شد انتباهي، وأنا في قاعة انتظار بإحدى المراكز العلاجية، حديث سيدة تتكلم باستغراب عن جنازة قدم أصحابها مختلف أصناف الأطعمة، منها أكلة ''البوراك'' التقليدية.. وواصلت السيدة تفاصيل المشهد الجنائزي الذي عايشته بدون أن تلمس روح الحزن الذي حل محله الإنشغال بأمور دنيوية.. والحقيقة أنها ليست أول مرة نسمع فيها عن الطقوس الاحتفالية التي أصبحت تخترق الجنائز في مجتمعنا منذ السنوات الأخيرة!! وهنا تصح الوقفة للتأمل في مظاهر تغتال روحانيات الجنائز؟ ولسنا نقصد هنا ''الصبر'' الذي أوصى به الإسلام، لكن مظاهر أخرى سنعرضها. المبالغة في إبراز مظاهر الكرم في استقبال المعزين، وطرح مناقشات حول قضايا الحياة العامة، مع حرص رواد الجنائز على الظهور في كامل زينتهم بدرجة توحي بأن أجواء الفرح وقضايا الدنيا طغت على مشاعر الحزن والإعتبار من آية الموت... كان هذا الإنطباع القاسم المشترك لدى عدد من المواطنين ممن استطلعت ''المساء'' آراءهم بهذا الخصوص. بداية كان الحديث مع سيدة متقدمة في السن، من سكان القصبة العتيقة، وبصيغة من التحسر قادها السؤال إلى سنوات خلت، حيث كانت البساطة وروح الحزن عنوان الجنائز في المجتمع الجزائري... مازالت مشاهد التعزية بالأمس القريب عالقة بذاكرتها، ملونة بالأبيض والأسود، إذ ترتدي النساء في الجزائر، حدادا على الموتى، ثيابا بيضاء أوسوداء اللون، ويحرصن على ألا يظهرن سوى بهذه الثياب لدوافع إجتماعية وأخرى نفسية تعبر عن مشاركة أهل الميت أحزانهم.. أما إكرام المعزين في اليوم الثالث بعد الوفاة لا يتعدى طبق ''الكسكسي'' وأكلة ''الرفيس''.. وهوما يتنافى تماما مع الجنائز التي صرنا نحضرها في السنوات الأخيرة، حيث لا تتورع بعض الأسر عن إقامة ''شبه احتفال'' في البيت من فرط الاهتمام بالأكل وإعداده وتقديمه للأقرباء والمعزين والمعزيات بشتى الأصناف، ومن ذلك إعداد وجبة فطور أوعشاء ممثلة في ''الطاجين لحلو''،''البوراك'' مع تقديم العديد من أصناف الحلويات، بما يدعو للتساؤل لماذا تحولت أقراحنا إلى أفراح؟.. تتساءل المتحدثة. ويأتي المعزون وتنهال الأيدي على الأطباق التي تسيل اللُعاب، وتبدأ الأحاديث ومعها تندثر علامات الحزن، ولا يشعر الحاضر سوى بذلك الاستعراض لمظاهر الثراء من طرف أهل الميت، والإدعاء بحرصهم على إبراز مكانة الميت، الذي كثيرا ما ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: ''كي يكون حي مشتاق تمرة وكي يموت يعلقولو العرجون''. سيدة عاصمية أخرى استوقفناها بالقرب من سوق زوج عيون (50سنة)، تأسفت لغياب روح البساطة التي كانت تسود في جنائز الأمس، بعدما اجتاحت المباهاة والبذخ وسطنا الاجتماعي إلى حد اختزال الفوارق بين طقوس الأفراح وطقوس الأحزان.. وقبّر اللحظات التي تدعوالإنسان للتدبر والاعتبار. وبشوق كبير، أبدت أمنيتها في أن تعود عادات أيام زمان التي لا تكلف نفسا إلا وسعها عكس ما يجري اليوم تماما.. وسردت ل ''المساء''بعض التفاصيل عن جنازة زوجة عمها قائلة: ''تصوروا أنه في اليوم الثالث بعد وفاتها، اقترحت ابنتها أن يساهم كل فرد من العائلة بمبلغ قدره 50 ألف دج لإعداد عشاء فخم على شرف الوالدة الراحلة.. ولكم أن تحسبوا تكلفة هذا العشاء الذي تطلب من كل فرد من أفراد العائلة مبلغا كهذا بحجة التصدق على الميت.. ويبقى السؤال هل حقا أن الصدقة على الميت تتطلب التفنن في إعداد ما طاب ولذّ لغير المحتاجين؟''