هي بيروت الصوت والصدى. وصلتها ليلة العشرين من دسمبر 2010 على الساعة العاشرة ليلا قادما من الجزائر عبر القاهرة. مطار رفيق الحريري في حركة مستمرة دؤوبة، مطاعم ومقاه ودكاكين مفتوحة ليلا ونهارا، ناس وابتسامات وحب للحياة وللبلد، أقول دائما: المطارات هي بوابة البلد، هي بطاقتها البريدية الصادقة والحية. * وإذا كان هذا هو شأن وحال مطار بيروت الدولي فمطار الجزائر الدولي هواري بومدين الذي غادرته هذا الصباح، كان مطفئا، أردت أن أقتني بعض علب تمر دڤلة نور فوجدت المحل مغلقا، المطارات بطاقة بريدية للبلد، وبطاقتنا مطفأة!!! * اليوم التالي من وصولي إلى بيروت، كان مخصصا لحضور الاجتماع الدوري التقييمي الخاص بالصندوق العربي للثقافة والفنون والذي أنا عضو في مجلس أمنائه والذي يرأسه الدكتور غسان سلامة الوزير اللبناني للثقافة سابقا، وعلى مدى يوم كامل، استعرضنا نتائج لجان التحكيم، وتناقشنا حول المشاريع التي حظيت بالدعم في مجالات المسرح والأدب والسينما والورش التكوينية والفنون البصرية والموسيقى، ووافقنا على القوائم النهائية وعلى قيمة الدعم المقدمة لكل مشروع، كما تمت الموافقة على نقل مقر الصندوق العربي من عمان بالأردن إلى بيروت. وللأسف، في مثل هذه المنابر، وكما العادة هناك غياب شبه تام لمشاريع مثقفي بلادي، مع ذلك فقد حرصنا على أن ندعم مشروعا ثقافيا قدمته جمعية حماية الطفولة بخنشلة وكذا مشروعا قدمه أحد مثقفي جاليتنا بفرنسا في باب السينما. صبيحة اليوم التالي كان لنا لقاء مع الصحافة اللبنانية والدولية للإعلان الرسمي عن النتائج ولشرح أهداف واستراتيجية الصندوق لدعم الثقافة والإبداع في العالم العربي. * على هامش الاجتماع وحول فنجان قهوة، في زاوية من صالون فندق مونرو الذي لا يبعد سوى بعض أمتار عن المكان الذي تم فيه تفجير سيارة رئيس الوزراء رفيق الحريري، حيث أقيم له تمثال للذكرى، كان الحديث بيني وبين الناقد المغربي الدكتور محمد برادة الذي هو أيضا عضو مجلس الأمناء للصندوق العربي للثقافة والفنون، حول سؤال الساعة: ملابسات "جائزة البوكر العربية" وتوقعات كل واحد منا عن الاسم الذي سيكلل بها، ففي الوقت الذي كان محمد برادة قد أثنى كثيرا على رواية "القوس والفراشة" للشاعر والوزير المغربي السابق للثقافة محمد الأشعري، والتي اعتبرها نصا مكتوبا بإتقان وبذكاء وإبداعية إلا أنه رجح اسم الروائي السوداني أمير تاج السر للفوز بالجائزة في هذه الدورة. لم نختلف، وربما لأسباب كثيرة أدبية وإقليمية، حول حظ اسم صديقي الروائي والطبيب أمير تاج السر لإمكانية الفوز بها، ولكن إحساسي لم يستبعد رواية "معذبتي" للأديب الوزير المغربي الحالي للثقافة الدكتور بنسالم حميش، وهي الرواية التي لم تعجب كثيرا محمد برادة، مع كل ذلك تهانينا للفائز. وكما كنت قد وعدت الناقد محمد برادة في لقائنا بعمان شهر نوفمبر 2010 فقد أحضرت له مجموعة من الروايات الجزائرية المكتوبة بالعربية لأسماء جادة ومجتهدة تم طمسها من جراء تلميع أسماء اهترأت ولم تعد تثير أي بريق أدبي، فقد أحضرت له معي الروايات التالية: "دمية النار" لبشير مفتي و"هلابيل" لسمير قسيمي و"لاروكاد" لعيسى شريط و"فصوص التيه" لعبد الوهاب بن منصور و"لعاب المحبرة" لسارة حيدر و"جبل نابليون