اليوم وأنا أضع نقطة النهاية لمجموعة قصصية تتكون من سبع عشرة قصة استغرقت مني ثلاثة أشهر، استذكرت ما قاله الروائي الأمريكي ”إرنست همنغواي” في شأن الكتابة. فلقد كشف في تصريح أدبي له في الثلاثينات من القرن المنصرم أنه كتب ثلاث قصص قصيرة في يوم واحد، وقد أوشك أن يصاب بصدمة عصبية بحكم ما بذله من جهد فكري وجمالي ولغوي. وعلى إثر ذلك، وجد نفسه مجبرا على التقيد ببرنامج عمله اليومي، أي ذلك الذي له علاقة بالكتابة أساسا. وقال في هذا الشأن إنه يستيقظ في الصباح الباكر، ولا يفوته فجر يوم واحد في حياته. وقال أيضا إنه يفضل بعد الفراغ من عمله الأدبي أن يشرب وينطلق للصيد في البر والبحر ويدخل حلبات الملاكمة ومصارعة الثيران ويعاشر أولئك الذين لا يسألونه عن الكتابة الأدبية أصلا لأنه يريد أن ينسى كل شيء على سبيل الاستعداد لمواجهة يوم جديد مع الاحتفاظ بما يشبه قاعدة انطلاق لخوض معركة الكتابة. وبالفعل، كان يترك عمله الأدبي ”مفتوحا” على حد تعبيره، بمعنى أنه لا يكتب كل شيء يخطر على باله ووجدانه، بل يترك ما يشبه الفسحة التي تمكنه من معاودة الانطلاق إذا ما جلس إلى الطاولة في صباح اليوم التالي. واستذكرت أيضا ما قاله الدكتور طه حسين لزميله توفيق الحكيم حين أرسل إليه يخبره بأنه تناول طعام الغداء وانطلق في الكتابة مباشرة. لم يعجب ذلك التصريح طه حسين، فقال له بالحرف الواحد: إننا نستلقى بعض الوقت عندما نتناول طعام الغداء لأن معدتنا في حاجة إلى أن تهضم ما ابتلعته من مأكولات! لا هذا ولا ذاك! الكتابة عند البعض ترف حضاري، وعند البعض الآخر، مشقة وعناء، وعند أقوام آخرين، عبادة خالصة، وهكذا دواليك. وأنا، مع تواضعي في هذا الشأن، لست ”همنغواي” ولا توفيق الحكيم ولا طه حسين ولا أي كاتب آخر. لذلك، أراني أضبط ساعتي البيولوجية وفقا لما أتطلع إليه في هذه الحياة، ومن ثم، وفقا لمقتضيات التعبير الأدبي. لا أعتقد أن الكتابة قد تدفعني على حافة الصدمة العصبية، ولا هي تتطلب مني أن أستريح في وقت محدد. أنا دائما وأبدا في كتابة. أتحدث إلى الناس وأنا أكتب. أقرأ وأنا أكتب. أتفرج على فيلم وأنا أكتب. وأسير في المدينة أو على شاطئ البحر وأنا أكتب. ومعنى ذلك أنني لا أعرف ما الراحة ولا ما التوقف للاستراحة. وقد يحدث لي أن أكتب وأنا نائم، أجل، وأنا نائم. كما يحدث لي أن أقوم في قلب الليل على إثر حلم مفاجئ أو رؤيا جيدة، وأنطلق في التدوين حتى لا يضيع مني أي شيء. الكتابة في نظري مثل الفراشة التي أتركها تحوم على هواها ولا أريد أن أمسك بها في راحة يدي حتى لا تتلاشى ولا يبقى منها سوى بعض الألوان الباهتة. ولهذه الأسباب كلها، تعجبني مواقف الأدباء وتصريحاتهم بخصوص كل ما يدور في عالم الكتابة والتعبير الأدبي منذ ”هوميروس” إلى أيامنا هذه. كنت أتمنى أن أعرف حق المعرفة طريقة أبي العلاء المعري في التعبير عن خوالج نفسه. متى يأتيه الوحي، إن صح التعبير، أو، متى يهبط عليه شيطان الشعر. وكنت أود أن أعرف كيف كان أبو الطيب المتنبي ينهمك في النظم. أفي الليل أم في النهار؟ عند الفجر أم حين يجن الليل؟ وكم كنت أرغب في أن أعرف الطريق التي يسلكها طه حسين حين يفكر في الموضوع الذي يريد طرحه على الورق. متى، وكيف، وهل يزعجه أن يملي ما يريد إملاءه على سكرتيرته أو على زوجته؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تدور في محيط الكتابة والتعبير الأدبي عموما. أنجزت سبع عشرة قصة قصيرة في ظرف ثلاثة أشهر، وأحسب أنها أول مرة أكتب فيها مثل هذا الحجم من القصص. وفوق ذلك، ما زلت أشعر بأنني لم أمتلئ بما فيه الكفاية، ولم أفرغ ما في جعبتي كلية. إذ، لا بد من تطويع هذا الجواد الجموح في أعماق أعماقي، وأعني به جواد الكتابة أولا وأخيرا. وعليه، فأنا لست همنغواي ولا يمكنني أن أشارف الجنون، ولست طه حسين فألقي ثيابي بعد الظهيرة!