ملايين الرجال يعيشون ويموتون وتُقبر ذكراهم معهم وإن خلّفوا وراءهم ذرية.. وكثرٌ هم هم الرجال الذين خُلّدوا ومازالت أسماؤهم تشنّف آذاننا كقطعة موسيقية عزفتها أنامل أستاذ ساحر.. أناس فوق الأرض أموات وآخرون تحت الأرض أحياء.. وإذا بحثنا في أسباب خلود العظماء فإننا نلاحظ أغلب ما خلّدهم وفاؤهم لمبادئهم التي عاشوا من أجلها وماتوا أو استشهدوا وفاءً لها غير مبدلين ولا متخاذلين.. بل وصل ببعضهم الحال إلى أن طلّقوا الدنيا وما فيها ليدينوا لمبادئهم التي أبوا أن يستبدلوها بعرض زائل.. وأذكر هنا الفيلسوف اليوناني الزاهد "ديوجن" من مدينة "سينوب" الذي راوده أصحاب المال والجاه على أن يتخلّّى عن فلسفته لكنه رفض وأتى عليه حينٌ من الدّهر صار مسكنه برميلا ينام فيه ولا يملك قوت يومه وكان الجهلة ينادونه بالكلب الضال فيرمون له العظام من بعيد ويحرمون عليه الاقتراب من بيوتهم في حين كان من يعرف قدره من الفلاسفة مثل أنتيسيتان وسقراط وغيرهم يهابونه.. وحدث أن وقعت سفينة كان على ظهرها سيد في أيدي القراصنة فباعوه عبدا، وكان يريد حين يسأل المشتري ماذا تحسن صنعه فيرد "القيادة.. فمن يشتري سيدا؟". ويروي الفيلسوف كليمومن أنه لما أراد أصحابه دفع ثمن تحريره من الرق، قال لهم: أيها الأغبياء إن الأسود ليست عبيدا لمن يُطعمها، إن العبد هو الذي يقوم بخدمتها ورعايتها، الحيوان المتحوش هو الذي يخيف". وفي مدينة كورنثوس وقف الإمبراطور الإسكندر الأكبر أمام ديوجن، فقال له الحاضرون: هذا الإمبراطور فرفع يده وقال: أُغرُب عن وجهي فإنك تحجب شمسي". وقد قال الإسكندر ذات يوم "لو لم أكن الإسكندر لتمنّيت أن أكون ديوجن". ويروي بعض المؤرخين أن ديوجن اختار حياة الزهد والمعرفة على الرضوخ لأهل السلطان والمال يوم كان يراقب فأرة وهي تجري في كل مكان تأكل من هنا وهناك وتبيت حيث تشاء غير آبهة بمن حولها فقال في نفسه "أعجزتُ أن أكون حرّا مثلها..".