رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    توقرت: 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخضر الإبراهيمي في حواره المطول للشروق اليومي (4)
نشر في الشروق اليومي يوم 02 - 07 - 2007

فما العمل إذاً ؟ أولا من الضروري أن تفهم بلدان المنطقة (لاسيما البلدان المجاورة للعراق ثم كل الباقي) أن العراق هو، أو لن يلبث أن يصير، مشكلها هي أيضا. ولكي أكون صريحا تمام الصراحة أقول : "لقد دمر الأمريكيون العراق وبلدان المنطقة هي التي سترث هذا الدمار". إن هناك حربا أهلية تجري بهذا البلد البائس، وإذا لم نفلح في وضع حد لها بسرعة ستمتد أولا إلى باقي مناطق التراب العراقي ثم، شيئا فشيئا لا محالة، إلى المنطقة بأسرها.
حاليا، تجري هذه الحرب في بغداد وفي ثلاث أو أربع مقاطعات أخرى ؛ مما يمثل، على أية حال، نحو 40  من السكان ! ثم إن الحرب حاليا تجري أساسا بين السنة والشيعة. غير أن منطق هذه الحرب الأهلية القاسي سرعان ما سيؤدي، لا شك في ذلك، بالأكراد إلى التدخل أكثر مما هم عليه حاليا (لأن لهم ضلعا فيها الآن !). بعد ذلك، سنرى جماعات سنية تقاتل بعضها بعضا، وميليشيات شيعية أيضا وربما ستنشب كذلك معارك ما بين أنصار برزاني وأنصار طلباني بكردستان. على مستوى المنطقة، لاشك في أن إيران تتمتع حاليا بتفوق أكيد، كما أن نفوذها هناك أمر وارد وهو في اتساع. ومع ذلك، هذا البلد في حاجة إلى تأمل ما وقع مؤخرا بين سوريا ولبنان وما وقع بين مصر في اليمن من قبل كما ذكرنا. ينبغي أن ننتبه إلى أن هناك عداوة بين الفرس وجيرانهم من العرب مع كل ما يتسبب فيه مثل هذا الوضع من الأضرار وحالات سوء التفاهم، كي لا نذهب إلى أبعد من ذلك. العراقيون، بمن فيهم الشيعة أنفسهم، لن يقبلوا أبدا بسيطرة إيرانية ما عليهم. وعليه، الإيرانيون، الأتراك والعرب مطالبون بضم جهودهم، من دون أية خلفيات، إلى العراقيين. أعتقد أن ذلك هو أوكد سبيل لوضع حد للكابوس العراقي الحالي. ينبغي على الأمريكيين ألا يهابوا مثل هذه المبادرة، كما ينبغي على البلدان المجاورة للعراق ألا ترفض التعاون مع أمريكا إذا اعترفت هذه الأخيرة بأخطائها والتزمت، بصفة باتة، العمل على الإسهام في إيجاد حل للمشكل العراقي عوض التفكير في التخلص، فقط، من المستنقع العراقي الذي جرت نفسها إليه بيدها وهي وحدها التي تتحمل مسؤوليتها الكاملة فيه.
م. ش. مصباح: منذ انسحابكم من الوساطة التي قامت بها منظمة الأمم المتحدة في العراق، تبدو تصريحاتكم أكثر انتقادا، سواء تجاه الولايات المتحدة أو إسرائيل. هل يتعلق الأمر بمجرد خواطر أم هو موقف مبدئي ؟
ل. ابراهيمي أفضل أن أقول إن انتقاداتي صارت أكثر حدة منذ أن غادرت منظمة الأمم المتحدة لا بعد أن غادرت العراق. أنا الآن أكثر حرية بطبيعة الحال. عندما كنت بالمنظمة، سواء قبل إقامتي القصيرة بالعراق أو بعدها، أدليت بتصريحات أثارت حفيظة الإسرائيليين وشرحت، حينئذ، أنني لم أكن أعبر عن رأي خاص وإنما عن وقائع متصلة بتصرف المحتل الإسرائيلي. كما أكدت أن تصريحاتي جاءت منسجمة مع لوائح الأمم المتحدة.
م. ش. مصباح هل هو إحساسكم بإخفاق السياسة الأمريكية وحده الذي جعلكم تنسحبون من مهمتكم الأممية بالعراق ؟
ل. ابراهيمي أظن أنني وضحت هذا الجانب منذ حين بما فيه الكفاية.
V. إصلاح عمل منظمة الأمم المتحدة
م. ش. مصباح: تقولون في احد مقالاتكم : "جميع الناس متفقون على ضرورة إصلاح الأمم المتحدة". ثم تردفون : "إنه من الصعب لمنظمة من 192 دولة عضوة أن تصلح أمورها بنفسها" ! اضمحلال دور هذه المنظمة، كما نراه بكل وضوح، هل هو راجع إلى استحالة الاتفاق بين كل هذا العدد من الدول ؟ أم أن هذا الانسداد مقصود من جانب القوى العظمى أو، على الأحرى، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية كأعتى قوة في العالم ؟
ل. ابراهيمي: لقد صار"الإصلاح" موضة يكثرالحديث عنها في كل مكان، سواء على مستوى المنظمات، الدول، الجامعات، البنوك وما إلى ذلك. في منظمة الأمم المتحدة، لا يجري العمل على هذا المستوى فقط، على الأقل منذ نهاية الحرب الباردة. العمل في هذا المجال متواصل على أية حال. ليس هناك أي بلد أكثر إلحاحا في مطالبته بإصلاح الأمم المتحدة من أمريكا. لكن عن أي إصلاحات نتحدث ؟
لنوضح الأمور، أولا وقبل كل شيء، في ما يخص وضع هذه "القوة الكبرى" داخل المنظمة الأممية. بالفعل، واشنطن تمارس نفوذا لا مثيل له، وغالبا ما يلام الأمين العام، مهما كان، "خضوعه الدائم لإرادة الأمريكيين". لكن واقع العالم اليوم يشير إلى أن، ليس الأمين العام، وإنما البلدان العضوة هي التي غالبا ما تخضع لإرادة الولايات المتحدة الأمريكية. في هذا الصدد، يُروى أن بطرس غالي، عندما حاول ذات يوم أن يقول لمادلين أولبرايت، السفيرة الأمريكية لدى منظمة الأمم المتحدة، إنه لا يستطيع القيام بما كانت تطلبه منه خوفا من إمكانية احتجاج بعض الدول العضوة، ردت عليه السفيرة الأميركية بصريح العبارة :" لا يهمكم ذلك. نحن متأكدون من أنها ستوافق كلها". ولا عجب أن تكون مادلين أولبرايت هذه بالذات هي التي قالت ذات يوم : "نريد من الأمين العام أن يكون أمينا كثيرا وعاما قليلا !". صحيح، لم يدافع أي أمين عام عن صلاحياته وصلاحيات مساعديه كما دافع Dag Hammarskjöld. أضف إلى ذلك أن الأمينين العامين الإفريقيين، بطرس غالي وكوفي أنان، قد حاول، كل بحسب أسلوبه والظروف السائدة، الحد من الأضرار فدفع الأول الثمن عندما رفضت الولايات المتحدة الأمريكية السماح له بالترشح لعهدة ثانية وعوقب الثاني عندما فرض عليه السكوت بسبب تلك الفضيحة المزعومة المتصلة ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" للعراق. غير أن ما هو أهم هنا هو التأكيد أن الأمم المتحدة هي، أولا وقبل كل شيء، الدول العضوة فيها مضافا إليها ذلك النفوذ القوي التي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في المنظمة من خلال التأثير المباشر في جميع الدول العضوة من دون استثناء تقريبا.
