أكد رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة يوم السبت أن ثورة نوفمبر الخالدة إستطاعت بلورة الرفض المستمر الذي أبداه الجزائريون للسيطرة الأجنبية من خلال تحقيق "وثبة وطنية" جندت الشعب الجزائري في الداخل و الخارج. وفي رسالة وجهها إلى الأمة بمناسبة إحياء الذكرى ال53 لاسترجاع الاستقلال والعيد الوطني للشباب, توقف رئيس الجمهورية عند "التضحيات التي بذلها الشعب الجزائري في سبيل افتكاك حريته, وهي تضحيات يعجز الكلام عن وصفها و نعتها, فضلا عن التحديات التي ما زال لزاما على الجزائر أن تغالبها لكي تتجسد رسالة نوفمبر تامة غير منقوصة". واعتبر رئيس الجمهورية أن تاريخ الخامس من يوليو "ينفرد بصبغة خاصة بين محطات التاريخ المعاصر للجزائر التي تستوجب إحياء ذكراها, لكونه يعد نهاية مطاف كفاح مرير لشعبنا ضد استحواذ وسيطرة المستعمر على أرضه". كما عاد رئيس الجمهورية للتذكير بمختلف مراحل المقاومة التي خاضها الشعب الجزائري و ما أعقبها من انتفاضات متوالية "كلفت بلادنا ملايين الشهداء الذين قضوا في سبيل الشرف و الحرية, في مواجهة استعمار أبى, طوال قرن ونيف, إلا أن يستوطن أراضينا و ينفي المقاومين منا و يسعى من أجل اضمحلال ثقافتنا و اندثارها". و تابع يقول في هذا الصدد بأن "قصارى القول إن الإستعمار صير أبناء شعبنا +معذبين في الأرض+"على حد تعبير رفيق الثورة فرانس فانون. كما استعرض الرئيس بوتفليقة بعض من زخرت بهم قائمة قائدي المقاومة على غرار الأمير عبد القادر والشيخ أحداد و الشيخ بوعمامة و غيرهم في صفوف جيش التحرير لتكون الضريبة في آخر المطاف مليونين و نصف مليون من الشهداء.
النص الكامل لرسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة الذكرى ال53 لاسترجاع الاستقلال والعيد الوطني للشباب بناتي و بني وطني الأعزاء،
أستهل رسالتي هذه بأطيب تمنياتي لكم بمناسبة شهر رمضان المبارك راجيا من المولى جل و علا أن يتقبل صيامكم و قيامكم، و يغفر ذنوب عباده المؤمنين أجمعين.
إن بلادنا مقبلة على إحياء الذكرى الثالثة و الخمسين لاستعادة استقلالها. والحدث هذا على ما له من الأهمية، في حد ذاته، يزداد أهمية في عامنا هذا بما أنه يتزامن مع إحياء الذكرى الستين لاندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة.
بهذه المناسبة، دعوني أشاطركم وقفة خشوع و تأمل حيال تلك التضحيات التي يعجز الكلام عن وصفها و نعتها، تضحيات شعبنا من أجل استعادة حريته وسيادته، و كذا حيال التحديات التي ما زال لزاما على الجزائر أن تغالبها لكي تتجسد رسالة نوفمبر تامة غير منقوصة.
بناتي و بني وطني الأعزاء،
من بين ما يتخلل تاريخنا المعاصر من محطات تستوجب إحياء ذكراها ينفرد يوم الخامس من يوليو بصبغة خاصة من حيث أنه نهاية مطاف كفاح مرير لشعبنا ضد استحواذ وسيطرة المستعمر على أرضه. إن المقاومة و ما أعقبها من انتفاضات متوالية كلفت بلادنا ملايين الشهداء الذين قضوا في سبيل الشرف و الحرية، في مواجهة استعمار أبى، طوال قرن ونيف، إلا أن يستوطن أراضينا، و ينفي المقاومين منا و يسعى من أجل اضمحلال ثقافتنا و اندثارها. قصارى القول إن الإستعمار صير أبناء شعبنا «معذبين في الأرض» على حد تعبير أخينا الماجد و رفيقنا في الثورة الفقيد الدكتور فرانس فانون.
ذلكم الرفض المستمر للسيطرة الأجنبية هو ما استطاعت ثورة نوفمبر المجيدة بلورته من خلال وثبة وطنية جندت شعبنا في سائر أرجاء البلاد، و في صفوف جاليتنا المغتربة.
