أول شيء يثير انتباه الزائر لمنطقة القبائل؛ الهندسة المعمارية القديمة التي بُنيت بها السكنات، والتي تسر الناظرين، فرغم مرور سنين على تشييدها وبفعل تعرضها لعوامل طبيعية عديدة، إلا أنها ما تزال صامدة، تأوي العائلات صيفا وشتاء. والجدير بالذكر أنه حتى وإن أُدخلت تعديلات على البناء بمنطقة القبائل، غير أن سكانها استطاعوا الجمع بين النمطين القديم والمعاصر، بوضع لمسة تُبقي ذلك الجمال وتلك الهندسة المعمارية خالدة. ٫الحجر،التراب وأغصان الأشجار أساس البناء القديم يعتمد سكان منطقة القبائل في بناء سكناتهم على مواد بسيطة ترتكز على التراب والحجر، حيث تُشيّد الجدران بسماكة معينة ويُعتمد على أغصان أشجار أشكير، الزيتون وآسين في تثبيت السقف، بوضع ما يسمى ب«أجقو” وهو غصن كبير يتوسط المنزل ويكون مرتفعا عن الغصنين الكبيرين الموضوعين على الأطراف، ثم تتبع الأغصان بوضع “أغانيم”، ليتم فيما بعد خلط التراب بالماء ليُضاف فوقه، بغية تثبيته وتسهيل المرحلة الأخيرة في تشييد المنزل، والتي تتمثل في وضع القرميد، وبهذا الشكل يتم إنهاء البيت في شكله الكلي، لكن تبقى رتوشات معينة يخضع لها من الداخل، حيث يتم بناء ما يسمى ب«ثكنة”، أي غرفة صغيرة، باستعمال الأغصان والخشب، ويتم بناء الجدران مع تخصيص نافذة صغيرة عليها، حيث تخصص هذه الغرفة للنوم ويتم استغلال أسفلها أو”ثكنة” كإسطبل للحيوانات أو ما يسمى ب«اداينين”. ويقول عمي مقران، من قرية تاقونيتس “بلدية آيت يحي”، إن البناء القديم كان له ميزة خاصة، حيث ينجز باستعمال مواد محلية، فرغم العوامل الطبيعية التي يتعرض لها، يبقى واقفا وصامدا، ورغم قدمه ومرور السنين عليه، يدوم استغلاله، شرط إجراء بعض التعديلات والأشغال البسيطة التي تضمن نظافته والإقامة به، عكس السكنات الحديثة التي تتطلب أموالا كبيرة لإعادة تهيئة مسكن ب3 غرف مثلا. وأضاف أنه عندما ينوي سكان القرية بناء منزل، يقوم بإعلام الجميع في”تاجمعت نتادرث”، حيث يحضر الجميع لتلقي دعوة المشاركة في عملية البناء، وبالتالي يتجند الكبير والصغير بالقرية لتقديم ما بوسعه في سبيل تشييد هذا المسكن، مشيرا إلى أن الحياة في القديم كان لها نكهة خاصة في شتى المجالات، ليس فقط في عملية البناء، وإنما في جميع الأمور التي كانت القرى تختص بها عن المدن. ويضيف عمي ابراهيم أن المنزل القبائلي القديم يحمل عدة دلالات اجتماعية، حيث تحرص العائلة على أن يكون بابه مقابلا أو موجها للجهة الشرقية، أي من ناحية شروق الشمس، لضمان تدفئته، كما أن وضع ما يسمى ب«أمنار تبورث” الذي ينجز عند مدخل المنزل، رمز للحماية والسلامة ويعدّ نقطة أو حدا يفصل خصوصية الأسرة عن العالم الخارجي، كما يرمز العمود الموضوع عند الباب للقوة، المروءة، ووجود رب البيت، حيث يضرب المثل إلى غاية اليوم عن ذلك العمود بأسماء رجال الأسرة، ومن تخطى ذلك