كانت أول محطة قمنا بزيارتها بقرية أبويوسفن منزل نَا طيطم بوحي البالغة من العمر 83 سنة، أرملة الشهيد حمادي محمد السعيد، تنحدر من عائلة ثورية، قدّمتْ 5 شهداء؛ منهم أخيها بوحي أرزقي وسليمان، ووالدها بوحي سعادة، إلى جانب زوجها وابنها مالك. وبعد الترحيب بنا، شرعت المجاهدة في الحديث عن دورها إبان الحرب التحريرية إلى جانب زوجها الشهيد، حيث قالت: لقد كنت أحضر الأكل للمجاهدين وأجمع كل احتياجاتهم، وكلما حلّ زوجي رفقة جماعة يأخذونها معهم إلى حيث يتواجد بقية المجاهدين. وأضافت أن زوجها لم يكن يخبرها بما كان يعمله ولا بنشاط إخوانه المجاهدين الذين كانوا يتحركون وينشطون في الخفاء دون إعلام زوجاتهم، وظل الأمر على حاله لعدة أشهر وسنوات، حيث كان المجاهدون آنذاك يتنقلون بين القرى ويترددون على المنازل التي تم تحديدها كمنازل لإيواء اللاجئين، وكانوا يدخلون القرى في ألبسة ممزقة وغير نظيفة لإبعاد الشبهات عنهم والوقوع في قبضة ال'' أقومي'' كما كانوا يعرفون لدى سكان قرى منطقة القبائل، وهم ''الحركى'' الذين يعملون لحساب العدو وينقلون كل ما يُبطل مخططات المجاهدين ويكشف أمرهم. وذهبت نا طيطم للحديث عن دورها كزوجة مجاهد ومجاهدة في نفس الوقت، ناضلت وجاهدت إلى جانب مجموعة من النساء اللواتي اخترن طريق التضحية من أجل الوطن، رغم المخاطر التي كانت تحدق بهن وتترصدهن من كل زاوية، خاصة وأن أزواجهن وأبناءهن كانوا في الجبال يحاربون المستعمر، حيث قالت إن زوجها كان يخبرها بأنه يذهب إلى العاصمة لقضاء بعض الحاجيات، فيما أنه كان يصعد إلى الجبل. ولقد أدركت ذلك أمام تردد عدد من المجاهدين الذين كان زوجها يجلبهم معه إلى منزله لتناول الطعام والإستراحة، وأمام إلحاحها على زوجها الإفصاح عن هويتهم، أخبرها أنهم صيادون. لكن هذه الكلمة لم تقنعها فقال لها أنهم ''صيادو الفرنسيين''، حيث أمرها بزيادة كمية الأكل التي تعدها يوميا كونه كان يُحْضر معه المجاهدين بشكل دائم، واستمر الوضع عامين أو ثلاثة وهم ينشطون في الخفاء، تضيف المجاهدة. وبعين دامعة، تذكرت المتحدثة محطات سوداء عاشتها في حياتها، ذوقها فيها المستعمر الألم والحزن، حيث قالت: لن يفارقني ما دمت على قيد الحياة، فقد كانت أعين ''الحركى'' منصبة علي كوني زوجة عنصر نشيط وفعال أزعج فرنسا كثيرا، حيث قالت إن فرنسا تدرك تمام الإدراك أنها لكي تتغلب على الرجل القبائلي، يجب ضربه في شرفه، فاستخدمت فرنسا سياستها القذرة وأمرت العاملين في صفوفها من ''الحركى'' القبض علي ، لاعتبارهم أن إلقاء القبض علي ووضعي في السجن سيدفع زوجي إلى التوقف عن النشاط وتسليم نفسه، لكن هم لا يدركون أن الحرب لا تعرف الزوج أو الأب أو الابن طالما أن الأب والابن والزوج أو الزوجة هي الجزائر التي أصبحت أسيرة التخريب والهدم والقتل والتعذيب. وأضافت المجاهدة: لقد تمكنت في العديد من المرات الإفلات من قبضة الاستعمار الذي كان يبحث عني في كل قرية ومنزل، لكن الوشاية أوقعتني في قبضتهم وقام المستعمر بوضعي في السجن''. وفي هذا الصدد، أفرغت نا طيطيم غضبها على ذلك المتسبب في سجنها وحرمان المجاهدين من خدماتها؛ كتحضيرها للأكل وتلبية احتياجاتهم خاصة وأن منزلها حُوّل إلى ملجأ لهم. وأشارت المجاهدة إلى أن الوشاية ظلت تلاحقني، حيث قامت فرنسا بعملية مداهمة قرية أورير، وتم خلالها إلقاء القبض على 14 شخصا كنت من بينهم ، وتم اقتيادنا إلى ثكنة واقعة بتاخروبت وبالتحديد بأسيف أسرذون، بين بلدية بوزقان وبلدية إيجر، كما حاصرت القوات الفرنسية القرية وألقت القبض على أبي بوحي سعادة. وبعد قضائها لمدة 5 أشهر و 20 يوما بين جدران السجن