لقد كان استئناف كفاح الأمير عبد القادر، ثم الشيخ أحداد، فالشيخ بوعمامة الكثير من المقاومين غيرهم، على يد جيش التحرير الوطني، و كانت الضريبة مليونا ونصف مليون من الشهداء.
في هذا اليوم الذي نستذكر فيه عودة الجزائر إلى حظيرة الأمم المستقلة، نترحم بخشوع على أرواح شهداء ثورة نوفمبر الأبرار. كما نزجي تحية الإكبار للمجاهدين الأشاوس الذين قضوا نحبهم خلال سنوات الاستقلال و إلى رفاق السلاح الذين أمد الله في أعمارهم، أولئك الذين أتمنى لهم موفور الصحة و السعادة.
بناتي و بني وطني الأعزاء،
لقد أتاح الاستقلال خوض إعادة بناء الجزائر، التي أضحت ورشة تنادي شعبنا على الدوام و بخاصة منه الشباب الذي يتزامن عيده الوطني مع عيد الاستقلال.
أجل، لقد كانت بلادنا غداة الاستقلال منهكة القوى تواجهها تحديات لا حد لها تمثل البعض منها، على سبيل التذكير، في مئات الآلاف من أسر الشهداء بلا معيل،و مئات الآلاف من المواطنين بلا مأوى و لا مصدر عيش، و ملايين الأطفال المحتاجين إلى التعليم. و أمام ذلك كله كانت الجزائر تفتقر إلى كل شيء، ويكفينا التذكير بأنه لم يكن لديها إلا بضع مئات من المعلمين و بضع عشرات من الأطباء.
إن الغاية من التذكير بهذه الحقائق هي إبراز الجهد الذي بذله شعبنا الأبي قصد إعادة إعمار وطنه.
لقد كان مآل عملية إعادة الإعمار الوطني التي تم خوضها طيلة عقود عديدة من الزمن تحقيق نجاحات كبيرة و لكنها مقرونة بنقائص كتلك التي تسببت في ضائقة مالية أفضت إلى تراجع اقتصادي واجتماعي جراء إعادة الهيكلة التي فرضها على الجزائر دائنوها. زد إلى ذلك أن بلادنا اعتورتها إنحرافات أدت، عندما بلغت أوجها، إلى حلول المأساة الوطنية.
في خضم تلك المأساة الحقيقية، ظل الشعب الجزائري واقفا يقارع أخطبوط الإرهاب الغريب عن ثقافتنا و قيمنا، و اليوم يجدر بنا أن نترحم بخشوع على أرواح شهداء الواجب الوطني.
في سياق تلك المعركة مضى شعبنا الأبي قدما بفضل إعتناقه، عن بكرة أبيه، الوئام المدني ثم المصالحة الوطنية اللتين جنبتا بلادنا مغبة التمزق.
بناتي و بني وطني الأعزاء،
لما استتب السلم المدني و تعززت وحدتنا الوطنية، عكفنا جميعا على تحريك الإعمار الوطني.
في هذا السياق، تحررت الجزائر من عبء المديونية الخارجية و أطلقت ثلاثة برامج تنموية خماسية ضخمة و كذا العديد من البرامج التكميلية لفائدة ولايات الجنوب و الهضاب العليا.
و لقد أثمرت تلك الجهود بالعديد من الانجازات نذكر منها تسليم، على مدى ست عشرة سنة، ملايين من السكنات، و بناء آلاف المدارس و الاكماليات و الثانويات، و توسيع الشبكة الجامعية بحيث شملت جميع الولايات، وفتح المئات من المستشفيات الجديدة، و العيادات المتعددة الخدمات، و المراكز الصحية، و وصل المناطق، حتى وإن كانت نائية معزولة، بشبكات الماء الشروب و الكهرباء و الغاز الطبيعي. و إلى جانب ذلك جعلت الاستثمارات العمومية و الانعاش الاقتصادي نسبة البطالة تتقهقر من 30 % خلال 1999 إلى قرابة 10 % خلال العام الفارط.
هذا و شمل التجدد الوطني من بين ما شمله دعم الحريات و ترسيخ الديمقراطية.
أجل، سجلت الحريات الفردية و الجماعية تقدما لا سبيل إلى نكرانه و ذلك بفضل الاصلاحات التي تمت مباشرتها في مجال العدالة، و الجزائر تفتخر بكونهالا يوجد فيها و لا سجين سياسي أو سجين رأي، و لا أي صحفي محبوس لارتكابه جنحة صحفية.
