أمام القطاع الفلاحي تحديان كبيران يتعلقان بجعل الفلاحة المحرك الحقيقي للنمو الإقتصادي مع المساهمة في تحسين الأمن الغذائي للبلاد وعليه بادرت الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال على إطلاق جملة من الإصلاحات الشاملة للنهوض بالقطاع الفلاحي على ضوء المتغيرات الإقتصادية التي عرفتها الساحة السياسية و الإقتصادية، وهو ما ضاعف الإنتاج الغذائي الإجمالي بثمان مرات منذ 1962 إلى 2012 الأمر الذي سمح بتغطية 70 بالمائة من طلبات السوق الوطنية. ويعد القطاع الزراعي العصب الحساس في إقتصاديات أي دولة بإعتباره القطاع الذي يؤثر و يتأثر بالقطاعات الأخرى بدرجة كبيرة، لذلك تحتل التنمية الزراعية مكانة متقدمة في سلم أولويات السياسات الإقتصادية نظراً لأهمية الزراعة كمصدر أساسي للغداء والمواد الأولية وكقطاع يستوعب نسبة عالية من العمالة، وعليه فإن القراءة في مختلف المراحل التي مر بها تطور القطاع الفلاحي بالجزائر منذ الإستقلال يعد ضرورة للإستيعاب الأحسن لضمان المستقبل وبناء سياسية فلاحية وريفية ناجعة تسمح برفع الرهان المحدد في توفير الأمن الغذائي.
التسيير الذاتي والثورة الزراعية ( 1962 / 1979 )
دفعت مغادرة المعمرين غداة الإستقلال بالحكومة الجزائرية في تلك الفترة إلى تركيز إهتمامها على المستثمرات الفلاحية الغنية من ناحية خصوبة الأراضي ومساحتاها الواسعة حيث سيطر أكثر من 22 ألف مستعمر فرنسي وأوربي على أكثر من 2 ,7 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة والتي تشكل خمس مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، فيما بقت الأربعة أخماس في عهدة 600 ألف فلاح جزائري أي بمعدل 20 هكتاراً لكل فلاح وهي من أراضي، ليتم توزيع هذه الأراضي الخصبة على مجموعة من الفلاحين ليسيروها كأجراء وفي سنة 1963 أصبحت نصف المزارع الشاغرة مسيرة ذاتيا ليتم شهر مارس من نفس السنة الإعلان عن تطبيق مرسوم التسيير الذاتي وبدأت عملية تأميم الأراضي الزراعية ليتم إنشاء « الهيئة الوطنية للإصلاح الزراعي « التي سهرت على إسترجاع 127 مزرعة على مساحة 200 ألف هكتار ليتم وضع جميع المزارع المسترجعة تحت تصرف التسيير الذاتي. أما بالنسبة لعدد العمال الذين كانوا مستخدمين في هذه المستثمرات فقد بلغ في تلك الفترة 150 ألف عامل ينشطون تحت غطاء 2300 لجنة تسيير تابعة للقطاع الإشتراكي.
وفي إطار إعادة تنظيم القطاع الإشتراكي سنة 1969 قامت السلطات بإستثمارات معتبرة من خلال طرح قواعد جديدة بالنسبة للنشاط الإقتصادي للبلاد، وهي القواعد التي فضلت الإعتماد على الموارد البترولية أكثر من الزراعة مما جعل الجزائر سنة 1970 تستورد ما يقارب ثلث حاجتها من الحبوب من الخارج و10 بالمائة من حاجتها من الحبوب الجافة و30 بالمائة من البيض و50 بالمائة من الحليب، بالمقابل بقي القطاع الفلاحي على طبيعته التقليدية تهيمن عليه الملكية الخاصة مصحوبة بتمركز للأراضي الخصبة في أيدي بعض الملاك حيث أن 3 بالمائة من المزارع تحتل 25 بالمائة من الأراضي المختصة في زراعة الحبوب، كما أن القطاع الفلاحي في تلك الفترة كان يعاني من إرتفاع سكان الأرياف وإنتشار البطالة مما دفع بالسكان إلى النزوح إتجاه المدن، وهو ما إصطلح على تسميته ب «نزوح الريفي» ، ليسرع الرئيس الراحل هواري بومدين لإطلاق مشروع الثورة الزراعية سنة 1971 تحت شعار «الأرض لمن يخدمها» بهدف ترقية حقيقية للفلاحة من خلال تجمع الفلاحين في تعاونيات الثورة الزراعية، مراقبة التموين والتسويق بفرض تعامل مع تعاونيات للتموين والتسويق بالإضافة إلى إنشاء قرى إشتراكية تجمع مستفيدي الثورة الزراعية .
