من صور تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم استشعار هيبته وإجلال قدره، واستحضار لمحاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكراً لحقه من التوقير والتعزير، ومعترفاً به ومذعناً له، فالقلب ملك الأعضاء، وهي جند له وتبع، فمتى ما كان تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم مستقراً في القلب مسطوراً فيه على تعاقب الأحوال فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتماً لا محالة. وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره، ومؤدية لماله من الحق والتكريم. وبرهان التعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة المتضمنة في الكتاب والسنة كما فهمها سلف الأمة، وذلك باتباعها والتزامها قلباً وقالباً، وتحكيمها في كل مناحي الحياة وشؤونها الخاصة والعامة؛ ومحال أن يتم الإيمان بدون ذلك: /ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ/ النور: 47 ..فإن هذا هو مقتضى التعظيم الحقيقي والتوقير الصادق؛ إذ العبرة بالحقائق لا بالمظاهر والأشكال الجوفاء، ولذا قدم الله عز وجل هذا الأدب العظيم على سائر الآداب الواجبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى عن التقدم بين يديه بأمر دون أمره أو قول دون قوله، بل يكونون تبعاً لأمره منقادين له مجتنبين نهيه، فقال في أول سورة الحجرات: /يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ/ الحجرات: 1 .ومن التقدم بين يديه: تقديم القوانين والتشريعات البشرية على شريعته، أو تفضيل حكم غيره على حكمه أو مساواته به، أو التزام منهج مخالف لهديه وسنته: /فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً/ النساء: 65 .وأسعد الناس حظاً بسنته وأقربهم إلى الشرب من حوضه: أهل السنة والجماعة، فهم من أحيوا سنته واتبعوا شريعته وهديه.ومن توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم توقيره في آله، ومنهم أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ورعاية وصيته بهم بمعرفة فضلهم ومنزلتهم وشرفهم بقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على إيمانهم، وبحفظ حقوقهم والقيام بها، فهم أشرف آل على وجه الأرض، وأزواجه أمهات المؤمنين الطاهرات، قال الله تعالى: /إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً/ الأحزاب: 33 ، وقد أوجب الله الصلاة عليهم تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد في الصلاة.ومن التعظيم توقيره في سائر صحبه رضي الله عنهم جميعاً فإنهم خيرة الناس بعد الأنبياء، وخيرة الله لصحبة نبيه، وهم حماة المصطفى صلى الله عليه وسلم والأمناء على دينه وسنته وأمته، وذلك بمعرفة فضلهم، ورعاية حقوقهم، فإن الطعن فيهم أو تنقُّصهم عنوان الزندقة.ومنه: الأدب في مسجده، وكذا عند قبره، وترك اللغط ورفع الصوت، ولذا أنكر عمر رضي الله عنه على من رفع صوته فيه. فقال للرجلين: ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟! لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.ومن تعظيمه: حفظ حرمة بلده المدينة النبوية؛ فإنها مهاجره، ودار نصرته، وبلد أنصاره، ومحل إقامة دينه، ومدفنه، وفيها مسجده خير المساجد بعد المسجد الحرام. والمقصود من تعظيم المدينة هو تعظيم حرمها، وهذا أمر واجب في حق من سكن بها أو دخل فيها، مع ما يجب على ساكنيها من مراعاة حق المجاورة وحسن التأدب فيها، وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، فيتأكد فيها العمل الصالح وتعظم فيها السيئة؛ لشرف المكان.