الساحر، اقتربنا منه فأشار إلى أنها رابع مرة يقصد فيها فندق الشلالة مع أفراد عائلته، موضحا أنه يغتنم فرصة حصوله على العطلة لقضاء أوقات ممتعة مع أفراد عائلته. ثم أردف: ''يجذبني الجو اللطيف إلى هذا المكان ومتعة الاستحمام التي تفيدني في العلاج، وفي نفس الوقت، أطرد شحنات التعب الناجم عن العمل الشاق الذي أمارسه.. ولحسن الحظ، الفندق نظيف ومستوى خدماته مقبولة''. سيدة تبدو في العقد الخامس كانت جالسة رفقة أقاربها، صرحت أنها لا تقطن في ولاية قالمة، إنما قصدتها لزيارة شقيقتها واغتنام الفرصة للاستحمام في حمام الشلالة... سألناها عما إذا كان المرض هو الدافع للاستحمام، فردت أن الأمر يتعلق بمجرد رغبة في الاستمتاع وكسر روتين الأيام، مقابل مبالغ تتراوح ما بين 120 دج و250دج.. مصور في عين المكان أصر على نقل رسالته عندما كانت ''المساء'' بصدد نقل انطباعات الزوار، فقال أنه يلتقط حوالي 100 صورة للزوار في اليوم، ويرتفع العدد إلى 3000 صورة خلال أيام الربيع، ورغم هذا يعتبر محدثنا الرقم ضعيفا.. ثم واصل حديثه ليفسر السبب: ''تراجع الإقبال مرتبط بقلة نظافة الموقع وإهمال الاهتمام به''. والواقع أن النفايات كانت جلية للعيان، وهي تعكس ظاهرة سلبية تغزو العديد من المواقع والأماكن العمومية بسبب تدني الحس البيئي وإهمال بعض السلطات المحلية. بضع أمتار إلى الأمام، أحصنة في انتظار الراغبين في التقاط صور تذكارية معها.. وليس بعيدا عن الأحصنة توجد قبة كبيرة تم تشييدها في موقع الغليان الكبير، حيث كان يتصاعد بخار كثيف.. وبالصدفة فقط تحولت تلك القبة الحاجبة للبخار الكثيف إلى مزار للنساء، تروي المرشدة السياحية ''آمال نواورية بوحريس''، فبالقرب منها تخصب النسوة الزائرات أيديهن بالحناء ويشعلن الشموع طمعا في تحقق أمنياتهن... أما لمن يرغب في تناول البيض المسلوق، فما عليه سوى وضع الحبات في مجاري الماء الصغيرة لتصبح بعد بضع دقائق معدودة جاهزة للأكل. ويستقطب الحمام حوالي 4000 زائر سنويا يقصدون فندق الشلالة لتلقي العلاج بالمياه المعدنية، بحسب المدير العام للفندق الوردي رسول، والذي كشف أيضا أن عدد الزوار الذين يجذبهم حمام الشلالة بغية الترفيه والاستجمام يفوق 20 ألف شخص خلال عطل نهاية الأسبوع في فصل الربيع. وتبلغ قدرة استيعاب الفندق 530 سريرا، فيما يتطلب العلاج لمدة 21 يوما مبلغ 62 ألف دج، علما أن يوما واحدا من العلاج يكلف 3000دج. وفي المقابل، أظهرت الزيارة توافد عدد ملحوظ من المسنين، ممن يشكل العلاج فرصة بالنسبة لهم للتلاقي والإفصاح عن المكبوتات، علاوة على تجاذب أطراف الحديث حول مشاغل الحياة اليومية. غادرنا المكان الجميل في المساء، في وقت كان فيه المرضى المقيمون بفندق الشلالة قد شكلوا حلقات نسوية وأخرى رجالية، وكان المنظر العام يوحي بأنهم قد غرقوا في الأحاديث، ولم يكن ذلك غريبا في وسط تحيط به الطبيعة الهادئة.. وعموما ليس حمام الشلالة سوى عينة من مظاهر الجذب السياحي التي تتميز بها ولاية قالمة، والتي لا تستمد جمالها من حماماتها المعدنية فحسب، بل ومن تضاريسها وطبيعتها الخلابة، إضافة إلى ثروتها المتميزة بالمعالم الأثرية والتي يعود بعضها إلى العهد الروماني.