أولى المشاورات الوطنية حول الفلاحة سنة 1992
لقد تم توزيع وسائل الإنتاج الزراعي على عدد كبير من الفلاحين في إطار الثورة الزراعية والتي كانت في شكل قروض و مواشي، وهو ما تم بعد تنصيب ما يعرف بالصندوق الوطني للثورة الزراعية الذي أخذ مهمة رصد كل الأراضي المستولى عليها والأراضي المتبرع بها والمؤممة، وفي عام 1973 تم توزيع أكثر من 650 إلف هكتار من الأراضي الخاصة على 60 ألف مزارع لا يملكون أراضي زراعية وهو ما ساهم في تشكيل التعاونيات الزراعية والتي بلغت 6 آلاف تعاونية تمتد على مليون و100 ألف هكتار، كما تم إنشاء 730 تعاونية فلاحية بإستثمارات مشتركة في سائل الإنتاج ويتحصل الفلاحون على أجور مسبقة إلى غاية ظهور نتائج الإستثمار. وقد كانت الأوضاع في سنة 1980 نتيجة السياسة الزراعية جد معقدة بعد تصاعد التبعية الغذائية للخارج وذلك رغم محكم القطاع العام في ثلث العتاد الفلاحي وأخصب الأراضي ولم يستطع إنتاج طلبات السوق ، ليتحول إهتمام الدولة إلى وضع قاعدة هيكلية مناسبة من خلال إنشاء سدود و تمديد شبكات توزيع الكهرباء، رفع الحواجز البيروقراطية التي كانت تعرقل نقل وتداول السلع، الزيادة في منح العتاد والمواد لكل القطاعات التي تنشط بالتنسيق مع القطاع الفلاحي، وفي العام 1984 صدر قانون إستصلاح الأراضي وحيازة الملكية الزراعية ليتم إعادة هيكلة أملاك الدولة بإنشاء 3400 مزرعة فلاحية إشتراكية متوسط مساحتها 800 هكتار، وفي عام 1987 صدر قانون المستثمرات الفلاحية حيث تم حل المزارع الفلاحية الإشتراكية وتوزيع ممتلكاتها على نحو 28 ألف مستثمرة فلاحية جماعية متوسط مساحتها 60 هكتارا، حيث يتراوح عدد المستفيدين في المستثمرة الواحدة مابين 3 و 6 أفراد، مع إحصاء 5 آلاف مستثمرة فلاحية فردية متوسط مساحتها يتراوح ما بين 8 و 9 هكتارات، وعام 1990 صدر قانون إعادة الأملاك المؤممة، حيث تم استرجاع 445 ألف هكتار كانت لدى 22 ألف مالك سابق بسبب الإهمال الذي سجل بها مما أدي إلى إنخفاض الإنتاج. و لتحقيق هذه الخطة تحولت تدريجيا وحدات القطاع العام إلى وحدات إقتصادية مستقلة ليتم سنة 1987 إنشاء الإستثمارات الزراعية الجماعية ، و هي وحدات نشأت نتيجة إعادة هيكلة الأراضي للقطاع العام بتقسيمها على جماعات من العمال