العمود من غير إذن، فكأنه تعدى على حرمة صاحب المنزل، والفرد من الأسرة إذا خرج وتجاوز العمود، فكأنه خرج عن طاعة رب العائلة، بينما يدل بقاؤه على امتثاله للأوامر واحترمها. أكوفان، تيكواثين وتعريشث أهم ما يميز المنزل القبائلي يتميز المنزل القبائلي القديم أيضا بإقامة ما يسمى ب«اكوفان”، وهي عبارة عن براميل طويلة وعريضة مصنوعة من الفخار، تُستغّل في تخزين الخضر الجافة، التين الجاف، القمح والشعير وغيرها، حيث تحوي في الجهة العليا على فتحة كبيرة، يتم من خلالها ملء “اكوفان” بالخضر الجافة، وفي أسفلها توضع فتحة صغيرة، حيث من خلالها يتم التزود بتلك الخضر بالكميات التي تحتاج لها ربة البيت، لاستغلالها في تحضير الأطباق. وأوضحت “نا جقجيقة” من قرية تاقونيتس، وجود ما يسمى بتيكواثين في هذه المنازل، حيث تنجز في طرف مخصص كمطبخ، كما يقوم صاحب المنزل بإنجاز ما يسمى ب«سرير” الذي يرتفع عن الأرض بحوالي متر واحد، وهو عبارة عن عتبة أو أرضية يُنجز أسفلها ما يسمى ب«تيكواثين” التي تستغل في وضع أواني الطبخ، فيما يُستغل ما يسمى ب«سرير” لوضع الأكل، العجن وفتل الكسكس فوقه بدل الجلوس على الأرض. ويتم تدعيم هذا المطبخ ب«تعريشت” التي تنجز على الجدران، وتحديدا فوق “تيكواثين”، باستعمال الخشب، حيث توضع عليها الأواني المنزلية. كما تضم هذه الجهة من المنزل ما يسمى ب “الكانون”، وهو عبارة عن حفرة صغيرة تُوقد فيها النار بالأغصان وتستغل في الطهي، كما يعتبر مصدرا للتدفئة في فصل الشتاء. وأضافت المتحدثة في سياق متصل، أن حلاوة الحياة في القرى كانت نابعة من اجتماع العائلة حول هذا “الكانون”، خاصة في أيام البرد الشديد، حيث تنهمك الجدة أو الجد في سرد حكايات شعبية قديمة، في جو حميمي مملوء بالدفء العائلي، يسوده الضحك، الحب والحنان، وكان الأفراد يأكلون في طبق واحد وهو ما يسمى ب “ثربوث”، مشيرة إلى أن اعتماد هذه الطريقة في الأكل ليس مرده نقص الأواني، وإنما لغرس روح المحبة وتمتين العلاقة بين أبناء العائلة الواحدة، وبالتالي تحقيق التفاهم والمحبة بينهم. ثومليت وأشكال هندسية لتزيين المنزل تتميز المنازل القديمة بقرى منطقة القبائل، بمحتواها الذي لا تشبع العين من رؤيته، حيث أن منزلا صغيرا يضم “ثكنة”، “تعريشت”، “تيكواثين”، “اداينين” و«اكوفان”، تترعرع في كنفه عائلة تضم إلى غاية 15 فردا يسودهم الحب والأخوة، وما يزيد هذا البيت جمالا؛ الأشكال الهندسية الجميلة المجسدة على جدرانه والتي تتفنن المرأة في وضعها بألوان مستوحاة من الطبيعة، والتي تبدو كتحفة أو إطار مزركش أو حتى متحف مفتوح على الطبيعة يجسد كل ملامح حياة سكان منطقة القبائل، في صورة واحدة يجمعها منزل واحد، حيث نجد أشكالا هندسية تعبر عن حياة السكان ومعاناة المرأة، فمنها ما يرمز للشمس، القمر، عادات المنطقة وغيرها، والتي لا يفهمها إلا مجسّدها أو