ومع ذلك،فهومن الظلم القول إن هذه الدول العضوة تنحني دائما أمام كل مبادرة تتخذها واشنطن. في ما يخص الإصلاحات بالذات - مادمنا نتحدث الآن حول هذا الموضوع - لا تستطيع أمريكا حاليا أن تقوم بما تريد بالذات. المكلفون أشغال التحضير للقمة الكبرى المنعقدة سنة 2006 التي ناقشت تقرير "فوج العمل على أعلى مستوى"حول الإصلاحات وتبنته اجتهدوا كثيرا ولم يستطع الأمريكيون فرض آرائهم. وفي الحقيقة، الإصلاحات التي أعلنها الأمين العام كوفي أنان باحتفاء كبير كانت متواضعة جدا لأن الدول ال 192 العضوة اضطرت إلى الاكتفاء بأصغر قاسم مشترك بينها ولم يتعد الأمر تغيير تسمية لجنة حقوق الإنسان إضافة إلى ترقيعات صورية جدا في ما يخص نمط انتخاب أعضاء المجلس الجديد وخلق "لجنة لبناء السلام" (Peace Building Commission) التي، حسب رأيي المتواضع، لن تأتي بأي جديد يذكر إلى عمل المنظمة في مجال حفظ السلام ودعم البلدان الخارجة من حالة أزمة. تبنت أيضا هذه القضية ما سمي ب "مسؤولية الحماية" الشهيرة، لكن مع إخضاعها لجملة من الشروط هي أقرب إلى تلك الأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة في ما يخص التدخل العسكري واستعمال القوة. وبصورة أدق، لم يقع أي تقدم بشأن توسيع مجلس الأمن كأهم مطلب تظل المنظمة تنتظره منذ أربعين سنة على الأقل. كما لم يتم حتى التعرض للجانب المتصل بالوكالات المتخصصة في المنظمة والتي أخالها، حسب رأيي المتواضع، أنها كثيرة فوق اللزوم وغالبا ما تقوم بعمل متكرر من دون أن تكون لها دائما فعالية تتناسب وميزانياتها للتسيير.
هذا، وهناك إصلاح آخر لا يتحدث عنه أي شخص، ويتعلق بإسهامات كل دولة عضوة في سير المنظمة. الولايات المتحدة الأمريكية تسهم حاليا بنحو 25 % في ميزانية المنظمة. الصين، الهند، البرازيل، إفريقيا الجنوبية وحتى روسيا إسهاماتها ضعيفة. هذه البلدان يمكنها، بل يجب عليها، الرفع من مستوى حصتها في الميزانية من أجل التقليص، بصورة معتبرة، من حصة الولايات المتحدة الأمريكية فتضع نفسها في منأى عن مساومات هذه الأخيرة التي تشهر، في كل مرة، تهديدها بالامتناع عن دفع حصتها إن لم ترضخ المنظمة لمطالبها. على أية حال، أنتم ترون كيف أنني لم أكن مخطئا حينما قلت إنه يستحيل أن تجتمع ال 192 دولة ذات السيادة على اتفاق حول كل مسألة يتم إخضاعها لها، ناهيك عن إصلاحات ولو كانت ضئيلة.
م. ش. مصباح تدريجيا لكن بطريقة حثيثة، تطورت مهمات منظمة الأمم المتحدة، على العموم، في اتجاه التكيف مع مقتضيات السياسة الخارجية الأمريكية عوض التكيف مع مقتضيات السلم في العالم. هل تبدو لكم هذه النظرة مطابقة للواقع؟
ل. ابراهيمي المشكل المركزي يكمن في كون مجلس الأمن هو الوحيد المخول اتخاذ القرارات اللازمة عندما يكون السلام مهددا في مكان ما من العالم. غير أن لكل واحد من الأعضاء الخمسة الدائمين في هذا المجلس حق الفيتو. وفي الظروف الحالية، تبقى الولايات المتحدة الأمريكية أقل البلدان ترددا في استعمال هذا الحق. أما باقي البلدان العضوة، فلا تلجأ، في غالب الأحيان، إلى استعماله إلا عندما يتعلق الأمر بمصالحها مباشرة. لكن هذا أمر لا يرضي باقي البشرية وهي ترى عددا من الدول لا يتجاوز الخمسة تنفرد بالتمتع بهذا الحق. وكما قلنا منذ حين، لم يحصل بعد أي اتفاق حول توسيع مجلس الأمن. ومع ذلك، لا ينبغي أن نتوقع تغييرات جوهرية بعد توسيع مجلس الأمن لأن الهند واليابان، مثلا، سوف تتصرفان مثل الصين وغيرها. لن تفكر هذه البلدان كلها إلا في مصلحتها ونادرا ما في مصلحة البشرية جمعاء.
م. ش. مصباج بشكل مبسط، تسيطر بلدان العالم الثالث على الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، بينما تسيطر القوى العظمى على مجلس الأمن حيث تتمتع بسلطة مهيمنة. فعلى الرغم من كل تلك المحاولات التي قامت بها البلدان النامية من أجل فرض حضورها عبر الجمعية العامة وغيرها من المؤسسات التابعة لها، يستمر مجلس الأمن في كونه صاحب القرار الوحيد في المنظمة إلى درجة أن دور الأمين العام نفسه يكاد يكون نكرة ! فما هي، في نهاية الأمر، الفائدة من هيئات منظمة المتحدة ؟
ل. ابراهيمي صحيح أن بلدان العالم الثالث لها تأثير داخل الجمعية العامة بحكم العدد. هذا إذا افترضنا التقاء مصالحها ؛ وهو ما ليس واردا في جميع الأحوال. شخصيا، أحلم بوضع يتم فيه اعتماد قانون داخلي يقيم علاقة عضوية مابين الجمعية العامة ومجلس الأمن. أليس من المفروض أن يكون أعضاء المجلس، دائمين كانوا أو مؤقتين، ممثلين لجميع الدول العضوة وعاملين باسمها ؟ يقضي المنطق من أعضاء المجلس هؤلاء أن يأتوا أمام الجمعية العامة، بصورة دورية، لإخبارها بنشاطاتهم، تقريبا مثلما تقوم به أية حكومة وطنية أمام برلمان بلدها. هذه الأسئلة الجوهرية لا يتم الحديث عنها تماما هي الأخرى. أما في ما يخص الأمين العام، صحيح أن المنظمة الأممية لم تعرف أحدا في مقام Dag Hammarskjöld. أتذكر أن خروتشاف عندما أخذ الكلمة – وكان ذلك سنة 1960 أو 1961 على ما أذكر – مطالبا باستقالة الأمين العام للأمم المتحدة همارسجولد، طلب هذا الأخير ممارسة حق الرد مصرحا أن منظمة الأمم المتحدة لم تكن مهمة بالنسبة إلى البلدان العظمى وإنما بالنسبة إلى البلدان الصغرى. وعليه، لا يمكنه أن يقدم استقالته إلا إذا طلبت منه هذه الأخيرة ذلك. بطبيعة الحال، استُقبل تصريح الأمين العام بعاصفة من التصفيقات فلم يبق لخروتشاف إلا التراجع ، وبكل روح رياضية. يستطيع الأمين العام، بل يجب عليه، أن يقوم بدور