إن قضية التراث عموما، والتراث الشعبي خصوصا، في العالم العربي، قد أصبحت بمثابة مربط الفرس كما يقال، إذ لم تطرح على بساط النقاش في أي وقت من الأوقات، وبإلحاح مثلما تطرح حاليا. ولعل هذا الموقف بداية بروز، ونمو وعي يؤكد على مسألتين أساسيتين، ومصيريتين. الأولى تتمثل في العودة غير الشوفينية إلى الذات الأصيلة، لدراسة نقاط ضعفها وقوتها، وإمكانيات الصيرورة، والجمود فيها، من أجل استنهاض القيم، والقسمات النضالية البناءة في التراث لتمارس حضورها التغييري، في عملية بناء الشخصية الوطنية، وطبعها بطابع خاص وفريد، ومن أجل نقد الطروحات السلبية في هذا التراث نقدا علميا، ليس بدعوى رفضها رفضا ميكانيكيا أو مزاجيا، بل شجبها إذا كانت تمثل عائقا في طريق التحرر والمسألة الثانية تتمثل في الخروج الواعي من مرحلة الاستماع، إلى مرحلة رفع الصوت، أي كسر الرؤيا الانبهارية بالثقافة الغربية، واعتبارها بديلا، ومنقذا من الضلال. إن الاستغراق الطويل في استهلاك كل عناصرها السلبية والايجابية أدى بنا إلى الغرق في وحل الاستلاب، والتغريب، والضياع الحضاري، والتمزق النفسي. فما أجدرنا إلى تأسيس مرحلة المثاقفة، والحوار النقدي.فالحوار الثقافي مع العالم، محفوف بالمخاطر والمنزلقات، وما يعقد الأمر هو إذا كان أحد الأطراف في الحوار لم يع أصوله، ومميزات تجربته، أي شخصيته في تفردها، وقدراتها على الإضافة.فالدول الأوروبية قد وعت هذه الحقيقة، وهذه الشروط في بداية نهضتها، وبذلك راحت تبحث عن الأصول الشعبية، من خلال الأشعار، والقصص البطولية، والأساطير الملحمية، لإبراز الأصالة الجرمانية وعلى هذه القاعدة وغيرها من عناصر الفكر المستنير ثبتت، وبنت شخصيتها الثقافية المستقلة في تمايزها، وتحاورت بالتالي مع الثقافات العالمية الأخرى، بمنطق الاستيعاب النقدي، فاستفادت دون أن تفقد عقلها أو قلبها.تهميش التراث الشعبيومعضلة المعضلات في الوطن العربي اليوم تبدو أولا في النظرة البرجعاجية، والاستعلائية للتراث الشعبي. فالأغلبية الساحقة تفهم الأسطورة – الخرافة – الحكاية فهما مسطحا إن لم أقل تفهمه فهما رجعيا فهي تربط الحكاية والأسطورة والخرافة – والخرافة بالمنحط، والسفاسف، والهامشيات، وما اتفق عليه أنه وضيع، في حين تتضمن وتستوعب فصول تاريخ الشعوب، والمستوى الحضاري الذي بلغته، ومن خلالها يمكن – بعد الدراسة الخلاقة – معرفة مكونات ومميزات وجدان وعقل كل أمة من الأمم على حدة. ونفس النظرة لا تزال تشوب العلاقة بالأغنية الشعبية، والشعر الشعبي، والرقص الشعبي كذلك. فمثل هذا الفهم القاصر والمحدود هو نتاج الاستيلاب الثقافي الذي عانينا منه طويلا، ونتاج العقلية ذات الوعي الأفقي. لذا أرى ضرورة تصحيح ذلك أولا، لأن التراث عامة ليس بالإنتاج المدون في المجلدات وكفى، إنما التراث موجود وممتد في الانسان سلوكا، وتفكيرا، وممارسة.فالنقد الحقيقي يتناول التراث المدون، والانسان معا على أساس عضوي، وبرؤية نقدية متقدمة، وشاملة، وغير دوغماتية، والعملية النقدية هذه تسبقها بلا شك عملية جمع التراث، وتدوين الجانب الشفوي منه، وتصنيفه، ومثل هذا العمل المتشعب، والمعقد، عمل جماعي بالضرورة.ومن اختصاص الجامعات بالدرجة الأولى، والمؤسسات الثقافية المختلفة أيضا. لأن المجهود الفردي مهما كان جادا ومخلصا، فإنه يعجز ماديا، ومعنويا، وزمنيا على الإحاطة الشاملة بالتراث، الممتد في مجاهل التاريخ، والمتناثر هنا وهناك.وفي هذا السياق يمكن التنويه بالبحث الأكاديمي الذي قامت به الأستاذة روزلين ليلى قريش لنيل درجة دكتوراه حلقة ثالثة عن موضوع القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي من الجامعة الجزائرية، وطبعت الأطروحة أخيرا عن مؤسسة ديوان المطبوعات الجامعية التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. والأستاذة روزلين تعمل مدرسة للأدب الشعبي بالجامعة المركزية الجزائرية، وباحثة في مركز البحث العلمي أيضا.