من يعرف ويفهم معاني تلك الأشكال. وكانت المنازل قديما يقول عمي واعمر تضمن التدفئة للقاطنين بها في أيام الشتاء، والبرودة صيفا، بفعل سماكة جدرانه التي تمنع دخول الحرارة إليها، لذلك حرص السكان على تشييد منازلهم بجدران سميكة. وتشير زوجته نّا يمنية؛ بعد مرور فصل الشتاء، تستعد النساء لتنظيف المنزل من الدخان الذي يغيّر من لون المنزل بسبب التدفئة، حيث يصبح لونه بعد خروج فصل الشتاء أسودا، ويتم تنظيفه بواسطة ما يسمى ب«ثوميلت”، ليس بالماء كما هو الحال الآن، وإنما بواسطة نوع من التربة التي تجلب من الحقول، وتحديدا من أماكن توجد بها المياه، تسمى ب«اغزران”، حيث تتفق النساء على التوجه إلى الحقل الذي يتوفر على تلك التربة، لاقتناء كميات معتبرة منه، ويبقى إلى غاية اليوم الموالي، ثم عن طريق نبتة تسمى “ امزير”، يتم تشكيل مكنسة أوما يسمى ب« أمصياح” ليتم تنظيف البيت، وذلك بعد إخراج أثاث المنزل، يسمي سكان المنطقة هذه الطريقة ب«اجقر بخام”، بمعنى وضع هذه المادة على الجدران والسقف لإزالة الغبار، وكذا اللون الأسود الموجود على السقف والمنجر عن التدفئة بالأغصان. ويخصص سكان القرى فصل الصيف كوقت مناسب لتنظيف المنازل، حيث تكون الجدران دافئة بإمكانها امتصاص تلك المادة، وبالتالي الجفاف بسرعة. وتضيف “نايمينة” في هذا السياق، أن رائحة “تومليت” زكية وعطرة تطرد كل الروائح المزعجة من المنزل وحتى الحشرات. البناء القبائلي، بين القديم والعصري طرأت على البناء حاليا عدة تغيّرات، ويتجلى ذلك في الهندسات التي يتفنن فيها المهندسون المعماريون؛ من حيث عدد الطوابق وكيفية تقسيم البيت ومحتواه، لكن وبالرغم من ذلك، يحافظ سكان منطقة القبائل على جزء من البناء القديم ويقحمونه في بناياتهم العصرية، لاسيما حرصهم على بناء “أمنار تبورث”، وضع القرميد وكذا إطلالة المنزل ومواجهتها لأشعة الشمس وغيرها. غير أنها فقدت في ذلك عنصرا هاما يتمثل في لم شمل العائلة تحت سقف واحد في القديم، بينما أصبح، حاليا، لكل منهم منزلا خاصا به وبابا خاصا. وبعيد عن هذا وذاك، تبقى القرى بمنطقة القبائل وبالرغم من إدخال هندسات البناء العصري محافظة على صورتها التي تجعلها تبدو لكل غريب عنها لا يضيع، بل يجد نفسه بين أحضانها يلمس ذلك الجمال ،الحنان، الإخوة والمحبة التي تسود سكان أهل القرية، وكذا حرصهم على العمل في جماعات، لاسيما ما تعلق بالمساعدة وإحياء العادات، فالزائر لقرية آث القايد، حتما، سيلمس ذلك رغم قدمها وهجر السكان لها بحثا عن ظروف معيشية أحسن، إلا أن أصحابها فضلوا إبقاء هذه السكنات على حالها قبلة للزوار والسياح وعدم هدمها، ولقد برمجت مديرية الثقافة لتيزي وزو أشغال إعادة تهيئة القرية الجميلة التي تتربع على مرتفعات بلدية أقني قغران المطلة على جبال جرجرة الشامخة، كما أنها صنفت ضمن التراث الوطني كمعلم تاريخي أثاري.