الحزين" لشرف الدين شكري و"حروف الضباب" للخير شوار و"هوس" لحميدة العياشي و"سيد الخراب" لكمال قرور تحدثنا مطولا عن أسماء أدبية مغاربية من الجيل الجديد التي بدأت تحقق كتابة جديدة وتحدثنا عن عطب توزيع الكتاب الثقافي والأدبي بين بلدان المغرب العربي، وكذا عن تقلص العلاقات الثقافية ما بين الجزائر والمغرب من خلال تراجع فاعلية اتحاد الكتاب في البلدين وتحدثنا عن فكرة اتحاد كتاب المغرب العربي التي كانت من بنات أفكار مولود معمري وعزيز الحبابي. * حين عدت إلى غرفتي رقم 609 بفندق مومنرو وجدت رسالة مسجلة في هاتف الغرفة، من الصديق الشاعر عباس بيضون، سعدت كثيرا لتعافيه وعودته لنشاطه الإبداعي والصحفي. على الساعة الثامنة مساء صحبة الثنائي الرائع الصحفية والفنانة المثقفة سحر طه وزوجها سعيد طه الصحفي والمشرف على القسم الفني بتلفزيون المستقبل التحقنا بالمسرحي المبدع جواد الأسدي والشاعر الكبير قاسم حداد اللذين كانا ينتظرانني بمطعم وسط شارع الحمراء. كانت لحظة اللقاء قوية، فجواد الأسدي لم ألتق به منذ محاضرته بالمكتبة الوطنية كان ذلك سنة 2006، ومنذ ذلك الوقت فقد فقد أمه التي سبق لي أن رأيتها ذات مرة واحدة في أبو ظبي حيث كان يقيم جواد الذي تآكل في بلدان المنافي، تآكل ولكنه لم يغير موقفا ولم يتنازل عن رأيه وعن حريته. وكانت ملامح السعادة تشع من عيني الشاعر قاسم حداد، هو الآخر لم أشاهده منذ ليلة الشعر العربي التي خصصناها لشعراء البحرين بالمكتبة الوطنية بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007، وقد خلفت قراءته كثيرا من الإعجاب لدى محبي الشعر العربي، وقد قرأت إلى جانبه في تلك الليلة الشعرية الشاعرة المتميزة والإعلامية المبدعة بروين حبيب. * جواد الأسدي كاتب ياسين وعلولة: * تحدثنا طويلا في هموم الثقافة والإبداع، استعدنا جواد وأنا تجربته في إخراج مسرحية "بيت برناردا دي ألبا" للوركا والتي اشتغلت فيها مساعدا له، والتي أنجزت وقدمت في فرنسا بمسرح الأبرا بمدينة كائن بنورمانديا، كان انجاز المسرحية عبارة عن ورشة لممثلي وطلاب المسرح في هذه المدينة، كان عرضا جميلا أثار كثيرا من النقاش بين المتخصصين، ثم تحدثنا عن المشروع الذي لم يتحقق والذي لا يزال يسكن قلب جواد الأسدي ويراود فكره، والمتمثل في إخراج نص "نجمة" لكاتب ياسين. لقد فشل المشروع بعد خلاف بينه وبين السيدة زبيدة زوجة كاتب ياسين، كان ذلك سنة 1999 بباريس، إذ كانت رؤية جواد الأسدي الإخراجية شاملة وفلسفية تأخذ بعين الاعتبار تجربة كاتب ياسين كمبدع تتداخل نصوصه، لذا فقد كان مفهومه للعمل هو الاعتماد على نصوص متقاطعة لياسين وبناء نص مسرحي جديد، لكن السيدة زبيدة كانت حنبلية لا تريد للمخرج أن يستأنس بنصوص أخرى، ووقع الخلاف واحتد، وحاولت وقتها إصلاح ذات البين بينهما لكن الخلاف كان فلسفيا فلم يستطع جواد الأسدي تحقيق ذلك. * وتحدث جواد الأسدي عن تجربة مسرحه بابل الذي أسسه من ماله، في شارع الحمراء ببيروت، وعن النشاط الذي يقوم به، وعن دور الثقافة المقاومة في وجه هذا الاستهلاك الذي بدأ يجيء على كل بصيص ممانعة إبداعية. تحدث جواد الأسدي بكثير من الألم عن حال العراق ومحاصرة الظلاميين هناك لكل فكر متنور أو إبداع حداثي حر. ثم جاء الحديث عن