أكثر نشاطا وأكثر استقلالية مما هو الحال أثناء كل هذه السنوات. أظن أن كوفي أنان كان باستطاعته محاولة إيقاف الزحف نحو الحرب بالعراق لو مارس صلاحياته كاملة عوض التذرع بالحدود التي تكون واشنطن قد فرضتها على نشاطه. إن ميثاق الأمم المتحدة يمنح الأمين العام حق لفت انتباه مجلس الأمن حول أوضاع أو أحداث تهدد السلام العالمي. لقد كان من حقه أن يقول، رسميا، لمجلس الأمن إن غزو العراق لم يكن له ما يبرره وإنه كان يحمل خطرا على استقرار المنطقة بأسرها. لكن، وعلى الرغم من هذه النقائص كلها، تبقى منظمة الأمم المتحدة أداة صالحة تماما للمجموعة الدولية. إنها المكان الذي لا مثيل له للقاءات والحوار. فإطارها هو الذي تم فيه اعتماد اتفاقيات دولية ضرورية لحياة الجميع وتطبيقها. في الواقع، لعلنا لا نعي وجود هذه الاتفاقيات التي تجعل حياتنا أسهل و...أقل خطرا. انطلاقا من الخدمات الدولية لمكتب بريد صغير في حينا مرورا بالمراقبين الذين يوجهون طائراتنا عبر الأجواء وانتهاء بتنبؤات الأحوال الجوية، كل ذلك يشتغل في إطار منظمة الأمم المتحدة. لقد تم التغلب على داء الجدري، وإننا على وشك التغلب على شلل الأطفال وأظن أن الملاريا لا تلبث أن يتم القضاء عليها هي الأخرى ؛ كل ذلك يتم في إطار المنظمة الأممية. هناك ما لا يقل عن خمسة وعشرين مليون لاجئ فروا من بلدانهم بسبب النزاعات يجدون قوتا يسدون به رمقهم وخيمة يأوون إليها وطبيبا يعالجهم ؛ كل ذلك بفضل منظمة الأمم المتحدة في معظم الأحيان... هل تعتبرون ذلك أمرا هينا ؟ سأتفق معكم لو قلتم إن منظمة الأمم المتحدة في حاجة إلى مزيد من الجهد ومن التحسين.
م. ش. مصباح من بين مواطن الخلل الكثيرة التي تحول دون قيام منظمة الأمم المتحدة عموما، ومجلس الأمن خصوصا، بأداء مهماتها على أكمل وجه، نسجل عجزها عن الاضطلاع ب "مهمة التسيير، الاستشراف، الترصد في ما يتعلق بالأزمات والحيلولة دون وقوعها"، كما تقول الباحثة Alexandra Novosseloff التي صدرتم رسالتها الجامعية. في هذا الجانب بالذات، المتعلق بطريقة عمل منظمة الأمم المتحدة، ماذا يمكن أن يكون تعليقكم ؟
ل. ابراهيمي Alexandra Novosseloff قامت بعمل مهم حول الطريقة التي يتبعها مجلس الأمن في التخلي عن مهمته في مواجهة النزاعات المتزايدة منذ نهاية الحرب الباردة، الكثير من هذه النزاعات تجري في البلد الواحد. صحيح أن هذا الجهاز فيه كثير من النقائص. الحديث عن الحيلولة دون وقوع نزاعات أمر سهل كلاما لكن منعها على أرض الواقع مسألة أخرى هي أصعب بكثير. كما أنه ليس من السهل إدارة نزاع ما والتوصل إلى تسوية له. لقد قامت منظمة الأمم المتحدة بعمل لا بأس به في الكثير من الحالات. وكما قلنا من قبل، هناك الكثير من الدروس استخلصت من كل تلك البعثات التي أوفدتها المنظمة. وهناك دراسة قامت بها جامعة كندية تؤكد أن للمنظمة فضلا كبيرا في تقليص عدد الضحايا جراء الحروب التي يشهدها العالم في أماكن شتى. كما أن هناك دراسة أخرى، قامت بها هيئة "Rand Corporation"، تعترف أن عمليات السلام التي تباشرها المنظمة تحقق نتائج إيجابية، في الكثير من الأحيان أحسن من التدخلات الأمريكية وبكلفة أقل بكثير. هنا أيضا، نستطيع القول إن منظمة الأمم المتحدة تقوم بعمل مفيد حتى وإن ظلت دائما مطالبة ببذل المزيد من الجهود.
م. ش. مصباح أنتم صاحب التقرير الذي أثار ضجة كبيرة حول تقييم عمليات حفظ السلام التي بادرت بها المنظمة الأممية. إنها مسألة تتعلق بالجانب الآخر من عمل المنظمة. هناك حالات خلل كثيرة في هذا السياق لعل أهمها ذلك البون الشاسع بين مجلس الأمن بوصفه جهازا سياسيا حقيقيا وبين لجنة القيادة العامة للعمليات في الميدان والتي، على الرغم من أنه من المفروض أن تكون إسقاطا في الميدان، ليست، في الواقع، إلا جهازا تقنيا لا صلاحيات فعلية له. هذا، وتبقى قائمة حالات الخلل أطول. باختصار، ما هي حالات القصور التي سجلتموها وما هي التحسينات التي أجريت منذ ذلك الوقت ؟
ل. ابراهيمي التقرير الذي يحمل اسمي تم تحريره في ظروف معينة. أظن أنني أشرت إلى أن فوجنا عُهدت إليه مهمة استخلاص الدروس من كارثتي سبرينيتشاSrebrenica والبوسنة ومن أعمال الإبادة برواندا بغرض تجنب تكرار مثل هذه الفظاعات في المستقبل. أجل، مجلس الأمن هو جهاز سياسي ولا يمكن أن يكون غير ذلك مادام هيئة لتمثيل دول ذات سيادة. لجنة الأركان العامة مشار إليها في الميثاق إن لم تخني الذاكرة إلا أنها، وبكل بساطة، لم تر النور أبدا. صراحة، تلك البعثات التي شاركت فيها، لم أحس كثيرا بغياب مثل هذا اللجنة. ثم إن الأمانة العامة تتوفر فعلا، لاسيما منذ "تقرير ابراهيمي"، على طاقم عسكري مؤهل يسمح لدائرة حفظ السلام بالقيام بعملها التقني في مجال البرمجة والدعم اللوجيستيكي وما إلى ذلك. المشاكل المطروحة في هذا المجال تقع على مستوى آخر. فإذا وافق مجلس الأمن (أي أعضاؤه الدائمون في الحقيقية)، مثلا، على إرسال بعثة سلام من غير تحمس، أي من دون إرادة سياسية فعلية، فإن المهمة ستكون محصورة جدا والإمكانيات المسخرة غير مناسبة. في هذه الحالة، يتمتع الأمين العام بدور مهم يمكنه أن يمارسه. فتقريرنا السابق الذكر، يوصي الأمين العام صراحة بأن "يقول للمجلس ما هو في حاجة إلى أن يعرفه لا ما يريد أعضاؤه سماعه"، أي أن الإمكانيات ينبغي أن تكون في مستوى احتياجات المهمة. في مثل هذه الحالات، ينبغي على الأمين العام ومساعديه الرئيسيين ألا يترددوا في قول "لا" للمجلس. لقد فعلت ذلك أكثر من مرة في ما يخصني.
