يشهد موقع الحفرية الأثرية بمترو الجزائر بساحة الشهداء، في العاصمة، حركة لا تهدأ قصد التنقيب على مواقع تاريخية جديدة واستخراج القطع والأدوات الموجودة في هذه المواقع التي يعود عمرها إلى قرون خلت تشهد على تاريخ الجزائر الضارب في الأزل، يؤطّر عمليات الحفر خبراء جزائريون وأجانب ويتم التنسيق فيها بين عدة قطاعات، على رأسها وزارتا الثقافة والنقل وولاية الجزائر، علما أنّ المشروع سيثمر محطة متحفية سيتم تهيئتها بشكل نهائي سنة 2017، سيزورها يوميا قرابة 250 ألف من راكبي المترو. تهدف العملية إلى إبراز تاريخ الجزائر عبر مختلف الحقبات التاريخية المتعاقبة وما تمثّله من تراث وطني وإنساني، مع الاعتماد على هذه الاكتشافات في مختلف البحوث والدراسات العلمية، إضافة إلى قيمتها القصوى باعتبارها دليلا حيا على عراقة الجزائر وتاريخها عبر الزمن، كما يجسّد المشروع مدى التوفيق بين التراث، التخطيط والتهيئة الإقليمية وهو رهان كسبته الجزائر بامتياز، الأمر الذي جعل منظمة “اليونيسكو” تبادر بتثمين المجهودات وتعطي بالجزائر المثال الناجح الذي على بقية الدول، خاصة بالعالم العربي وإفريقيا، الاقتداء به. سخّرت الجزائر من خلال القطاعات المذكورة كافة الوسائل التقنية والبشرية لإنقاذ هذه المواقع، وبادرت بتكييف مشروع المترو المهم بالنسبة لحياة الجزائريين، والمرتبط بآجال وتكاليف محدّدة، مما يعكس أهمية التراث والتاريخ عموما لأنّه يمثّل هوية الأمة الجزائرية، وانطلقت عمليات الحفر بموقع المترو تحت إشراف وزارة الثقافة ممثلة في المركز الجزائري للبحث في علم الآثار، بالتعاون مع المعهد الفرنسي للأبحاث الأثرية الوقائية ليجتمع الخبراء الأثريون بغية تأطير وتوجيه هذه التنقيبات، كما تعدّ العملية فرصة للتكوين في مجال المنهجية في اختصاص علم الآثار الوقائي، حيث تخصّ التحكّم مثلا في التنقيب ضمن إطار التخطيط والتهيئة وتطويع الوسائل وتكييفها مع مثل هذه المشاريع وكذا تسجيل المعطيات وإخضاعها للبحث والتطوير. للإشارة، انطلق التنقيب والفحص بقوة منذ سنة 2009 وسمح بتحديد إستراتيجية أثرية لا تزال سارية المفعول في كلّ الأشغال، يشمل 4 مناطق وهي؛ “المسلك الشمالي”، “المسلك الجنوبي”، “المنطقة الرئيسية الجنوبية” و”المنطقة الرئيسية الشمالية”، تبلغ المساحة الإجمالية للموقع 3250 متر مربع، من المنتظر أن تنتهي به الأشغال سنة 2015 ولا يسمح بتنفيذ أية عملية إلاّ بعد التنسيق مع مؤسسة المترو واستكمال كلّ الأبحاث والمعطيات العلمية اللازمة، تفاديا لأية طوارئ قد تقع رغم توفّر عامل الوقاية في أشكال متعدّدة. يكتسي هذا الموقع أهمية تاريخية قصوى، ففيه ترقد مدينة إيكوزيوم الجزائرية وبها المملكة الموريطانية التي حكمها يوبا الثاني قبل احتلالها من طرف روما سنة 40 ميلادية، لتصبح تابعة لروما كمقاطعة إدارية تسمى “إيكوزيوم”، وتصبح حاضرة مهمة في شمال إفريقيا، لتسقط على يد الوندال بين سنتي 429 و534 ميلادي، وفي القرن السابع ميلادي تضمّ المدينة للمد البيزنطي، وتظهر مدينة بني مزغنة سنة 950 م بعد أن كانت عبارة عن أطلال، لتنهض بفضل مينائها، ثم تبلغ عصرها الذهبي في العهد العثماني بين سنتي 1510 و1830، وتسقط في يد الاستعمار الفرنسي إلى غاية عام 1962. أثبتت التنقيبات عمق هذه المدينة التاريخي وسمحت بتتبع مسرى البحث من الشمال إلى الجنوب، أي عند أقدام القصبة، ففي القرن الأوّل ميلادي استقر سكانها في واد صغير قرب القصبة السفلى ليتزايد الاكتظاظ، كما كشفت التنقيبات عن طريق معبد (كاردو) من