يشتمل كل من المجال السياسي و الجمعوي على عشرات الناشطين كل يعبر عن آرائه و يتصرف من دون أدنى قيد بينما يشهد الفضاء الإعلامي تنوعا غير مسبوق.
و ما انفكت حقوق المرأة تتعزز هي و دورها في المجالات التربوية والمهنية و السياسية.
و توسعت رقعة التجدد بحيث شملت منظومة دفاعنا الوطني التي مَا انفكت تواصل تحولها الاحترافي و تعزز قدراتها و وسائلها بما يتساوق و مقتضيات حفظ السلامة الترابية و حماية آلاف الكيلومترات من الحدود البرية، في محيط إقليمي غير مستقر من جراء وجود بؤر للتوتر، وآفتي الإرهاب الدولي و الاتجار بالمخدرات.
و في هذا المقام، يجدر أن أعرب عَنْ تقديري لضباط الجيش الشعبي الوطني، سليل جيش التحرير الوطني، و صف ضباطه و جنوده، و لجميع إطارات مصالح الأمن و مستخدميها.
فباسم الأمة، أترحم بكل خشوع على أرواح شهداء الواجب الوطني من صفوف قواتنا المسلحة و مصالح الأمن، الذين جادوا بأرواحهم في سبيل دحر الإرهاب الهمجي المقيت و حماية المواطنين و ممتلكاتهم. و أزجي التحية، في هذا المقام، إلى رفاقهم الذين ما زالوا يواصلون المعركة بكل إقدام و شجاعة.
هذا، و لا يفوتني أن أعرب عن عرفاننا لوحدات الجيش الوطني الشعبي، التي تسهر بيقظة و تفان على حدودنا البرية، و على سلامة الجزائر على الخصوص من أذى الإرهاب الدولي الذي ما فتئ خطره يستفحل في شبه منطقتنا.
بناتي و بني وطني الأعزاء،
إن كل شعب من الشعوب حقيق بأن يتمعن في مساره لكي يقيس ما حققه من تقدم. أما نحن فيما يخصنا، فلا بد للتمعن هذا أن يكون مصدر اعتبار و إلهام وحفز لكي نواصل المسيرة صوب الرقي و الرخاء و تدارك التأخر.
إن استحضار ما بذله شعبنا من تضحيات و ما قطعه من أشواط نحو التقدم أمر لا غنى عنه حتى ندرأ التشاؤم الذي قد ينجم عن مصير فردي ما زال ضنكاأو عن العدمية السياسية.
أجل، لابد من القول إن الجزائر ليست دون غيرها من البلدان مرتعا للفساد. حقا إن هذه الآفة قد تسربت، و يا للأسف، إلى بلادنا غير أنها تواجه بحرب لا هوادة فيها سلاحها سيف القانون. و ما على الذين يشككون في ذلك إلا أن يطالعوا التقرير الصادر عن الهيئة المختصة في الأممالمتحدة المكلفة بمتابعة تنفيذ الاتفاقية الدولية للوقاية من الفساد و محاربته.
و يجدر بنا أن نقول إن الجزائر ليست، و لن تكون، فضاء للظلم أو الإقصاء الاجتماعي، علما بأنها تعبئ كل ما تملك من وسائل لمحاربتهما. فالسياسة التنموية العمومية تشمل سائر أرجاء البلاد، و التحويلات الاجتماعية المقتطعة من ميزانية الدولة لا نظير لها عبر العالم أجمع. هذه بعض الحقائق من بين حقائق أخرى كان لا بد من إبرازها لتقوية اعتزاز شعبنا المشروع، و لتخفيف وطأة الانتظار لدى مواطنينا الذين ما زالت بعض احتياجاتهم الأساسية تنتظر التلبية. أجل، ستسير التنمية الوطنية، العام بعد الآخر، إلى الأمام، و ستستجيب البرامج التنموية العمومية لاحتياجات مواطنينا من السكن أو الصحة أو التكوين. هذا و ستلبي تعبئة القدرات الاقتصادية، العمومية منها و الخاصة، متضافرة مع إسهام الشراكة الاجنبية، ما هو قائم من طلبات التشغيل في كافة القطاعات عبر سائر التراب الوطني، و لا سيما تلك الصادرة من الشباب. و سيتواصل تعزيز دولة الحق و القانون بالتواتر مع الاصلاحات التي سيتم دعمها في جميع المجالات من خلال مراجعة الدستور التي بلغ مشروعها مرحلة إعداده النهائية أو كاد.