م. ش. مصباح في معرض حديثكم، في أحد مقالاتكم، عن أفاق تطور منظمة الأمم المتحدة، تشيرون، صراحة، إلى أن هذا التطور لا يمكن إلا يكون خاضعا بشدة للعلاقات القائمة بين القوى العظمى. في ما يتعلق بالتوقعات المستقبلية المنظورة، نجدكم لا ترون العالم ممثلا بتنوعه وعلى قدم المساواة، في مختلف هيئات المنظمة الأممية، ناهيك أن يكون له وزن في قراراتها.
ل. ابراهيمي فعلا، يبدو لي أن العلاقات القائمة بين القوى العظمى – الراهنة والمستقبلية – سيظل لها تأثير مهم، بل وربما حاسم، في تطور منظمة الأمم المتحدة. أظن أننا تعرضنا لهذه النقطة. على أية حال، المساواة النظرية بين جميع الدول، صغيرها وكبيرها، لا يمكن أن تغير واقع الحال مادامت البلدان الأكثر ثراء والأكثر قوة عسكرية والأكثر تعددا في السكان هي التي تستطيع أن تسمع صوتها أكثر من البلدان الفقيرة، الضعيفة والقليلة السكان. هكذا هي الأمور. وعليه، لا يتمثل غرض الدبلوماسية في تجاهل هذا الواقع وإنما في القيام بما من شأنه الأخذ بعين الاعتبار مصالح البلدان الضعيفة وفرض معاملة كل بلد، مهما قل شأنه، باحترام وتقدير وتمكينه من الإسهام، كل بحسب إمكانياته، في ما يُتخذ من القرارات تهم البشرية جمعاء. كما يتعين على تلك البلدان – لاسيما تلك التي أصبحت، في ما أظن، تعرف بالقوى الوسطى مثل الجزائر – أن تزيد في قوتها النوعية، أي القيام بما يسمح لها بإسماع صوتها أكثر حتى وإن قلت إمكانياتها المادية. يتم ذلك عن طريق نشاط حثيث وتحالفات تعقد هنا وهناك. لقد شكلت حركة عدم الانحياز زماما سمح لبلد مثل تنزانيا بإسماع صوته قويا أكثر من بعض البلدان التي تفوقه في الثروة وتعداد السكان. هذا النوع من التضامن هو الذي ينقصنا اليوم، للأسف الشديد...
VI. الجزائر في العالم
م. ش. مصباح لقد كنتم عضوا بارزا ضمن ذلك الجيل من الدبلوماسيين المناضلين الذين فرضتهم الثورة الجزائرية على الساحة الدولية. هل ترون أن الدبلوماسية "المناضلة" لم يعد لها دور ؟
ل. ابراهيمي لعلني أمْيل إلى القول إن الدبلوماسية " المناضلة" تبقى دائما قائمة، لكنها لا تمارَس بنفس الطريقة التي كانت تمارَس بها بالأمس. دبلوماسيونا اليوم هم أكثر تكوينا منا في ذلك الوقت، كما أنهم يتمتعون بميزة أخرى إذ يجدون أمامهم جهازا إداريا قائما يؤدي مهمات حتى وإن لم يكن الأداء على أحسن وجه. كما أن هناك إمكانيات أكبر لاسيما بفضل الصحة المالية الجيدة التي ننعم بها حاليا في الجزائر. لقد تقلد جيلنا مناصب لم نكن مستعدين لها وكانت إمكانياتنا متواضعة للغاية. كما أننا ارتكبنا أخطاء، لاشك في ذلك، لكن أظن أن الجانب النضالي الذي تحدثتم عنه تمثل، بالذات، في إدراك هذه النقائص وفي التواضع في محاولة تجاوز الذات لأننا كنا نعي، بالفعل، قلة الأدوات المتاحة لنا. في بعض الأحيان، نتحدث عن النزعة الإرادوية، صحيح لقد كان منها الكثير في ذلك الوقت... الروح النضالية التي يتحلى بها دبلوماسيونا اليوم تكمن، بالنسبة إليهم، في الاقتناع أن الدبلوماسية ليست عملا يتم في المكاتب فقط. إنها يقظة في كل وقت وفي كل مكان يجد المرء نفسه فيه. كما أنها تعني ضرورة شعور الدبلوماسي دائما بشرف تمثيله لبلده وبالمسؤولية المترتبة عليه، وبشرف تمثيل شعبه ورئيسه. بالإضافة غلى ما تقدم، ينبغي أن نؤكد أيضا أن لعالم يتغير.الجزائر نفسها لم يتعد تلك الجزائر التي عهدناها منذ ثلاثين أو أربعين سنة خلت. الحرب الباردة انتهت.الاشتراكية فقدت مصداقيتها. الرأسمالية، في أقسى أشكالها، تحقق انتصارا تلو الآخر. العولمة تتخذ صورا متعددة، وفي أغلب الأحيان على حساب البلدان الضعيفة وداخل البلد الواحد.الإسلاموية، بأشكالها الأكثر خبثا، ينبغي أن تحارب لكن أيضا أن تفهم أولا. ما تسميه الولايات المتحدة الأمريكية – وباقي العالم معها – ب "الحرب الشاملة ضد الإرهاب" قد كان من شأنها، في غالب الأحيان، تشجيع الإرهاب في ادعائها محاربته... على الصعيد الجهوي، الإشكاليات المغاربية، الغربية، الإفريقية والمتوسطية لم تعد تطرح بنفس الصيغة التي كانت تطرح بها في السابق.هذه كلها عناصر تشكل البيئة التي ينبغي على دبلوماسيينا – مثل باقي دبلوماسيي دول العالم – أن يعملوا في إطارها.
م. ش. مصباح من هذه الزاوية ،فمع نهاية الحرب الباردة و فقدان حركة عدم الانحياز لقوتها وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم كقوة كونية، هل نستطيع أن نعتبر أن المذهب الدبلوماسي المعتمد من طرف الجزائر – والموروث عن فترة انقضت على أية حال – لم يعد صالحا ؟
ل. ابراهيمي لا أدري، في هذه الحال أيضا، إن كان لنا، حقيقة، مذهب واضح وجاهز بما فيه الكفاية كما يُدَّعى اليوم. لعل في السابق كان لنا وعي عميق بضرورة خدمة البلد بأحسن طريقة ممكنة وحسب الإمكانيات المتاحة. ولقد شملتنا رأفة الناس في كل مكان من العالم أو تقريبا لأننا كنا نتعلم ونسعى لأن نتعلم جيدا. كما أظن أننا استفدنا من أمر آخر ألا وهو روح التضامن التي كانت تجمعنا. بطبيعة الحال، كانت هناك مشكلات وخلافات وحالات غيرة فعلا، بل وربما لم يكن بعض الإخوان في المكان المناسب. غير أنني أسمح لنفسي بالقول إن روح الاتحاد العام للطلبة الجزائريين ظلت سائدة لدى الكثير منا. هل أمريكا هي اليوم من القوة ما يجعلها تسود على الجميع من دون منازع ؟ لم لا ؟ لقد أشرت في هذا الحوار إلى أن أمريكا كانت دائما قوية. ومع ذلك، لا أرى، على الإطلاق، ما يحتم على أي بلد أن يفقد شخصيته أو يركع أمام أي كان. وكما قلتم أنتم ذاتكم، إن أمريكا لا تعرف إلا مصلحتها الوطنية فلم نخاف، إذاً، أو نشعر بالحرج أن نتحدث، نحن بدورنا، عن مصلحة بلدنا ومصلحة منطقتنا وأشقائنا وجيراننا ؟ انطلاقا من تجربتي الشخصية، أعلم كيف أن الأمريكيين يسحقون من يتملق لهم ويحترمون كثيرا من يواجههم بشرف وبصراحة وصدق ومن دون أن يحاول الظهور وكأنه مصارع ثيران بطبيعة الحال. وكثيرا ما أقول إن من يرضى التحول إلى متملق أمام الأقوياء لا حق له في الاشتكاء إن قام هؤلاء بمسح أحذيتهم على بطنه.