الشمال إلى الجنوب برصيف مهترئ ممتد إلى غاية حي باب الوادي، إلى جانب عدة مبان وقنوات صرف ومزاريب. اكتشفت عمليات الحفر والتنقيب أيضا مباني ضخمة قد تكون حكومية عمومية من القرن الثاني ميلادي هدمت لإقامة أخرى امتد عمرها إلى القرن الخامس، وجدت على عمق 10 أمتار، كما وجدت قطع الموزاييك الملونة التي لا تبدو عليها آثار الزمن، وبدا الحضور البيزنطي في الموقع من القرن ال7 م من خلال القبور المتناثرة في شرق وغرب الموقع بشكل متتال، مقفلة بالبلاط والحجر الرملي، علما أنّها عميقة. فترة القرون الوسطى شهدت عمرانا آخر وبروز شبكة من الطرق تمتد إلى العهد العثماني، علما أنّ الآثار الإسلامية شيّدت على أنقاضها مباني أخرى في القرن ال18 م، وهكذا تمّ العثور على بقايا آثار العهد العثماني التي تعد جزءا من ميراث بقايا المباني الإسلامية للقرون الوسطى، ووجدت الآثار على شكل مبان سكنية في شمال الموقع وحي الحرف في الجنوب وثلاثة شوارع معبدة ومصنع للأسلحة، كما تمّ في هذه العملية انتشال نافورة من القرن ال17 في هيئة جيدة بفسيفساء متقنة ستعرض على الجمهور. في الموقع آثار مسجد السيدة وبيت المال بجهة الشرق ولا يزال البحث فيه جار، كما تمّ اكتشاف المنارة وجزء من قاعة الصلاة، ووجدت أيضا آثار من العهد الاستعماري الفرنسي ممثلة في دهاليز فندق. ومع حلول سنة 2016، سيقدّم التقرير النهائي للعملية الأثرية التي ستتضمّن قائمة المكتشفات لتحوّل نتائج العملية إلى كتاب علمي يستفيد منه الجمهور العريض وطلبة الجامعات، كما ستقدّم المحتويات في متحف بمحطة المترو تقوم بتهيئته وزارة الثقافة. في الزيارة التي نظّمتها هذا الأسبوع وزارة الثقافة إلى الموقع، التقت “المساء” مع بعض الخبراء الجزائريين والأجانب المكلّفين بالمشروع، منهم الخبير جون بول جاكوب الذي يمثّل 30 سنة خبرة في هذا المجال، والذي ثمّن الخبرات الجزائرية، موضّحا أنّ عملية التنقيب معقّدة تتطلّب التدخل ومدّ يد المساعدة. وأشار المتحدث إلى أنّ الموقع كشف عن بعض الآثار المهمة، منها تلك المتعلّقة بالعهد البيزنطي والوندالي وهي مرحلة لا تزال تحتاج إلى البحث لأنّها غير معروفة كما ينبغي في الجزائر، نظرا لنقص المصادر والأدلة التاريخية اللازمة. يمثل المتحدث المعهد الفرنسي للبحوث الأثرية الوقائية وهي مؤسسة عمومية أنشئت سنة 2001، من مهامها إنجاز العمليات الأثرية الوقائية (الفحص والتنقيب) وضمان استغلالها العلمي ونشر نتائجها وتثمينها من الناحية العلمية الأثرية، والمعهد يعدّ حاليا الأهم على المستوى الأوروبي ويتدخّل بخبرته بمعدل 20 بلدا في السنة الواحدة. أما بالنسبة للمركز الوطني للبحوث في علم الآثار، فتأسّس سنة 2005 وهو تابع لوزارة الثقافة، يتميز بطابع علمي وتكنولوجي، ويتكفّل بإنجاز أبحاث علمية وتطوير تكنولوجيا خاصة بهذا العلم من خلال التمكّن من الاطلاع على تاريخ الجزائر والمغرب العربي وإفريقيا الشمالية والتمكّن من التخطيط وعلم الخرائط وجمع المعطيات وإنشاء بنك معلومات. شريك آخر يدخل العملية، وهو الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية، وهو هيئة عمومية تابعة لوزارة الثقافة مكلف بحفظ وحماية وتثمين التراث الثقافي وجرد ممتلكاته. والخلاصة أنّ الجزائريين سيستفيدون من متحف مفتوح يروي ألفي سنة من تاريخ هذه المدينة بمحطة الميترو بساحة الشهداء بالعاصمة، وهو مشروع القرن بالنسبة لقطاع الثقافة، باعتباره نادرا في بلدان العالم ما عدا في العاصمة أثينا، وتفتقر إليه كلّ البلدان العربية والإفريقية.