تضم بين ثلاثة أشخاص فأكثر يكون لهم الحق الدائم في إستغلال الأراضي التي تمنح لهم ، وذلك بحرية تامة سواء في نشاطهم أو تعاملهم، وتعطي الدولة حق الإستغلال مقابل تسديد ثمن العتاد التقسيط الموجود سابقا في المستثمرات الجديدة و إذا كان للعمال حرية النشاط والتعامل فلهم أيضا حرية التموين وبيع الغلة دون أي تدخل إداري و هكذا أصبح القطاع العام ينافس القطاع الخاص. في سنة 1990 وبدخول البلاد نمطاً إقتصادياً جديداً جاء قانون التوجيه العقاري إستكمل هذا التطور بمنح ملكية المستثمرات الفلاحية لأعضائها ورد بعض الأراضي المؤممة إلى أصحابها وإلغاء قانون الثورة الزراعية ومنح الحرية التامة في التعامل الزراعي وتسويق المحاصيل. وكرد فعل للآثار والصدمات الناجمة عن السياسات أو الإصلاحات المتعاقبة نظمت مشاورات وطنية واسعة ضمت ممثلي عدد كبير من فاعلي القطاع وخبراء جامعيين سنة 1992 بغرض إعادة تشخيص القطاع طيلة 30 سنة الفارطة، مع إقتراح مقاربة جديدة لتنمية الإقتصاد الفلاحي، وإعتماد نموذج جديد للعلاقات الواجب إقامتها بين الإدارة وأصحاب المهنة في إطار التحول نحو السوق العالمية، وتبعا لتوصيات هذه المشاورات إتخذت الدولة عدة تدابير لإعادة تنظيم القطاع من خلال تنظيم مجموعة من الملتقيات الوطنية لمعالجة مواضيع محددة، خاصة تلك المتعلقة بإشكالية العقار الفلاحي ليتم سنة 1996 إنشاء الديوان الوطني للأراضي الفلاحية والذي لم يتم تنشيطه على أرض الميدان إلا سنة 2011.
استقرار، مصالحة وطنية و برامج استعجالية للنهوض بالقطاع (2000/ 2008)
بعد العودة التدريجية للأمن و الإستقرار تم غلق برنامج التعديل الهيكلي وإطلاق برنامج إنعاش طموح عبر المخطط الوطني للتنمية الفلاحية (2000/ 2004)، وهو الذي يندرج ضمن منطق جديد مشجع للمبادرة الخاصة ، حيث وجه الدعم للمستثمرات الفلاحية للرفع من مستويات الإنتاج لتحسين بصفة سريعة مساهمة القطاع الفلاحي في تلبية الإحتياجات الغذائية للبلاد ، بالمقابل سمحت المجهودات برفع حصة إستيراد وسائل الإنتاج، من جهتها واصلت الهيئات التقنية الإدارية عملها لتأطير وسائل الإرشاد و تكييفها مع الطلبات الجديدة للمنتجين، مما سمح بتوسيع مساحات الإنتاج وتسجيل إستقرار نسبي لمستوى الواردات الفلاحية.