م. ش. مصباح لقد كنتم وزير الجزائر الشؤون الخارجية في بلدكم وبقيتم في اتصال وثيق بدبلوماسية بلدكم بعد انتقالكم إلى منظمة الأمم المتحدة. بكل موضوعية، هل تعتبرون أن ما يميز الدبلوماسية الجزائرية من نقائص سببه الرجال أم الأجهزة وقواعد العمل ؟
ل. ابراهيمي ........................
م. ش. مصباح لقد استقلتم من منصبكم كوزير للشؤون الخارجية في عهد المجلس الأعلى للدولة سنة 1993. هل لايزال من السالف لأوانه معرفة أسباب هذه الاستقالة ؟
ل. ابراهيمي سأندهش كثيرا لو تبين لي أن هذه الواقعة العابرة تشغل بال قرائكم. لنقل إن جوان 1991 لم يكن أحسن وقت لتقلد منصب وزير للشؤون الخارجية في الجزائر. غير أنه في ثقافة جيلي يصعب، بل يستحيل، على المرء أن يقول "لا" عندما يدعى إلى الخدمة في سبيل الوطن . ثم إنني كنت أريد العودة إلى البلاد. ليس سرا، على ما أظن، في أنني حذرت الجميع من مغبة إجراء انتخابات في شهر ديسمبر من تلك السنة ويبدو ألا أحد توقع إمكانية فوز جبهة الإسلامية للإنقاذ فيها. وربما كان من المفروض أن أستقيل أثناء توقيف المسار الانتخابي، لكن كيف كان بإمكاني أن أفعل وها هو بوضياف يعود إلى الوطن ؟ الفرصة الأخرى التي أتيحت لي لتقديم استقالتي كانت عندما اغتيل بوضياف، لكن كيف كان بإمكاني أن أفعل وها هو بلعيد عبد السلام يصبح رئيسا للحكومة ؟ وعليه، لماذا استقلت في فبراير 1993 ؟ لنقل باختصار إني لم أكن أحس أنني كنت أقدم فائدة في المنصب الذي كنت أشغله. في مثل هذه الظروف، من الأحسن الانسحاب بشرف وفي كنف الحشمة أيضا. لم أكن، حينئذ، أتوقع أن أبدأ، على التو تقريبا، مسيرة مهنية جديدة، في إطار منظمة الأمم المتحدة هذه المرة، والفضل في ذلك يعود إلى صداقة د. بطرس غالي الذي سأبقى شاكرا له هذا الفضل دائما.
م. ش. مصباح لكن لاشك أنكم تتفقون معي إن قلت لكم إن ممارسة المهمة الدبلوماسية هي أيضا مسألة قناعة. وعليه، هل نستطيع القول إن الدبلوماسيين الجزائريين الحاليين تحدوهم نفس الروح مثل أولئك الدبلوماسيين المناضلين الذين سبق ذكرهم ؟
ل. ابراهيمي أظن أنني أشرت بما فيه الكفاية إلى هذه النقطة. على مستوى منظمة الأمم المتحدة، غالبا ما كنت أقول لزملائي الشباب إن العمل في إطار بعثات حفظ السلام لم يكن لا وظيفة ولا مجرد منصب وإنما رسالة. أظن أن الدبلوماسية، حتى في حالة البلد المستقل، ينبغي أن تعتبر أيضا بمثابة الرسالة. بالنسبة إلينا، نحن "الدبلوماسيين المناضلين"، نشاطنا إبان حرب التحرير لم يكن غير ذلك، أي رسالة بأتم معنى الكلمة. لكن بعد الاستقلال، وحتى بالنسبة إلينا نحن أيضا، صار العمل الدبلوماسي مسيرة مهنية وصارت لنا انشغالات متصلة بالترقية وبالتقاعد. أصبحنا نفكر في العائلة وفي الأولاد وفي السكن. وعليه، ليس هناك ما يمنع أبدا الدبلوماسي، مثلنا بالأمس وأكثر منا اليوم، من التفكير في هذه الجوانب. أتذكر أن الحكومة عندما كانت بصدد إعداد توصيف المهنة الإدارية في عهد الرئيس بومدين، ألح هذا الأخير على ضرورة جعل كل موظف يشعر بالطمأنينة التامة بشأن مسيرته المهنية ووضعه العائلي كي يتسنى له التفرغ الكامل لعمله.