بناتي و بني وطني الأعزاء، تواجه الجزائر حاليا انهيارا في أسعار المحروقات، و هذا الأمر يؤثر سلبا على المداخيل الخارجية للدولة ويستدعي انتهاج المزيد من الترشيد في تسيير الموارد المالية العمومية حتى نتمكن من اجتياز هذا الاضطراب الاقتصادي العالمي بسلام. لكن الجزائر، فضلا عما اجتمع لديها من احتياطات الصرف، تتوفر على قدرات اقتصادية هامة تقتضي منا أن نثمرها أكثر فأكثر، كما تتوفر على شباب متكون قادر على مغالبة تحديات العصر في مجالي التكنولوجيا والتنافسية. سنحرر هذه الْمُكَسِّبَات من إكراهات البيروقراطية ونجعلها، أيضا، في مأمن من آفات الغش الطفيلية التي تكلف الخزينة العمومية الكثير، و تعد ألد عدو للاستثمار الاقتصادي النزيه. و لا مناص لنا من تثمين قدراتنا التنموية بعيدا عن عراقيل التوجهات المتزمتة. و العالم حافل بأمثلة البلدان التي تقاسمنا معها بعض المرجعيات الايديولوجية وهي اليوم تفرض نفسها كقوى تنتهج اقتصاد السوق بفضل تعبئة قدراتها الوطنية، العمومية و الخاصة، و الإعتماد على الشراكة الأجنبية. و في الوقت نفسه، تتطلب مواصلة التنمية ومضاعفة تثمين قدراتنا مناخا وطنيا مستقرا و عقولا و قلوبا رصينة. قبل بضع سنوات، دفعت الجزائر و شعبها وديمقراطيتها ثمنا باهضا من جراء الخطابات الشعبوية، والديماغوجية و التطاول على القانون. فلنستخلص العبر من تلك التجارب الوخيمة حتى نغذي تعدديتنا السياسية، و الجمعوية، و النقابية، والتناظر النبيل حول برامج بديلة. بالفعل، يحتاج الشعب الجزائري إلى الإطلاع على الاقتراحات البديلة التي تروم تحسين مصيره وسيعرف كيف يختار، بكل سيادة، أثناء المواعيد الانتخابية المتعارف عليها في نظام الجمهورية. هذه هي الرسالة التي أوجهها، في هذا اليوم الذي تتوحد فيه قلوبنا، إلى الطبقة السياسية في البلاد، و في المقام الأول إلى فعاليات المعارضة التي أحلها من نفسي محل التقدير. ذلك أن المعارضة تؤدي دورها، في كنف مراعاة أخلاقيات الديمقراطية، على غرار الأغلبية التي ساندت برنامجي أثناء الحملة الانتخابية و التي يتعين عليها اليوم ترقيته في إطار نقاش ديمقراطي من أجل زرع الأمل ومؤازرة ما يجب بذله من جهد.
بناتي و بني وطني الأعزاء، لقد طالبني عدد جم منكم بمواصلة المهمة التي شرفتموني بها ثلاث مرات، و قد استجبت للنداء و قبلت التضحية رغم ظروفي الصحية الحالية التي أحمد الله عليها تأسيا مني بالتضحية العظمى التي قدمها الأخيار من رفاقي في صفوف جيش التحرير الوطني الذين كتبت لهم الشهادة في ميدان الشرف. فيما يخصني، فإنني سأمضي عاكفا على أداء هذا الواجب، بعون الله تعالى، وفقا للعهدة التي أناطها بي أغلبية شعبنا. و في هذا المقام نفسه، و بالذات في هذا اليوم الأغر الذي نستحضر فيه بطولات أسلافنا، و نحيي ذكرى مقاومات شعبنا و انتصاراته، أدعوكم بني وطني الأعزاء جميعا، مهما اختلفت مشاربكم السياسية، ومن حيث إن مصيركم الوطني مصير واحد، إلى ضم قوانا وطاقاتنا من أجل مواصلة بناء وطننا الجزائر ، عاما بعد عام و جيلا بعد جيل، و الإرتقاء بها إلى مستوى طموحاتكم و تطلعاتكم، و إلى مستوى الغاية المنشودة التي استشهد من أجلها شهداؤنا الأمجاد.