يقدم الدكتور فضيل عبد القادر مقارباته للمسألة اللغوية بأسلوب المرافعة البليغة ويتتبع مسارها التاريخي منذ صدمة الاحتلال، ويعرض بالشواهد معاناة الجزائريين خلال قرن وثلث من التدمير المادي والمعنوي وصمودهم للحفاظ على هويتهم الوطنية. أصبح الإسلام والعربية الجنسية الوحيدة الباقية للأهالي في عقر دارهم، وهي محنة لم يتعرض لها الجوار المغاربي ولم تعرفها البلاد العربية الأخرى التي حافظت على شكل دولة تحت الحماية ولمدة قصيرة نسبيا. يستعرض كتاب “اللغة ومعركة الهوية في الجزائر” جملة من الحقائق المتعلقة بأساس المعركة التي تخوضها البلاد في مجال الدفاع عن الهوية ومقاومة التبعية اللغوية، والغزو الفكري المسلط على مجتمعنا منذ أيام الاحتلال. يشير المؤلف إلى أن الغاية من استعراض حقائق هذه المعركة هي تحريك الهمم للالتفات إلى الآثار السلبية التي تلحق البلاد، نتيجة بقائها تابعة لغيرها ثقافيا ولغويا بعد أن تحررت سياسيا. موضوعات الكتاب أساسها الوضع الذي تعيشه اللغة العربية والردة التي عرفتها جهود التعريب في مجالات المحيط والتعامل الإداري الرسمي في مختلف الدوائر، وغاية ما تسعى إليه من طرح هذا الموضوع هو الدعوة الملحة إلى التفكير في صناعة واقع لغوي متطور ومنسجم مع تطلعات الأمة، وآمال الأجيال في مجال التحكم في صناعة الفكر وامتلاك ناصية المعرفة، واتخاذ المواقف الحاسمة التي تعيد للغة العربية مكانتها ودورها، وتهيء المرافق الإدارية والتعليمية لاحتضانها وزيادة العناية بها وجعلها أداة التعامل في المستويات المختلفة. يؤكد المؤلف أن اللغة مظهر من مظاهر السيادة لا يجوز التنازل عنها أو التفريط فيها لأنها رمز وجودنا وأساس هويتنا، ومادامت اللغة هي الهوية والتاريخ والوطن فلا يقبل تركها بدون حماية، أو التخلي عن الواجب نحوها. يؤكد كاتب مقدمة الكتاب، الدكتور محمد العربي ولد خليفة، أن الدكتور عبد القادر فضيل باحث صاحب قضية كرس لها جهده قولا وعملا في مختلف المواقع، فهو مناضل في سبيل العربية لا تثنيه عن هدفه... يلمس ذلك في توصيفه لوضعية العربية بعد الاستقلال، خاصة ما حدث من انقلاب على رأس قطاع التربية في السبعنيات وكان أحد إطاراتها التي تعرضت بعد ذلك للإقصاء بسبب الاختلاف في التوجه والاختيارات الأساسية. يخصص عبد القادر فضيل جزءا كبيرا من القسم الأول من كتابه للدفاع عن العربية والرد على خصومها الذين ألصقوا بها مجموعة من الأوصاف المنفرة، خاصة أثناء عقد التسعينيات، كما أن المدرسة وهي المشتلة التي ترسم فيها معالم المستقبل وثوابت الهوية والانتماء هي من مؤسسات الدولة والمجتمع التي لا ينبغي أن تخضع للأمزجة والأهواء الشخصية أو يختطفها تيار إيديولوجي ضد إرادة المجتمع وتجربته التاريخية. على الرغم من أن أي حديث عن العربية لا يخلو من التنبيه، إلا أنها لا تقصي اللغات الأخرى والمقصود الفرنسية، فإن الدكتور فضيل يخصص لها فقرات عديدة لطمأنة المحذرين والمتخوفين من زحف وهمي لن يحدث في هذا الجيل وربما في الذي يليه، حيث يتردد في صفوفه السؤال المخجل من أنا؟ من نحن؟ ويتزايد التهجين والخطاب الكريولي الذي تنشره موجة الأغاني التي تذكر بلغة المواني البائدة المعروفة باسم “لينغوا فرانكا”. ينبه الكاتب إلى ما تثيره كلمة تعريب من حساسية لدى البعض، على الرغم من شيوعها في الوطن العربي مشرقا ومغربا، وفي بلاد مثل الجزيرة العربية وهي منبع العربية منذ أقدم العصور، لذلك يحدد الدكتور فضيل مدلولها ومجال انتشارها. يتصدى الكاتب في القسم الثاني لفتح جبهات أخرى في معركته على ساحة اللغة والهوية ويفضل بعض القضايا التي تناولها في القسم الأول، مثل علاقة الفصحى بالعامية ومستويات الخطاب واللغة والسيادة. لا يرى المؤلف اللوحة سوداء قاتمة، فهو يرصد في متابعاته لمسيرة العربية أربعة مواقع يذكر بالمواقف والإجراءات التي يصفها بالمضادة في نفس تلك المواقع، من بينها تجميد قانون التعريب الذي اعتبره من الكبائر التي بدأت بها العشرية الدموية التي كبدت بلادنا خسائر بشرية ومادية كبيرة، قبل أن يبادر الرئيس بوتفليقة بمشروع المصالحة، ولا شك أيضا أن المصالحة تعني المصالحة مع الذات الحضارية بأبعادها الإسلامية، العربية والأمازيغية. من بين أهم الفقرات التي يتضمنها الكتاب، ذلك الجزء المتعلق بالآفاق والاقتراحات التي لا تخلو بدورها من النقد والتقييم بهدف التقويم في صورة آمال وتأملات. يشير الدكتور ولد خليفة إلى أنه ينبغي وضع كل مقاربات الكتاب في سياق الظروف والمواقف التي شارك فيها المؤلف أو رد عليها وهو في كل ذلك مرافع بارع بالقلم والموقف، هناك بالتأكيد من يتفق معه ويؤيده، وهناك من يختلف معه في بعض أو جل أطروحاته، لكن اليقين أن الكتاب يتضمن حوارا بين العقل والقلب جيئة وذهاب، بين الواقع والمأمول. للتذكير، فإن المؤلف د. عبد القادر فضيل من مواليد سنة 1932، حاصل على شهادة الكفاءة للأستاذية في مجال تدريس اللغة والأدب العربي، ليسانس في الفلسفة والمنهجية والبحث والكفاءة للتفتيش وإدارة دور المعلمين. اشتغل معلما، فأستاذا، فمفتشا، ثم مفتشا عاما بالوزارة مشرفا على أساتذة التربية وعلم النفس، مستشارا بديوان وزير التربية مكلفا بالبحث التربوي والإشراف على التأليف المدرسي ومديرا مركزيا مكلفا بالتعليم الأساسي، عمل أستاذا مشاركا في الجامعة وأستاذا مكونا في مركز تكوين إطارات التربية. له إسهامات في إطار التعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بصفة خبير أو مشارك في أعمال تتعلق بالبحث والدراسة. شارك في العديد من المؤتمرات والملتقيات والندوات العربية والدولية، وهو اليوم عضو بجمعية العلماء بمكتبها الوطني، مكلف بالتربية والتعليم.