م. ش. مصباح كما أشرنا إلى ذلك طيلة حوارنا، العولمة زاحفة لا محالة وبوتيرة لا رحمة فيها. الانقلاب العميق في أوضاع العالم هذا يجعل الكثير من البلدان تفقد روحها إن لم نقل وجودها ذاته. هل بإمكان الجزائر أن تطمح إلى مكانة ما في هذا العالم المتقلب الأحوال ؟
ل. ابراهيمي إن العولمة ليست خيارا ولا كارثة، أو على الأقل ليس بالضرورة ! إنها واقع ماثل أمامنا. لقد تغير العالم ولا يجدي نفعا البكاء على الماضي كما يفعل شعراؤنا في الطرب الأندلسي. ألا يحثنا رسولنا على تربية ذريتنا بطريقة مختلفة عن التي تربينا عليها لأنهم سيعيشون في زمن غير زمننا ؟ على أية حال، العولمة فيها جوانب سلبية طبعا، سلبية للغاية. بسببها، يزداد، في الكثير من الأحيان، الأثرياء ثراء والفقراء فقرا. وإليكم هذه النسب المغنية عن كل تعليق 1  من سكان العالم يملكون 50  من الأموال الشخصية، في حين لا يملك 50  من هؤلاء السكان سوى 1  من هذه الأموال ! كما أن الأجر السنوي الأكثر ارتفاعا في العالم هو أجر الرئيس المدير العام في الشركات الأمريكية، أي حوالي 400 مليون دولار ! بينما الأجر المتوسط لفقراء هذا العالم، لا يتعدى من 200 إلى 300 دولار ! هذا إنما هو مجرد معدل؛ مما يعني أن هناك ربما عشرات أو مئات الملايين في العالم ممن يتقاضون أقل من ذلك، وربما أقل من دولار واحد في اليوم ! هذا التفاوت لا يمكن تحمله وليس هناك ما يدل حاليا على وجود حرص على التقليص فيه. إن عودة الرأسمالية الشاملة على أنقاض التجارب الاشتراكية – بنوعيها "العلمية" و"الخصوصية" – لا تتسبب في تقوية هذا التفاوت على حساب بلدان الجنوب فقط، وإنما تخلق أيضا جيوب فقر واسعة في بلدان الشمال ذاتها. في الجنوب، تعرف البلدان النامية والبلدان الراكدة على السواء نفس المعضلات إذ هناك أقلية تثرى ثراء فاحشا بينما تزداد الجماهير الواسعة فقرا. ينطبق هذا الوضع على أكثر البلدان الإفريقية فقرا كما ينطبق على بلدان مثل الهند، روسيا أو الصين، بل وحتى على بلد مثل المملكة العربية السعودية ! من المفهوم والمشروع جدا أن نتحدث عن الصعوبات التي تتسبب فيها العولمة ونحاول، وهذا ما هو أحسن، أن نخفف من وطأتها. غير أنه من المستحيل العيش، ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين، خارج هذا العالم المعولم. لم يبق لنا إلا هذا الإطار. لكن هل، فعلا، لا خيار في هذا العالم إلا فقدان الروح أو الزوال ؟ انظروا إلى اليابان وسترون كيف أن اليابانيين عرفوا كيف يتحكمون في كل جديد يأتيهم من العالم المعاصر، من دون أن يتخلوا لا عن لغتهم ولا عن تقاليدهم. هذه التقاليد هي دائما في تطور، لاريب في ذلك، لكن برفق وفي كنف الانسجام والتماسك. أنظروا أيضا إلى أقرب من اليابان – بالمعنى الزمني لا بالمعنى المكاني طبعا – صوب الهند والصين، ماذا ترون ؟ آخر زيارة لي إلى الصين كانت سنة 1982، أي في بداية – وكانت بداية لا زالت محتشمة – لنهاية الثورة الثقافية. لقد قال لي مسؤول سام في الحزب الشيوعي الصيني آنذاك، وبحسرة وقلق شديدين، "هذه الثورة الثقافية كانت كارثة علينا. لقد جعلتنا نضيع من الوقت ثلاثين سنة على الأقل !". انظروا أين وصلت الصين اليوم. إنها تحقق معدل تنمية يقدر ب 8  إلى 10 منذ عشرين سنة على الأقل. ادخلوا محلا لبيع الأحذية، الأجهزة الإلكترونية أو الملابس بنيويورك أو واشنطن فستجدون أنه من الصعب العثور على منتوج لا يحمل العلامة الصينية. الهند، من جهتها، أخذت وقتا أطول في الانطلاق إلا أنها انطلقت. في هذا البلد، تجد لدى المثقفين، أرباب الصناعات والطبقة السياسية من الحماسة النشطة ما يجعلك تظن أن الانطلاقة وقعت ولن تتوقف. ألم يقدم واحد من أقطاب الصناعة في الهند، ميتال، على شراء مصنع الحجار للحديد والصلب في بلادنا بعدما اشترى تقريبا كل المصانع من هذا النوع في أوروبا ؟ الجامعات الأمريكية مملوءة بالهنود والصينيين، وليس هؤلاء طلبة فقط وإنما أساتذة أيضا. إنهم "جوالة" ينتقلون من مكان إلى آخر. إنهم اليوم بأمريكا لبضع سنوات ثم سيعودون إلى بلدانهم للعمل بمؤسسات مماثلة لينتقلون، من جديد، إلى أماكن أخرى من العالم... حينما كانت الصين متخوفة بشأن مستقبلها وكانت الهند عاجزة عن الانطلاق، انعقد ملتقى ضم جامعيين ودبلوماسيين – بالمكسيك على ما أظن – وخرج، بكل ثقة، بنتائج تفيد بوجود بلدين من العالم الثالث كانا مؤهلين، أكثر من سواهما، للانطلاقة الاقتصادية كما كان يقال في ذلك الوقت. هل تدرون من هما هذان البلدان ؟ ثقوا.. لا الهند ولا الصين، وإنما الجزائر والعراق ! كان ذلك سنة 1980... العقدان الأخيران من القرن المنقضي في بلدنا كان أحدهما عقيما، بل حصل فيه تقهقر، والثاني كابوسا حقيقيا. اليوم نحن بصدد الخروج من هذا الكابوس وعلينا أن نمضي قدما نحو وضع حد لحالة العقم. إن لنا، وعلى الرغم من كل تلك الصعوبات التي نواجهها اليوم، ما يفوق ماكان للهند والصين من الإمكانيات كي نصل إلى ما وصلا إليه، ولمَ لا أكثر ؟
VII. بعض القضايا الساخنة حاليا
م. ش. مصباح بناء المغرب العربي يواجه حاليا عقبة تسوية نزاع الصحراء الغربية. لكن قبل الخوض في أحسن طريقة لتسوية هذا النزاع، هل لكم أن توضحوا لنا ما إذا كان النزاع يمثل حالة كلاسيكية من حالات القضاء على الاستعمار أو هو رهان له صلة بالأمن القومي للجزائر أو حتى طريقة تُستعمل في تجاوز الخصومات المغاربية ؟
ل. ابراهيمي أنا أنتمي إلى ذلك الجيل الذي كان يؤمن فعلا بالحلم المغاربي، لكننا لم نهتد إلى تجسيده. لاشك أن لكلنا، جماعة وأفرادا، قسطا من المسؤولية في هذا الإخفاق. هل معنى ذلك أنه علينا أن نتخلى اليوم عن هذا الحلم ؟ أظن، من كل أعماقي، أنه من واجبنا ألا نتخلى عنه. إن اتحاد البلدان المغاربية ليس ممكنا فقط وإنما ضروري فعلا. أتمنى من كل قلبي أن يستلم الجيل الحالي، وفي كافة هذه البلدان، المشعل. في ما يخص نزاع الصحراء الغربية، من منا لا يرى فيه عائقا كبيرا ؟ إلا أنني اعتزلت السياسة كما يقال، ومنذ مدة طويلة. لذلك، لا أريد أن أحاضر حول موضوع يسعى غيري لتدبير أموره. أرجو ألا تعتبروا كلامي هذا مجرد "لغة خشب" ولْنتمنَّ، جميعا، "كل التوفيق للحكومة المغربية وحركة البروليزاريو في لقاءاتهما المستقبلية".
م. ش. مصباح هل لكم تصور ما حول كيفية تسوية هذا النزاع ؟
ل. ابراهيمي الحل بيد المعنيين به.
