أكدت الندوة الدولية لتضامن المجتمع المدني لبلدان الساحل مع الشعب المالي، التي تحتضنها الجزائر منذ أول أمس، فشل الخيار العسكري في حل الأزمة بهذا البلد، ليعود الحل السياسي الذي طالما دعت إليه الجزائر كخيار استراتيجي في مداخلات المشاركين لا سيما من قبل الماليين، الذين أدركوا خطورة الأوضاع في بلدهم وعدم جدوى التدخل العسكري الذي ستكون عواقبه وخيمة على المدى البعيد. وفيما يشبه نداء الاستغاثة، دق الماليون المشاركون في هذه الندوة ناقوس الخطر إزاء الأوضاع التي يعرفها بلدهم، من خلال تدخل عسكري ارتكز على المصلحة الاقتصادية المحضة، دون إيلاء الاهتمام للجانب الإنساني الذي يعرف تدهورا كبيرا، رغم محاولات الإيهام بأن التدخل الفرنسي قد حقق جل أهدافه بمحاربة جماعات مسلحة ”مشكوك” في أمرها لكونها لا تمثل السكان الماليين. وباحتضان الجزائر لهذه الندوة، تكون قد فوتت الفرصة على المشككين في موقفها إزاء معالجة هذه الأزمة، من خلال حرصها على تفادي إراقة الدماء وعدم تكرار تجارب دول الجوار وبتشجيع الحوار السياسي بين كافة الأطراف المتنازعة في هذا البلد ومن ثم إزاحة الغطاء عن الأسباب المفتعلة من أجل فرض الفوضى وخلط الأوراق وإدامة التناحر بين أطياف الشعب المالي. وقد أبدى ممثلو المجتمع المدني بمالي وعيا بالمخاطر المحدقة ببلدهم وأيدوا الطرح الجزائري في معالجة الوضع، وهو ما تجلى في إشادتهم بمواقف الجزائر التي تحمل رؤية جدية وواقعية في التعاطي مع الأزمة، إذ أجمعوا على أنها -أي الجزائر- تبقى مفتاح حلها لكونها ساعدت هذا البلد في أصعب المراحل وفي شتى المجالات. ولعل هذه الندوة تمثل تأكيدا لهذا الدعم مثلما أقرته بذلك رئيسة الجمعية الجهوية للنساء من أجل التربية والسلام في غاو، توري فطومة، التي أشارت إلى أن حضور كل التيارات المالية خلال هذه الندوة يعد في حد ذاته نجاحا ويشجع في المستقبل على اتباع هذا الأسلوب من أجل تكريس الحوار بمالي. في حين ذهبت وزيرة الثقافة السابقة، اميناتا درامان تراوري، إلى اعتبار ندوة الجزائر أهم من ندوة الدول المانحة لمالي التي احتضنتها بروكسل شهر ماي الماضي والتي تم خلالها تخصيص 4 ملايير أورو لبلدها وهو ما يشكل –حسبها- بداية المديونية. كما أن الأهمية التي تمثلها ندوة الجزائر تتمثل في كونها خصصت للماليين أنفسهم بالدرجة الأولى، حيث شكلت مناسبة لتشخيص الواقع بكافة أبعاده، بالاتفاق على أن الحل الأمني لم يزد إلا في تعقيد الأمور على ضوء جماعات مسلحة تتبنى القضية ولا دخل لها في الشأن المالي. وقدموا في هذا الصدد مثالا عن الحركة الوطنية لتحرير الازواد التي يعتبرها الماليون دخيلة عن مجتمعهم لكونها تعمل وفق أجندة تكرس الانقسام وهي الرؤية التي تبناها رئيس المجلس الأعلى الإسلامي المالي محمد ديكو، مشيرا إلى أن كل الحلول التي وضعت لحد الآن لم تكن لها التأثيرات المنتظرة وأن الحوار يبقى الطريق السلمي الوحيد لكل أبناء مالي من أجل استقرار حقيقي للبلد”. في حين ذهب رئيس المجلس الإقليمي لكيدال، هومني ب.