عبد القادر علولة الذي استقبله في منتصف الثمانينيات بالمسرح الجهوي بوهران لتقديم مسرحية "خيوط من فضة". ثم تطارحنا معا فكرة إمكانية إقامة مؤتمر تكريمي لعبد القادر علولة بمسرح بابل ببيروت. وتركنا الفكرة للإنضاج والتنظيم. * طرفة بن العبد في شارع الحمراء: * الليل في أوله، وإذا بالشاعر قاسم حداد صاحب "مجنون ليلى" و"قبر قاسم"، بهدوئه الملائكي وعمق نظراته الطفولية، يتحدث عن حكاية اسمه: "قاسم حداد"، كيف جاءت كتابته بهذه الطريقة قائلا: لقد أسقطت من اسمي الحقيقي الذي هو "الحداد"، "الألف واللام" وذلك تشبها وتيمنا بالشاعر الجزائري مالك حداد الذي أعجبت بديوانه "الشقاء في خطر"، فمنذ قرأت الديوان في بداية السبعينيات مترجما إلى العربية من قبل ملكة ابيض عيسى، بدأت أوقع كتاباتي الأولى ب "حداد" وهكذا كلما كتبت اسمي تذكرت مالك حداد، ثم انتقل للحديث عن معاناته ولهفه مع آخر كتاباته، وهو كتاب أنجزه في أزيد من خمسمائة صفحة عن الشاعر الجاهلي "طرفة بن العبد"، وقد سمى الكتاب "طرفة بن وردة" بدلا من "طرفة بن العبد" لأن أم الشاعر كانت تدعى "وردة". كان يتحدث عن تجربته مع طرفة بن العبد وكأنه يتحدث عن صديق التقاه قبل ساعات في المنامة أو في باريس أو في دمشق، كان محموما بتجربة الشاعر القتيل، غارقا فيها وسعيدا بها وفيها، كان يتحدث بدهشة جميلة وعالمة عن هذا الشاعر الجاهلي صاحب المعلقة التي مطلعها: "لخولة أطلال ببرقة ثهمد ** تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد" والذي مات وهو في الخامسة والعشرين من العمر، شاعر لا يشبه الشعراء الآخرين. شاعر بأنفة وفلسفة ونص وتمرد وجنون. كان طرفة في تجربته الحياتية الشهوانية والحسية والفلسفية والشعرية شبيها إلى حد كبير بالشاعر الفرنسي رامبو، كنت أشعر بفخر قاسم حداد وهو يكتب عن شاعر كبير ومتميز ينزل من بلده البحرين، كان قاسم يتحدث عن طرفة بن العبد أو ابن الوردة كما يحلو له أن يسميه وهو في حالة تشبه التصوف والحلولية. كان سعيدا بإنجازه لهذا الكتاب بقدر سعادته في إنجاز كتاب "مجنون ليلى" الذي أعتبره شخصيا واحدا من أهم ما كتبه العرب في الخمسين سنة الأخيرة، قلت لقاسم أتعرف أنني أول ما تعرفت على طرفة بن العبد كان من خلال محاضرة قدمها لنا البروفيسور المستعرب أندري ميكال بجامعة وهران، كان ذلك في نهاية السبعينيات، وأذكر أن المحاضر قال لنا: إننا إذا ما ترجمنا شعر طرفة بن العبد إلى الفرنسية أو الإنجليزية ستكون قصائده ذات قيمة حداثية لا تقل عن قيمة شعر أكبر شعراء المعاصرة في القرن العشرين. * الساعة أشرفت على منتصف الليل، وبيروت خارج المطعم في كامل حركيتها، الشوارع بكل وهجها والمحلات مفتوحة، والناس وسط الحياة، كان علينا أن نقص ثرثرتنا الثقافية فأنا على سفر إلى باريس وموعد الرحلة الساعة الثانية ليلا، بحزن أو بحلم كان علينا أن نغادر المطعم، وأن نترك طرفة بن العبد أو ابن الوردة في صحبة كاتب ياسين ولوركا ومجنون ليلى، أن نترك الجميع في شارع الحمراء قبالة مسرح بابل، وننطلق إلى فندق مونرو حيث ينتظرني السائق ليوصلني إلى المطار، ونحن نجتاز شارع الحمراء توقفنا بعض ثوان أمام واجهة مسرح بابل لجواد الأسدي كان المسرح متمسكا بقوة الفن ومقاومة تجار الثقافة الرخيصة.