"قد يختلف الفلسطينيون في أشياء كثيرة لكنهم يتفقون على تسمية ما حدث لهم سنة 1948 بأنه نكبة"، هذه المقولة للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، تظهر لأي مدى شكلت النكبة الوعي الفلسطيني وساهمت في بناء ذاكرة جمعية، أرخ لها الفلسطينيون بأشكال مختلفة، ومنها الشعر والرواية. وعلى امتداد السنوات، تطور إحساس الشاعر والكاتب الفلسطيني بنكبته، فتطورت التعبيرات الشعرية، وتنوعت وابتدعت قوالب جديدة خصوصا مع الميل المتزايد للشعر الحر، وهو ما يرصده كتاب "خريطة الغياب" للأكاديمي والناقد الفلسطيني عاطف الشاعر، في أنطولوجية تحمل القارئ في رحلة عبر أكثر من خمسة قرون من الإنتاج الأدبي والشعري الفلسطيني. وينطلق الكتاب من تجميع أهم أعمال الشعراء الفلسطينيين، من محمود درويش، وغسان كنفاني، وسميرة عزام، وجبرا إبراهيم جبرا...، وصولا للجيل الحديث، ليظهر أن كل هؤلاء، حركتهم النكبة وكانت بوصلتهم، للتعبير عما تركه ذلك الحدث في الذات الفلسطينية، وكيف قلب حياة الفرد الفلسطيني رأسا على عقب، وفي الوقت نفسه كيف ساعد الشعر الفلسطيني في الحفاظ على الذاكرة الجمعية لشعب أرضه محتلة ويتعرض لحملة ممنهجة للسطو على ثقافته. وخلال تقديم هذه الأنطولوجية التي تحاكي التغريبة الفلسطينية من بوابة الشعر، في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (ساوس) بجامعة لندن، أكد المؤلف عاطف الشاعر أن النكبة تم التعبير عنها في أشعار الأدباء الفلسطينيين عن طريق ما عاشوه في حياتهم اليومية "فلم تكن هذه القصائد عبارة عن خطاب سياسي"، بقدر ما حاولت أنسنة القضية الفسطينية ونقل تفاصيلها والأحاسيس التي يشعر بها الفلسطيني في صحوه وحتى نومه وهو المهدد بالقصف أو اقتحام بيته في أي لحظة. نكبة مستمرة ويحوي كتاب "خريطة الغياب" على معظم القصائد التي تناولت النكبة، لا بغرض التعامل معها كحدث تاريخي تم تجاوزه، وإنما كواقعة ممتدة في الزمان ومستمرة النتائج والآثار، ويحاول أيضا تصوير كيف تفاعل الأدب مع حدث هز كيان الفلسطيني. ويركز على جودة الكتابات الأدبية، والذائقة الشعرية التي تفجرت بعد أحداث أخرى يراها الكاتب من نتائج النكبة، مثل النكسة وحصار بيروت واتفاقية أوسلو، كلها ما هي إلا تبعات للحدث الأصل وهو النكبة، وهو ما استوعبته الأقلام الفلسطينية، فجعلت منه مادة للكثير من أعمالها. ويؤكد المؤلف أن الكتاب هو دليل على أن "النكبة ما زالت مستمرة"، مستشهدا في ذلك بأن القارئ كلما تعمق في النصوص الشعرية الفسطينية سواء التي كتبت قبل أربعة عقود أو التي كتبت في العقد الأخير، سيجد أن في القلب منها، "توجد النكبة" وما أنتجته من أسئلة حارقة على النسق الفكري للفلسطينيين، مثل أسئلة الهوية، والانتماء وفكرة الوطن. ويرى عاطف الشاعر أن الشعر الفلسطيني مر بثلاث مراحل، المرحلة الأولى وهي التي أعقبت واقعة النكبة، "وانصب جل الاهتمام حينها على الوطنية الفلسطينية