وفي سنة 2002 تم توسيع المخطط الوطني للتنمية الفلاحية من خلال إدماج عالم الريف ليتم إطلاق البرنامج الوطني للتنمية الفلاحية و الريفية بمحاور إستراتيجية جديدة تخص إقامة شراكة محلية وإندماج متعدد القطاعات في الأقاليم، دعم تنفيذ النشاطات الإقتصادية المبدعة، تثمين متوازن وتسيير دائم لثروات الأقاليم ، الجمع بين الجانب الإقتصادي والإجتماعي و تنسيق الأعمال، وفي نفس السنة تم تعيين وزير منتدب للتنمية الريفية، وهي المرة الأولي التي يتم فيها تأسيس سلطة بهذا المستوى لوضع تصور وتنفيذ سياسة للتنمية الريفية، وإبتداء من سنة 2004 تقرر ترقية و إعادة إحياء المناطق الريفية عن طريق إطلاق العديد من النشاطات الإقتصادية وتثمين الموارد البشرية، مع الأخذ في الحسبان تنوع الوضعيات ونقاط القوة والقدرات الخاصة بكل إقليم . وفي سنة 2008 تم إلغاء منصب الوزير المنتدب لدمج مهامه مع وزير الفلاحة والتنمية الريفية وهو ما أضاف أسسا جديدة لتنسيق الجهود بين السياسات القطاعية المعلنة في السابق وتحقيق الإنسجام في كيفيات التنفيذ مع تنسيق الجهود، ليتم تعزيز كل الإجراءات بالمصادقة على قانون التوجه الفلاحي 08 /16 المؤرخ في 3 أوت 2008 الذي سطر محاور التنمية المستدامة للفلاحة وعالم الريف بصفة عامة، ليليه خطاب رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة شهر فيفري من سنة 2009 بولاية بسكرة والذي تم على ضوئه وضع أسس سياسة التجديد الفلاحي والريفي بعد توجيهات رئيس الجمهورية الذي حرص على ضرورة « تحويل قطاع الفلاحة إلى محرك حقيقي للنمو الإقتصادي الشامل، مع تكثيف الإنتاج في الفروع الزراعية الغذائية، من خلال إعتماد إستراتيجية لترقية تنمية مندمجة لكل الأقاليم الريفية». ويهدف برنامج التجديد الريفي إلى تحقيق تنمية منسجمة و متوازنة بين جميع الأقاليم من منطلق « لا توجد هناك تنمية بدون إندماج على المستوى القاعدي» ، وبعد بلوغ الأهداف الأولي للبرنامج تقرر تحديد القيم السنوية المرغوب الوصول إليها على الصعيد الوطني ، ليتم إعتماد صيغة عقود النجاعة سنة 2010 وهو ما سمح بتحسين النسبة السنوية لنمو الإنتاج الفلاحي الذي قفز من 6 بالمائة سنة 2000 إلى 9 بالمائة سنة 2010 ، مع تحسين ظروف معيشة سكان الريف من خلال إطلاق أكثر من 10 آلاف مشروع جواري للتنمية الريفية المندمجة ب 22 ألف منطقة ريفية ، وهو ما يمس 730 ألف أسرة مع تثمين 8 ملايين هكتار من الأراضي الفلاحية بالمناطق الجبلية والفضاءات السهبية والمناطق الصحراوية. من جهة أخرى وبغرض تشجيع الفلاحين على الرفع من طاقات الإنتاج تم إعتماد أنظمة تشجيعية لأحسن منتجي الحبوب من خلال رفع سقف المردود في الهكتار إلى 50 قنطار من القمح خلال فتح نادي للفلاحين الذين يرفعون هذا الرهان، ويتم تكريمهم بحضور وزير القطاع ليكونوا نموذجا لباقي الفلاحين ليحذروا حذوهم، بالمقابل تم حل إشكالية التمويل المالي بعد إقتراح ثلاثة أصناف من القروض « الرفيق» ، «التحدي» و«التعاضدي» وهو ما يسمح للفلاحين والموالين بتوفير السيولة المالية الكافية لتمويل مشاريعهم ، وهي قروض بدون فوائد لتتماشي وطلبات المهنيين. مع مطلع سنة 2011 تمكنت الوزارة من إعادة تفعيل نشاط الديوان الوطني للأراضي الفلاحية من خلال سن قانون الإمتياز الفلاحي الذي حل إشكالية العقار الفلاحي ، حيث يتم حاليا التوقيع على آلاف من دفاتر الشروط التي تسمح للفلاحين إستغلال الأراضي لتنويع إستثماراتهم على مدي 40 سنة، ولهم أحقية الدخول في شراكة مع أجانب للإستفادة من الخبرة الأجنبية و إنجاز سكناتهم الريفية، ويسمح لهم حق الإمتياز بتوريث الأرض أو التنازل عنها للديوان الذي يقوم هو الآخر بتأجيرها لمن يخدمها.