كان القدماء يصفون من فقدوه من الأعزاء بالنجم الذي هوى والشمس التي غربت؛ والبحر الذي غاض. إنه ليس من المبالغة في شي أن نقول بأن العربية السعودية فقدت أحد قممها الوطنية الشامخة، هو الشاعر والمفكر والأديب والسياسي المحترم غازي القصيبي. كان الفقيد وبديبلوماسيته الفائقة؛ لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها هموم المواطن العربي. أما من كان يكتب بأسلوب جمالي متطور ومن يتصفح ديوان الشاعر القصيبي يتبين له ولأول وهلة انه امام شاعر مبدع من الذين أعطوا الشعر العربي مذاقه الخاص المتفرد؛ ولعل ذلك يرجع الى التوفيق في اختيارالموضوع؛ وقد لجأ شاعرنا الى استخدام موروثه الثقافي والمتمثل في الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة والأدبيات الشعرية العربية القديمة بألفاظها وأفكارها وصورها وموسيقاها وحكاياتها الشعبية أو مايسمى بالميثولوجيا وكلها ترسبات وتجمعات ثقافية لا تأتي الا بطول المعاصرة والمعاشرة والتناول المباشر للغة بكافة مستوياتها وعناصرها. سنوات عدة والقصيبي يحمل وطنه بين أضلاعه منافحا عنه ومدافعا عن الإنسان ومتعلقا بالحرية وفاضحا الأعوجاج ورافضا الاستسلام. وأغرب صفة يمتاز بها المرحوم الصبر الفلاذي حيث كان رحمه الله رغم مكانته المحترمة في الأوساط الحاكمة الى ان انتاجه الفكري كان ممنوعا في بلده العربية السعودية حيث يقول في هذا الصدد بأن المنع يخدم العامل الأدبي ويزيد شهرته. في الحقيقة إن الحكام العرب معرفون بممارسة سياسة قمع حرية التفكير والاجتهاد فقد كان عبد الناصر اكثر عنفا مع طوائف اليسار من صفوة العقول المصرية التي اودعها المعتقلات، وكان هذا الاخير أكثر سلبية مع رواية ''اولاد حارتنا'' التي ظلت ممنوعة من الطبع في مصر حتى بعد أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل لسنة 8891، و نفس الشيئ حدث مع ممثل الشعب المصري حيث كان له دور في هذا القمع عندما هجم اعضاء مجلس الشعب على رواية احسان القدوس ''انف وثلاثة عيون '' واتهامها بالخروج على الاخلاق وثوابث المجتمع. انه أمر غربي والقائمة طويلة لا يتسع المجال لذكرها هنا، فقط أقول بأن مسلسل جر الادباء العرب الى المحاكم مازال قائما الى يومنا هذا بتهم زائفة هدفها قمع الابداع وترويع المثقفين المدافعين عن الدوالة المدنية والمجتمع المدني على السواء، ويلفتني على نحو خاص في هذا السياق ان الحكام في السعودية لم يجروا الدكتور غازي القصيبي الى المحاكم فهل هي ديمقواطية سعودية أم ماذا ؟ لذلك نستطيع أن نطلق عليه اسم أيوب العصر الحديث؛ ما أندر هذا الصنف من الرجال في عصرنا الحالي. لقد عاش شاعرنا حياته باحثا مثقفا؛ عاش للفكر قولا وعملا وقدوة ومثالا. عاش مرتبطا بقضايا الأمة العربية ضمن الأبعاد الانسانية. عرف عنه منذ نعومة أظفاره شغفه بالعلم، فرحل في طلبه إلى البحرين ومصر والقاهرة وبريطانيا وأمريكا واقترن اسمه بغزارة الانتاج الأدبي حيث بلغ في تعداده نحو 02 كتابا ورواية. وقد اشتهر في العالم بفضل هذا الانتاج حيث كشف حقائق مثيرة حول الانسان العربي والحاكم العربي وأصبحت الأحداث والوقائع جزءا من أدبه. فقد ظل شاعرنا امينا لنظرته لذلك كانت له مكانة مرموقة بين قومه وعشيرته، أحبهم وأحبّوه، وزاد تعلقهم به لما أظهره من غيرة على وطنه، وحرصه على أن يكون مجتمعه عصريا ومتطورا، خاليا من الأرجاس. فكان سيف مسلطا على الفساد، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر,وقد يتساءل الشباب الجزائري عن سبب منع انتاجه الفكري في العربية السعودية. في اعتقادي يعود ذلك الى كتاباته الجريئة حيث ينتقد في بعضها السلطة في السعودية بطريقة غير مباشرة، وبعض أشعاره العاطفية التي لا تختلف عن أشعار نزار قباني، أن غزليات شاعرنا التي تؤمن بنار الحب وألامه تعتبر في نظر بعض الحكام وبعض علاماء الدين تسيء للشاب السعودي وتفسد أخلاقه، ومع ذلك فقد كان رحمه الله لايعرف الصمت ولا يتنازل أمام أعاصير المحنة فقد ظل يكتب عن الحب والغزل كلما امتد به العمر متشبثا بالكلمة الجريئة القوية الحاملة لمواقف لا تعرف المهادنة أو التملق. إن أروع صفة يمتلكها المرحوم هي القدرة على مواصلة التحدي ويشهد له التاريخ أنه عندما كان بعض المثقفين والكتاب العرب ساكتين حين احتل النظام الفاسد والديكتاتوري في العراق الكويت، ندد بهذا الاحتلال الغاشم وكان من القلائل الذين حملوا هم الكويت الى ان استعادت حريتها من المغتصبين,القصيبي من طينة الشعراء الذين لا يعرفون الهزيمة لأنه ابن امرأة ولدته واقفا وأرضعته حليب الكبرياء . ورغم أشجانه فالبسمة لا تفارق شفته والأمل لا يتوقف وهجه في قلبه. وقد تأثر رحمه الله كثيرا بهزيمته في انتخابات اليونسكو حيث وعد بأنه في حالة هزيمته سيكتب رواية عن ذلك وقد كتبها بالفعل وقرأها أغلب السعوديين بالرغم من منع دخول انتاجه الفكري للسعودية وذلك بطرق ملتوية وغير قانوني. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه مع كل مجاهدي الأمة العربية. سيظل خالدا في نفوس كل من عرفه واحتك به. وأقول لعائلة الفقيد إننا في الجزائر نشاطركم الأسى في ما أصابكم ، ونعرب لكم عن التعازي الحارة ومواساتنا الخالصة لكم وأن ينزل على قلوبكم صبر أولي العزم. إنه سميع مجيب الدعاء.