تنقسم الأطروحة إلى بابين الباب الأول خصصته لنشأة القصة ذات الأصل العربي، وقسمته بالتالي إلى فصلين، حيث درست في الفصل الاول حركة الفتح الاسلامي واثره في نشر القصة الشعبية، وفي الفصل الثاني، درست عامل الهجرة من الشرق إلى المغرب، وبالعكس وأثر ذلك في القصة الشعبية.أما الباب الثاني فخصصته لدراسة أنواع القصة الشعبية ذات الأصل العربي مقسمة إياه إلى أربعة فصول. وذيلت الأطروحة بفهارس للمراجع، ولأسماء الرواة، وللأماكن، وللاعلام، إلى جانب ملاحق وهوامش وخرائط، ذات أهمية علمية بالغة. القصة الشعبية دلالة روح الشعبفي مقدمة الأطروحة تبين الباحثة دور الأدب الشعبي في التعبير عن حياة شعب من الشعوب وتسجيل الأحداث الهامة من تاريخه، وتقاليده، وآرائه ص 3. وتؤكد أن القصة الشعبية المروية أكثر دلالة على روح الشعب، وأعماقه وأدق تصويرا لأفكاره ومعتقداته الراسخة. ص 3 ولكنها تشكو من عدم الاهتمام بهذا التراث الأصيل، ومن غياب الدراسات النقدية، أو الاجتماعية، ومن انعدام النصوص المكتوبة، والتي تغدو مجالا خصبا للبحث والاستقصاء. ولعل الجهد المعتبر الذي بذلته حين قامت بجولات عبر التراب الوطني وعلى مدار سنين طويلة جعلها تتوصل إلى نتائج جادة ومثمرة، ومن بينها نفض الغبار عن جانب من تراثنا القصصي الشعبي، والذي سيصبح مقلعا تستلهمه، وتستثمره الأعمال الفنية المقبلة، ويصبغها بخصوصية وفرادة ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار الأطروحة عملا أنتروبولوجيا ثقافيا أوليا ينبغي أن تليه أبحاث أكثر عمقا وشمولية، وتدوينا للجانب الشفوي من تراثنا.وبادئ ذي بدء يلاحظ بأن الباحثة قد اقتصرت في بحثها على مرحلة الفتح الاسلامي، مركزة على القصة الدينية أكثر من غيرها. والواقع أن اقتصار الدراسة على حقبة زمنية محددة ومفصولة عن الحقب السالفة أمر ربما يكون فيه الكثير من الاستعجال، والقفز، كما يمكن اعتبار منهجها هذا منهجا انتقائيا. فدراسة التراث يجب أن تتم خلال ترابط تاريخي أوسع وأكمل حتى نتمكن من العثور على الأصول. ولعلني هنا احمل الأستاذة روزلين مشقة عمل ضخم هو عمل موسوعي معقد وشائك بدون شك، وليس بحثا لنيل شهادة جامعية.في الباب الأول حددت الباحثة أصل وأسباب انتشار القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي في عملية الفتح الاسلامي نفسها، والهجرات من المشرق إلى المغرب التيار الخارجي – التيار الشيعي – التيار البدوي الهلاليون والرحلات العلمية التي كان الطلبة المغاربة يقومون بها إلى المشرق. وأمية الأوساط الشعبية في المغرب في أوائل الفتح الاسلامي، واعتماد التعليم على الذاكرة مما ساعد على نشر الروايات الدينية كالسيرة النبوية، وأعمال الخلفاء الراشدين، وانتشار المساجد والزوايا والكتاتيب ورحلات الحجاج البربر الأولين.ولم تخصص فصلا تناقش فيه الصراع الثقافي الحاصل بين الثقافة الاسلامية الفاتحة، وبين عناصر الثقافة التي زرعها المحتلون الأوائل للمغرب أي شمال افريقيا، ورغم ذلك فإن فصل الهجرات من أهم الفصول التي تضمنتها الأطروحة، لأن الباحثة تتعرض فيه لكل التيارات الاسلامية – وما اشتق منها – في المغرب العربي وتأثيراتها في المعتقدات الدينية وأسلوب الحياة، والعلاقات الاجتماعية وفي القصة الشعبية ذاتها كتعبير فني لهذا وقد ناقشت بإسهاب وتفصيل المرتكزات الفكرية، والسلوكية، والعقائدية للتيار الخارجي، والشيعي، والبدوي الهلالي، وهدفت من وراء ذلك إلى إبراز أصول القصة الشعبية ذات الأصول الخارجية من الخوارج بأنها تؤكد على فكرة الاستشهاد ابتغاء مرضاة الله ص 63. وعلى فكرة الديمقراطية من خلال رموزها الاسلامية عمر بن الخطاب – أبو بكر الصديق – ص 62. أما مميزات القصة الشعبية ذات الأصول الشيعية فتحددها في تفضيل أهل البيت على غيرهم وفي طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب وهي فكرة ارستقراطية. وتحددها أيضا في الاعتقاد بفكرة المهدي المنتظر الذي هو الإمام علي حسب التصور الشيعي ص 66.