م. ش. مصباح مسيرة السلام في الشرق الأوسط تراوح مكانها كما هو واضح. هل يتعلق الأمر بأزمة عابرة أم باستمرار مصادر موضوعية للتوتر بين الشعب الفلسطيني وإدارة الاحتلال ؟
ل. ابراهيمي الأوضاع في فلسطين محزنة للغاية وتبعث على الثورة ضدها. في هذه القضية أيضا، أنتمي إلى جيل أكتسى حل مشكل الفلسطينيين أهمية خاصة بالنسبة إليه. وقد سعت الجزائر جادة لوضع حد لتلك الوصاية الحقيقية الممارسة على الشعب الفلسطيني من طرف البلدان العربية. إقامة السفير الجزائري بالقاهرة، سنة 1964، هي التي توصل فيها أحمد الشقيري والسفير الأردني إلى تجاوز الصعوبات الأخيرة أمام قيام منظمة التحرير الفلسطينية. ونفس الإقامة أيضا هي التي شهدت لقاء ياسر عرفات، مباشرة بعد تعيينه رئيسا للمنظمة، بالصحافة الدولية لأول مرة، سنة 1968. والجزائر العاصمة هي التي تم فيها، أربع سنوات من بعد، اعتراف الجامعة العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. كما أن عاصمتنا هي التي احتضنت أيضا، سنة 1988، اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الذي أعلن ميلاد الدولة الفلسطينية... لقد صار موضة اليوم انتقاد ياسر عرفات في بعض الأوساط. في الحقيقة هو ورفاقه هم الذين حملوا العالم بأسره على الاعتراف بوجود شعب فلسطيني. لنتذكر ما كانت غولدا مايير تقوله، في بداية السبعينيات : "لا وجود للشعب الفلسطيني". اليوم الأمريكيون والإسرائيليون أنفسهم لا يستطيعون أن ينكروا هذا الواقع. يبقى الآن إقامة الدولة الفلسطينية وضمان الاعتراف لها. في وقت ما، كنا نظن الأهم قد تم، لكن، للأسف، ليس ذلك هو الحال اليوم، وها نحن نشاهد ورثة ياسر عرفات، أبو جهاد، أبو عياد، جورج حبش، وديع حداد وغيرهم من المناضلين الفلسطينيين يرتكبون أخطاء جسيمة، أمام عيوننا وعيون شعوب العالم أجمع. هناك العشرات من الفلسطينيين ممن يسقطون برصاص أشقائهم، وهناك العديد من المكاتب الفلسطينية تتعرض للنسف. لماذا ؟ هل من أجل الاستيلاء على الحكم؟ أي حكم؟ كل هذه الأعمال مخيبة للظن وتثير الاشمئزاز. ينبغي أن نقول إلى كل هؤلاء القادة – لاسيما ممن هم في صفوف حركة فتح – أنتم بصدد القضاء على مصداقيتكم. ألا ينبغي على هؤلاء أن يستحوا ويتركوا مكانهم لغيرهم ؟
م. ش. مصباح معنى ذلك ألا حظ بقي لخارطة الطريقة التي جاءت بمبادرة من اللجنة الرباعية !
ل. ابراهيمي اللجنة الرباعية فقدت مصداقيتها منذ مدة، وما عليكم إلا الاطلاع على التقرير السري الذي قام به Alvaro de Soto، ممثل منظمة الأمم المتحدة في النزاع العربي الإسرائيلي، الذي قدم استقالته منذ أيام. لقد استطاعت اليومية البريطانية، The Guardian، وضع يدها على نسخة من هذا التقرير الذي أصبح في متناول الجميع الآن. يبين التقرير مدى السخافة التي وصلت إليها الأمور تحت السيطرة الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية. لقد فقدت فيه الأمم المتحدة "روحها" كما قلتم. منذ البداية، وبينما وافق الفلسطينيون على خارطة الطريق، قام الإسرائيليون بتقديم ما لا يقل عن أربعة عشر تحفظا حولها. في الواقع، لم يأخذ الإسرائيليون هذه الوثيقة أبدا على محمل الجد، وكذا الأمريكيون حسب رأيي. بالنسبة إلي، هذه الوثيقة ماتت وربما من الأحسن هكذا كي نقضي على تلك الذريعة المنافقة السهلة. الاقتراح العربي – و هو سعودي في الأصل- المعتمد في قمة بيروت والذي خرج، أثناء قمة الرياض الأخير، من طي النسيان، هو أكثر جدية ويستحق كل التأييد من طرف البلدان العربية أنفسها. لكن، في الظرف الراهن، ينبغي أن يوضع، أولا وقبل كل شيء، حد لبوادر الحرب الأهلية التي ستقضى، ونكررها مرة أخرى، على مصداقية قادة فتح وقادة حماس معا.
م. ش. مصباح موقف إيران بخصوص برنامجها النووي هل يبدو لكم أمرا مشروعا ؟
ل. ابراهيمي من الناحية التقنية، لا أعرف تقريبا أي شيء عن الملف النووي. لكن على المستوى العملي، من الواضح أن القوى العظمى مادامت رافضة الحديث الجاد حول وضع حد للتسلح الشامل – على الأقل في ما يخص الأسلحة النووية – ستبقى هناك دائما بلدان تسعى للحصول على القبلة النووية. في منطقتنا، هناك، بطبيعة الحال، المشكل الخاص بإسرائيل التي يعرف العالم أجمع أنها تملك القنبلة النووية ووسائل إطلاقها. للتذكير فقط، فرنسا كانت أول من ساعد إسرائيل في هذا المجال، قبل الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن العالم، لاسيما القوى العظمى، لا يريد البتة الخوض في هذه المسألة. وفي هذه الحالة، أنّى لنا أن نمنع بلدا أو اثنين أو ثلاثة من القيام، بالضرورة، بنفس ما قامت به إسرائيل ؟ اليوم، إيران هي التي تحتل الصدارة في هذه المسألة، وعندما تصبح لهذا البلد قنبلته، تأكدوا من أن الكثير من البلدان ستحذو حذوها بحجة ضرورة اللحاق بإيران.
م .ش. مصباح تعاملكم القريب مع العديد من الأزمات في أماكن حساسة من العالم الثالث لابد وأنه أطلعكم على مصدر التخلف الذي يكاد يتخذ، في بعض الأحيان، شكلا مزمنا. من المعلوم أن العالم المتقدم هو الذي ابتكر فكرة "الحكم الراشد" التي صار الجميع يجترها. وقد قرأت منذ أيام فقط واحدا من تصريحاتكم تؤكدون فيه أن "لا بديل للمشروعية الصادرة عن انتخابات حرة ونزيهة". في رأيكم، فكرة "الحكم الراشد" هذه بالذات، هل هي مرهونة بقيام النظام الديمقراطي ؟
ل. ابراهيمي لا أدري أين وجدتم هذا التصريح القاضي بألا وجود لمشروعية نظام حكم إلا عبر الانتخابات. لعله تصريح أخرج من سياقه. بحكم الأوضاع، تجدني، في كل مرة أتحدث عن هذا النوع من القضايا. إلا أن موقفي هو، في الواقع، أدق. لقد انتقدت منظمة الأمم المتحدة كثيرا، وغيرها، لأننا، في أوائل التسعينيات، كنا نعتقد أنه يكفينا، للخروج من الأزمة، أن نجري انتخابات وكل شيء سيكون على ما يرام بهذه العصا السحرية. أعتقد أننا ندرك اليوم أن الانتخابات لا يمكن أن تفضي إلى النتائج الإيجابية المرجوة منها إلا إذا اندرجت في إطار مسار سلمي منسجم وجاءت في الوقت المناسب من تطور هذا المسار. الانتخابات المتسرعة في أنغولا، سنة 1992، أدت إلى بعث الحرب الأهلية من جديد لعشر سنوات طويلة. كما يبدو من الواضح، أن سلسلة الانتخابات التي جرت في العراق مابين 2005 و 2006 لم تحل أي مشكل. بالعكس، لقد عقدت الأمور أكثر ورمت بالبلد في هوة لا قرار لها.