بالثكنة، كانت المجاهدة ترفض تناول المأكولات التي يقدمها لها المستعمر، حيث قالت أنها كانت تفضل الموت على أكل ما يقدمه لها أعداء الجزائر الذين حرموها من أبنائها، وأنها طيلة تواجدها بالثكنة التي كانت مُطلة على كل الجهات، كانت تسمع عمليات القتل البشعة التي كان المعمر يرتكبها في حق الشعب. وقررت المغامرة والهروب للعودة مجددا إلى الجهاد، وفعلا استطاعت الفرار منه واتجهت إلى قرية توريرت، وبقيت بإحدى الكازمات لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وقالت: لقد عانيت كثيرا فلا أزال أتذكر كيف كان جسمي يضمحل كوني لم أكن أتناول أي شيئ ما عدا الماء الذي وجدته هناك، لكنني كنت قوية وصبورة وكان ثدياي يقطران دما بسب انتفاخهما من الحليب، حيث عندما أُلقي القبض علي ، كنت نفساء، ومرّ شهر فقط على ولادتي إبني الثاني ''ناصر''. وبعد دقائق من الصمت والدموع تغمر عينيها، قالت ناطيطم أنها اختارت الجبل وتركت أولادها، حيث أصبحت حياتها غير مستقرة، وكانت الوشاية في كل مكان بحثا عنها كونها زوجة مجاهد أزعج فرنسا التي تسعى للقضاء عليه بدءا من عقر داره أي بزوجته، وقالت أن فرنسا لم تكتفي بقتل النساء والرجال، ولم تشفي غليلها، ولم تتوقف سياساتها الوحشية عند هذا الحد، بل طالت الأطفال الصغار، حيث عندما كنت في السجن، قام المستعمر بقتل إبني ''مالك'' الذي كان أنذاك عمره 4 سنوات، وذلك برميه من مكان مرتفع، فقام والده الشهيد حمادي محمد السعيد بدفنه. ولما فرت المجاهدة من السجن، حاولت الدخول لمنزلها لمعرفة أخبار أبنائها ولم يستطع أحد إخبارها، لكن كما قالت: ''لقد كنت أدرك أن إبني قد مات، فطيلة تواجدي بالسجن والكازمة، كنت أراه في المنام وكأنه يدعوني''، -تضيف- فإحساس الأم لا يخيّب أبدا''، ولما غادرت الكازمة كانت تتلهف شوقا لرؤية أولادها، غير أن اللهف تحول إلى حسرة وجرح وألم، حيث اِلتقت بزوجها مرة أخرى ورافقها إلى القبر الذي دفن فيه إبنها ''مالك''، وهناك قال لها: ''ياطيطم إن التعذيب الذي تمارسه فرنسا والتضحيات التي نقدمها، وفقدان من نحب، كل هذا من أجل الجزائر، تذكري هذا دائما''. ومرت أشهر فيما بعد لتأتي فاجعة أخرى، ''تتمثل في سقوط زوجي شهيدا وكان عمري آنذاك 26 سنة، ثم فقداني إبني الثاني ''ناصر'' وأنا في سن ال 35 سنة، إثر حادث مرور. وتواصل قولها: ''إن فرنسا أحرقت كبدي وأذاقتني عذابا لا ينسى''. ولا تزال نا طيطم تتذكر أسماء عدة شباب سقطوا شهداء من أجل الوطن؛ ومنهم حماداش بلقسام، ياهو وعلي، حانوتي محند أومحند وكذا الشهيد هطاك محمد الذي قالت أنه كان أول شاب سقط بالمنطقة برصاص الجيش الفرنسي، وغيرهم من أبناء أبويوسفن الذين استشهدوا من أجل الوطن. وذكرت أرملة الشهيد حمادي محمد السعيد، أنني بدأت في انهيار تدريجي، ولقد هزتني ضربة أخرى عندما سمعت بسقوط 12 شهيدا قتلتهم فرنسا بوحشية بسب وشاية، منهم المدعو بوحي سليمان، رابح أقرو، أمقران أقرو، أويدير وعمراى وغيرهم، حيث حفر المستعمر حفرة كبيرة ورماهم فيها ليطلق النار عليهم، فلقد سقطوا الواحد تلو الآخر ولا أحد يعرف مكانهم إلا صاحب الوشاية. وأضافت أنها كانت تتذكر المجاهدين الشباب الذين ملكتهم روح النضال والجهاد واختاروا الجبل على البقاء تحت رحمة دخيل يستعبده ويحرمه من حريته ومن أرضه، مشيرة إلى أنهم قرروا مواجهة دبابات فرنسا وقنابلها بالعصيوالحجارة، فمنهم القليل من يملك السلاح في ذلك الوقت، لكن العزيمة قهرت سياسة فرنسا الوحشية وأبرزت ثورة نوفمبر للعالم ككل عظمة الشعب الجزائري حتى وإن طالت فترة تواجد فرنسابالجزائر، لكن رحيلها كان قريبا وذلك كان اعتقاد كل جزائري حر.