واستعادة الهوية والتعبير عن آلام التهجير ومعاناة تدمير الوطن"، ثم هناك المرحلة الثانية التي باتت فيها الكتابة الفلسطينية عبارة عن "كتابة المنفى" وباتت أعمق وأوسع من حيث المعاني لأن التجارب أصبحت أكثر تشابكا وتحاكي تطورات أدبية وسياسية كثيرة في العالمين العربي والغربي. أما المرحلة الأخيرة والمستمرة إلى الآن من وجهة نظر الكاتب، فقد أغنت التجربة الأدبية الفلسطينية بل وحتى العربية، لأنها تتعامل مع وضع جديد ملمحه الأساسي، "هو التدهور والتدمير المستمر للوضع الفلسطيني وتسأل أسئلة صعبة عن حال السلطة الفلسطينية وعن التعامل مع الاحتلال من جهة والسلطة من جهة أخرى"، ما يعني أن هذه المرحلة تعبر عن حالة القلق الوجودي التي يعاني منها العقل الجمعي الفلسطيني وتكثيف لحالة التشظي العام في العالم العربي. وعن اختيار إصدار كتابه باللغة الإنجليزية، يرى المؤلف أن هذه أفضل وسيلة للتعبير عن "حالة الشعرية الفلسطينية الراقية"، معبرا عن اعتقاده بأن القارئ الغربي، عندما يقرأ مثل هذه الأعمال "يصل وحده إلى قناعة أن الشعب الفلسطيني له ثقافة وعنده حياة غنية بالفنون ويعبر عن نفسه بطريقة جذابة عكس ما يحاول المحتل تصوير الفلسطيني بأنه دون حضارة ولا تاريخ"، منبها في الوقت ذاته إلى الرغبة في تفكيك الثقافة الفلسطينية لتحل محلها رواية تاريخية مزيفة يصنعها المحتل. سلاح الأدب تشد الكاتبة الفلسطينية غادة الكرمي على يد هذا العمل الأدبي، منطلقة خلال مداخلتها في محاضرة تقديم كتاب "خريطة الغياب"، من أطروحة مفادها أن الأدب هو أقوى سلاح للتعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني. وفي تصريحها للجزيرة نت، تقول الأديبة الفلسطينية، إنها من خلال تجربتها توصلت لخلاصة مفادها أن "الوسيلة التي أدت للتعريف بالمحرقة كانت الرواية والسينما وليس أرقام الأممالمتحدة أو المواقف السياسية"، مشددة على أن النكبة حدث لا يقل أهمية عن المحرقة "ولهذا فمن المهم التركيز على الإنتاج الأدبي الفلسطيني الذي عالج قضية النكبة من زوايا مختلفة". وتفسر غادة الكرمي التي حضرت بعض أعمالها في أنطولوجيا "خريطة الغياب"، أهمية النكبة في الوعي الفلسطيني، بكونها حدثا ما زال حاضرا، "فالصراع ما زال مستمرا والظلم ما زال قائما"، بل تذهب لكون النكبة "تشكل جزءا من هوية الجيل الجديد من فلسطينيي الخارج". ولا تخفي الكرمي أن الأسئلة الحارقة منذ النكبة ما زالت نفسها، فماذا يعني أن تكون فلسطينيا في أيامنا؟ وسؤال الانتماء للوطن، مشيرة إلى أن غربة الفلسطيني هي غربة خاصة، فهو لم يغادر بلده بحثا عن تحسين ظروف عيشه "وإنما تم تهجيره قسرا من طرف المحتل". وبالنظر لما تركته النكبة في الذهنية والنفسية الفلسطينية، فقد كان من الطبيعي أن يكون الإنتاج الأدبي حولها غزيرا، "كما أن الأديب الفلسطيني كان يكتب أيضا من منطلق أنه في مهمة للحفاظ على ثقافته ضد محاولات طمسها والقضاء عليها".