مايغا، إلى التأكيد على أن ندوة الجزائر ”تظهر أنه من الممكن الحديث في إطار مدني من أجل الخروج بقرارات يمكن أن تجلب الرفاهية لجميع السكان المحليين لمالي”. وفي الحين الذي أبدى فيه المشاركون الاهتمام بالاستفادة من تجربة بلادنا التي خاضت حربا تحريرية وكفاحا ضد الجماعات الإرهابية خلال العشرية الماضية، فإن الجزائر من جهتها أكدت دعمها لإيجاد أي حل سلمي بين الأطراف المالية، مشيرة إلى أن الخيار السياسي يظل قائما رغم التدخل العسكري الفرنسي. وبدا أن ممثلي المجتمع المدني المالي قد اقتنعوا حقا بفكرة الحوار السياسي بدعوتهم إلى إشراكهم في تقديم أفكار ومقترحات لتسوية الأزمة، وبإشراك دول الجوار أيضا كون هذه الأزمة لها انعكاسات سلبية على المنطقة ككل في حال ما إذا لم يتم تشريح الوضع بكافة أبعاده في ظل نظام اقتصادي عالمي أثبت فشله في تجاوز الأزمة التي تعصف بالعديد من البلدان، من خلال تشجيع الحرب بالوكالة في بعض الدول. ولطالما نبهت الجزائر إلى مخاطر غياب هذا الحوار، في وقت وجه لها اللوم بسبب صمتها في التعاطي مع هذه الأزمة وفق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مع حرصها على تشجيع الحوار وإيجاد حلول سلمية بين الماليين أنفسهم للخروج من أزمتهم، مع عدم التقصير في مد يد العون باعتبار أن الجزائر تمثل العمق الاستراتيجي في المنطقة ككل. وتتمثل المقاربة الجزائرية في معالجة أزمة مالي في ثلاث نقاط، الأولى أن يكون للماليين دور محوري في البحث عن حلول لمشاكلهم والثانية أن تتفق الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي على أجندة واحدة ومسار أوحد لجهودهم، يأخذ بعين الاعتبار إرادة الماليين وصلاحيات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وكذا مصالح الأمن الوطني لدول الميدان المجاورة لمالي (الجزائر والنيجر وموريتانيا). مع الأخذ في الحسبان مسؤوليات الإشراف والتنسيق المنوطة بالاتحاد الإفريقي في مجال الحفاظ على السلم والأمن والدعم المنتظر من الأممالمتحدة. أما بخصوص النقطة الثالثة فتتلخص في ضرورة التوصل إلى حل سياسي تفاوضي لتفادي أي انزلاق يجر معه الأطراف التي تنبذ بشكل صريح الإرهاب والجريمة الدولية المنظمة وترفض أي مساس بالسلامة الترابية لمالي. ومن باب التذكير بمساعي الدبلوماسية الجزائرية في حل مشاكل هذا البلد فإن بلادنا سبق لها وأن رعت اتفاق الجزائر الموقع سنة 2006 بين الحكومة المالية ومتمردي الطوارق في شمال مالي والذي يتضمن حلولا للمشاكل المطروحة بين طوارق مالي والحكومة، قبل أن تعصف به التطورات الأخيرة في هذا البلد بسبب عدم الالتزام به. وإذ لم تستبعد الجزائر في عدة مرات تأييدها للحل العسكري إن كان القصد منه محاربة الإرهاب والتنظيمات الإجرامية المتورطة في تجارة المخدرات، فإنها ترفض استغلاله لاستهداف الطوارق، مؤكدة ضرورة تركهم يعالجون مشاكلهم فيما بينهم، في حين تدعو إلى منح الأولوية لدعم التنمية في شمال مالي ومنطقة الساحل ككل من أجل سد المنافذ أمام نشاط الجماعات الإرهابية.