أما التيار البدوي الهلالي، فإنه على حد تعبير الباحثة ساهم في تعريب المغرب العربي ونشر اللغة العربية، وإدخال العادات العربية التقليدية، والأخلاق البدوية ص 67 69 ولخصت مميزات القصة الشعبية ذات الأصول الهلالية في تمجيد الكرامة والشهامة، والتمسك القبلي، والدفاع عن القبيلة والحديث عن الصيد والنخيل والطير، والترحال، والسعي وراء مصادر العيش وأسلوب النهب والسلب، وهجاء العدو والتغني بخصال البطل العربي الأصيل والإعجاب بالمرأة البدوية ذات الذكاء والشجاعة ص 70 ومن هذه القصص، قصة الجازية، وقصة البطل الجزائري المعاصر محمد بن علال المتأثرة بالسيرة الهلالية. وقبل إسدال ستار الحديث عن هذا الباب المهم أسجل بعض المآخذ التي تبدو في التركيز على المضمون الديني، وعدم إبراز الجانب النقدي للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ثم أشير إلى أن الأطروحة تتناثر فيها الاستطرادات الزائدة، والأحكام غير معللة أحيانا.وبتعبير آخر تسبق الباحثة الأحكام على التحليل النقدي إلى جانب ذلك نلاحظ تكرار بعض النتائج التي توصلت إليها الباحثة بدون سبب موضوعي يدعو ذلك. ففي ص 35 وص 36 تقدم الباحثة تعليلات لأسباب انتشار القصة الشعبية العربية في المغرب، وفي ص 37 وص 42، تذكر نفس الأسباب. ونفس الملاحظة يمكن تسجيلها عن الفصل المخصص للهجرات، حيث تتحدث بالتفصيل وعلى نحو متماسك على المؤثرات ابتداء من ص 59 إلى ص 70. ثم تعود إلى تكرار نفس النتائج ونفس المفردات. وهذا التكرار يمكن أن يحصل في كتاب يتضمن عدة مقالات متفرقة، أما في أطروحة أكاديمية فغير جائز وغير مسوغ، إلا إذا كانت الباحثة تهدف إلى تطبيق المقولة التعليمية التقليدية القائلة بأن العلم يحصل بالتكرار.أنواع القصة الشعبية الجزائريةهذا عن الباب الأول أما الباب الثاني فخصصته الباحثة لمناقشة أنواع القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي حيث توصلت إلى تحديدهما الي القصة البطولية وتتفرع بدورها إلى ثلاثة أنواع هيقصة البطولة الدينية التي تستلهم التاريخ الاسلامي، وسيرة النبي، والخلفاء الراشدين، وتذكر من بينها قصة حمزة عم الرسول، وقصة جعفر ذو الجناحين، وقصة هند آكلة الكبد وغزوة وادي السيسبان، وغزوة بئر ذات العلم وقصة مقتل الإمام علي، وقصة مقتل الحسين بن علي. القصة البطولية الوعظية ومن مميزات هذا النوع التركيز على وصف البطل، أو البطلة، وتصويرهما كحكمين في أمور الدنيا والحرب. القصة البطولية البدوية وهذا النوع يختص برواية السيرة الهلالية كقصة ذياب بن غانم وأبوزيد، والخليفة الزناتي صاحب تونس. القصة البطولية الحديثة وهي تصدر عن بطولات الثوار أثناء المقاومة التحريرية الجزائرية.وفي هذا الفصل تتوصل الباحثة إلى نتيجة مفادها أن السمة الرئيسية لقصة البطولة العربية هي أنها تأخذ جذورها من التاريخ، إذ ليس أبطالها أبطالا أسطوريين بل عاشوا حقيقة لكن الرواة يصبغون على هذه القصص صبغة عجيبة وخارقة مما يخرجها عن طابعها التاريخي الواقعي، ويدخلها في نطاق اللامعقول. القصة الخرافية الشعبية وتتفرع بدورها إلى أربعة أنواع هي الخرافة الشعبية الدينية ، الخرافة حول شخصيات غير دينية عاشت حقيقة.الخرافة حول الجن.الخرافة المحلية.وتتركز مواضيعها حول الصراع بين الخير، والشر حيث ساهم في انتشارها المسجد، والأعياد الدينية، وقبور الأولياء الصالحين.