وعليه، هناك، حقيقةً، مشكلة حكم في العديد من البلدان، بل هناك الكثير من المشاكل، تختلف وتتنوع من حالة إلى أخرى. يسري ذلك، بصفة خاصة، على عدد من البلدان التي عرفت أزمات معقدة. المسائل المرتبطة بالحكم صارت الموضوع المفضل لدى الكثير من وكالات منظمة الأمم المتحدة، بما في ذلك بعض دوائر الأمانة العامة ذاتها. في ذات السياق، من المزمع أن أشارك في ندوة كبيرة ستعقد بفيينا حول هذه المشاكل. لكن، منذ بضع سنوات، هناك تطور إيجابي تلوح معالمه في الأفق. لا ننسى أن الاعتقاد الراسخ الذي ساد في وقت ما أفاد أن الدولة كانت، في أغلب الأحيان، هي المسؤول الأول عن الأزمات، النزاعات الداخلية وسوء الحكم بوجه عام ؛ وهو ما كان يذهب في نفس الاتجاه تماما مع الخوصصة الحثيثة للحرب ذاتها كما ذكرنا في معرض حديثنا عن الأوضاع في العراق. لقد كنت من بين هؤلاء الذين كانوا يعتقدون أن الشر لم يكن آتيا من الدولة وإنما من الطريقة التي كان الحكم يُمارس بها. وإذاً، فالحل لا يكمن في القضاء على الدولة أو تحييدها وإنما في تطورها نحو وضع الدولة المقتدرة. أثناء ندوة فيينا التي ذكرتها منذ حين، أنوي أن أقول إن العون الذي يمكن أن نقدمه لبلد ما هو بصدد الخروج من أزمة لابد أن يظل متمحورا، بكل عزيمة، حول إعادة بناء المؤسسات الرئيسية للدولة، لاسيما تعزيز كل ما له صلة بدولة القانون، العدالة، الشرطة والجهاز القضائي.
في هذا السياق، هناك الكثير من المنظمات غير الحكومية في العالم الغربي ومزيد من الحكومات الغربية التي تحولت إلى "معط للدروس" للعالم أجمع، لاسيما بلدان العالم الثالث، بطبيعة الحال. يبدو لي أن مثل هذه الطريقة لا ينبغي أن تعقِّد أحدا. كما يلزم، في الكثير من الأحيان، وضع هذه المنظمات وهذه الحكومات عند حدها مع إبراز ما يميز تدخلاتها من نفاق. ومع ذلك، المقصود ليس اعتبار أي نقد صادر عن المنظمات والحكومات الغربية هو، بالضرورة، فاقد لأية صحة وأنه مغرض. انتقاد الفساد والرشوة، التعذيب والتعسف ينبغي أن يكون محل ترحيب، كما أن أفضل طريقة في إسكات صوت من يهوى إعطاء الدروس لا تكمن في نكران ما هو ثابت وإنما في إظهار القدرة على النقد الذاتي وعلى ممارسة الحكم بطريقة سليمة.
م. ش. مصباح خلال مسيرتكم كلها، لاسيما في مراحلها المتأخرة، وجدتم نفسكم تواجهون ظاهرة الإسلاموية. هل تنذر هذه الظاهرة بصحوة إسلامية ؟ أم هي علامة على انتفاضة "مجتمع خابت آماله" أو مؤشرا لأزمة نمو لم يستطع العالم العربي والعالم الإسلامي تجاوزها بعد ؟
ل. ابراهيمي إنه سؤال صعب تطرحونه علي. يتهيأ لي هنا أن الأجانب يتناولون مشكلة الإسلاموية باهتمام مقارنة مع المسلمين أنفسهم. إلا أن ذلك لا يعني أن الأجانب قد اهتدوا إلى فهم كامل للظاهرة. أما في ما يخصني، فلدي الملاحظات الأربع الآتية :
أول ملاحظة : من الضروري أن تفهم مجتمعاتنا عموما – لا حكوماتنا فقط – أنه عليها أن تقر بجزء من المسؤولية في هذا المجال. فإذا بدأ شباب كانوا زملاء لأولادنا في المدرسة، فجأة، بقتل جيرانهم، وقتل صبيان، وتخريب مدارس، مستشفيات ومصانع، وتمنطقوا بمتفجرات لقتل غيرهم وقتل أنفسهم معهم، لابد وأن يكون لنا، كلنا، جزء من المسؤولية في ذلك. أليس كذلك ؟
الملاحظة الثانية : لن نستطيع التحكم في هذه الظاهرة ما دام قادتنا الدينين مفتقرين إلى أية نظرة حقيقية للأمور ولا يتمتعون حتى بسلطة معنوية مهما كانت. من المحزن، مثلا، أن نجد أعلى سلطة الدينية في مصر تصدر فتوى من ذلك الصنف الذي أبرزته الصحيفة الأمريكية New York Times على صفحتها الأولى منذ أيام فقط مفيدة أن امرأة سألت إن كان باستطاعتها أن تعمل بمكتب لا يوجد به سوى الرجال. فجاءت الفتوى هكذا : "لا يحق للمرأة ذلك إلا إذا كان هؤلاء الزملاء من المحارم". وقد أضافت الفتوى أن هذه المرأة كانت "قادرة على المواصلة على العمل في ذات الظروف إن هي أرضعت كل زميل لها خمس مرات، فيصبح كل واحد منهم ابنا لها بالرضاعة" !!!
الملاحظة الثالثة : وتتعلق بمهمة التربية التي تلقنها المدرسة وتلك المكتسبة عن طريق الأسرة. في جميع البلدان الإسلامية، المنظومة التربوية في أزمة. هناك الكثير مما يجب أن تقوم به هذه البلدان بخصوص هذا الجانب.
الملاحظة الرابعة : "سوء الحياة" في مدننا، بل وحتى في قرانا، يطرح مشكلا. يقال لي إن الشباب في الجزائر كما في المغرب (وفي بلدان أخرى، لاشك) يبدأون بمحاولة الحصول على فيزا أي تأشيرة الزيارة – إلى أي مكان، لا يهم ! – ولا ينظرون في إمكانية الالتحاق بمجموعة من الإرهابيين إلا بعد الإخفاق في هذه المحاولة.
وأخيرا، من الواضح أن الحرب الشاملة ضد الإرهاب التي يظل الرئيس بوش يتغنى بها لا تحقق انتصارات ملحوظة، بل يمكننا القول إنها تشجع على نمو الإرهاب. وعليه، من المهم التخلي عن هذه الطريقة. للمسلمين دور رئيسي هنا مادام الإرهاب يحصد أرواح المسلمين خاصة، وفي بلدان إسلامية. فلماذا، إذاً، الأمريكيون والغربيون هم الذين يقومون بهذه الحرب كما يحلو لهم ؟
م. ش. مصباح في البلدان المتطورة، عملية اتخاذ القرار تتدخل فيها، على مستويات مختلفة، النخبة الوطنية (الجامعات ومراكز البحث)، الأجهزة الإدارية الدبلوماسية (الإدارة المركزية والسفارات) ومصالح الاستعلام الخارجية قبل أن يتخذ القرار النهائي من طرف الهيأة السياسية المخولة (الوزير الأول أو رئيس الجمهورية). هذه الصيغة هل تبدو لكم صالحة في جميع الحالات ؟ br


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.