. وشاركت في الموضوع السيدة ''كريمة.خ'' (عاملة مثقفة) فذكرت ل ''المساء'': ''منذ مدة كنت شاهد عيان في إحدى الجنائز، ورأيت ما يدعو للدهشة.. بعض النساء ارتدين الفاخر والجديد من الملابس المطرزة والمرصعة ووضعن مساحيق الزينة.. شعرت كأنني في حفل زفاف وليس في مناسبة عزاء.. الأسوأ عندما اخترقت مسامعي عبارة ''البركة فيكم''! التي يبدو أنها حلت محل عبارة ''عظم الله أجركم''.. وأحاطت بي علامة استفهام كبيرة: هل هذه السلوكيات أوالمظاهر تدخل في إطار واجب التعزية والحزن على الميت، وهل لهذه الدرجة صرنا نجهل آداب التعزية؟! واسترسلت المتحدثة قائلة: ''بعد لحظات، أخذ مؤشر دهشتي في الإرتفاع، إذ بدأت أصوات الضحك تتعالى، وفنون الحديث تثار حول أمور دنيوية، مشكل السكن موضوعها الرئيسي، ولم تكتف بعض المعزيات برواية قصصهن مع ملفات السكن، إنما تعدى الأمر نحو التجوال في أرجاء بيت الميت، والتدقيق في مختلف زواياه!!.. وهكذا ذهبت أجواء الحزن في مهب الشقة الجديدة التي تسلمها الميت منذ فترة قصيرة قبل موته''. واستكملت ''ما هذه سوى صورة مصغرة عن أجواء بعض جنائز اليوم التي ينسى فيها المعزون من دفنوه قبل ساعات وواروا التراب على جثمانه، لتتحول جلسة العزاء إلى فكاهة وانشغال بأمور بعيدة عن مناسبة يفترض أنها تدعو للإتعاظ والحساب''.
المباهاة والإسراف لا أصل لهما في الدين؟ وتوضيحا لآداب الجنائز، نبه إمام مسجد ابن فارس بالقصبة زين الدين العربي، إلى أن إطعام الطعام بالصورة التي يتكلف فيها أهل الميت لا مبرر له شرعا، والمفروض أن يًصنع لهم الطعام، حيث أن السنة التي عليها العمل عند أهل العلم أن طعام الميت يصنعه جيرانه حتى ينشغل أهل الميت بالمصيبة التي نزلت عليهم. وجاء في الصحيح أن آل جعفر لما جاءهم النعي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم''. أما إذا صنع أهل الميت طعاما يكرمون به ضيوفهم الزوار، فلا حرج في ذلك. أما إذا صنعوه من أجل الصدقة على الميت، فليأكل منه المحتاجون والفقراء وأبناء السبيل. وأضاف الإمام: أما المباهاة والإسراف في الطعام من أجل أن يأكل منه عامة الناس عن طريق الدعوة، فهذا لا أصل له في الدين ولا يعتبر صدقة، مشيرا إلى أن دعوة المعزين في اليوم الثالث أو الأربعين مجرد عادة من عادات المجتمع وليس واجبا. وتعليقا عن بعض السلوكيات غير اللائقة التي تسود في جلسات العزاء على غرار الضحك، أشار إلى أن مراسيم تجهيز الميت ودفنه من العبادة التي يجب أن تنضبط بضوابط الشرع الحكيم، وأن الكلام الفارغ والفكاهة ليست من آداب الجنائز التي يفترض أن تكون فرصة للاعتبار، نظرا لقوله صلى الله عليه وسلم: ''زوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة''. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذا الشأن: ''إذا ضاقت بكم الصدور فعليكم بزيارة القبور''، كما جاء في الصحيح أن النبي صلى عليه وسلم قال: ''أكثروا من ذكر هادم اللذات'' وهوالموت، حسب المصدر. فمن الناحية الشرعية، لا يتوافق ذلك مع الأجواء الروحانية التي ينبغي أن تطغى على الجنائز بدءا بالسكون وانتهاء بالخشوع للمولى تعالى.