قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (القصص: 77). إن الله تبارك وتعالى إذا أعطى عبده من الدنيا فينبغي أن يبتغي بها ما عند الله بالإحسان والصدقات والأعمال الصالحات، ولا يقتصرَ على مجرد نيل الشهوات واللذات وبلوغ المراتب في الدنيا والدرجات، فعلى العبد أن لا ينسى نصيبه من الدنيا وحظه من الآخرة، بل يستمتع بدنياه استمتاعا لا يُثلِم دينه ولا يُفسده، وينفق لآخرته ولا يضر بعاقبته.إن إقامة دين الله في الأرض يحقق الفلاح في الدنيا والآخرة على السواء، فلا افتراق بين دين ودنيا، ولا اختلاف بين دنيا وآخرة، فدين الله هو منهج واحد للأولى والآخرة، للدين والدنيا، كما قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 66) وقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96) فالإيمان والتقوى كما يكفل لأصحابه جزاء الآخرة بثواب الجنة الحسن، كذلك يكفُل صلاحَ أمر الدنيا ويحققُ العيشة السوية الكريمة، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وفرةً ونماءً وكفاية، فليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة. وعلى هذا؛ فإذا تنكبت الأمة وتنكرت لهذا الطريق –طريق الإيمان والتقوى- فسَد حالها في الدنيا وخسرت أيضا الآخرة.وإن الله تعالى لما خلق الدنيا والآخرة جعل لهما منهجا إيمانيا وتشريعيا، بحيث لا يجعل الدين بديلا عن الدنيا، ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا عن سعادة الدنيا، ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا، وهذا ليس مستحيلا على الله الحكيم العليم، وهذه الحقيقة قد تلاشت عند كثير من الناس، فقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير منهم، بحيث اعتقدوا أنه لا سبيل للالتقاء بين الطريقين، فعلى الإنسان إما أن يختار طريق الدنيا فيُهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيُهمل الدنيا من حسابه، فلا سبيل للجمع بينهما في تصور ولا واقع. وواقع الناس في هذا الزمان يوحي بهذا الاستنتاج، فأوضاع بعض الناس اليوم وهم يعيشون الحياة البعيدة عن الله تُباعد بين طريق الدنيا والآخرة، وتلزمهم واقعا خاطئا، بحيث سيطر فهمٌ على الذين يريدون الغوص في الدنيا والانتفاع بكل ما فيها أن يتخلوا عن طريق الآخرة، ويتحللوا من الدين والأخلاق والآداب التي يحض عليها الدين، وفي الوقت نفسه سيطر فهم آخر على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعَها القذرة، فالوسائل التي يصل بها الناس إلى أغراضهم الدنيوية عند هؤلاء في مثل هذه الأوضاع وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للشرع والدين والخلق، ولا مُرضية لله سبحانه. وهذا كله ليس بصحيح، فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة التي لا تقبل التبديل، وإنما ذلك عارض ناشئ من انحراف طارئ. فالأصل في الحياة الإسلامية التي جاء بها الشرع أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، كما قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)، وهذا المعنى ظهر جليا على لسان الصحابة رضوان الله عليهم، فحين حمل الأولون رسالة الإسلام إلى أصحاب المدنية الفارسية ذكروا أنهم جاءوا ليجمعوا بين تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، فقال ربعي بن عامر: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.فهذا المنهج الإسلامي الرباني وحده هو الذي يجعل العلم والعمل حسب أمر الله عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، يتم بها تنفيذ أوامر الله في إصلاح الدنيا والآخرة، ويُعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج الشريعة طاعة ينال العبد عليها ثوابا في الآخرة، ويظفر بخيرات الأرض التي سخرها له ربه، فالإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الأرض والكونَ المسخر له يُعتبر عاصيا لله، ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها، تاركا للأسباب التي جعلها الله سببا لصلاح دنياه، فكما أن التارك لفرائض وأركان الإسلام يكن عاصيا لربه ناكلا عن امتثال أوامره التي جعلها الله سببا لصلاح آخرته، كذلك الذي يترك أسباب الكسب والمعيشة يكون معطلا لرزق الله الموهوب للعباد، جافيا عنه، راضيا بما يُلقمه الناس من فضلاتهم، فيقف ذليلا بأبوابهم وقد ترك الباب الذي فتحه الله ليكسب الدنيا والآخرة، وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا، وقد أمرنا الله بالقيام بأسباب الكسب للدنيا والآخرة كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 9/10)، فهذا الدين وسط يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق، فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 134)إن ديننا يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج، وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله، فلا يظلم ولا يغدر، ولا يغش ولا يخون، ولا يأكل من السحت، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولا يسرق ولا يختلس ولا يحتكر، فالإسلام يسجل للفرد عمله في هذه الحدود وفق شرع الله عبادة يجزيه عليها بالبركة في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.إن الشعائر التعبدية من صلاة وذكر وصيام وحج ونحوها أمور ليست منفصلة عن شؤون العمل والإنتاج، بل هي شطر معين على أداء الشطر الآخر، فالإسلام لا يقدم الآخرة بديلا عن الدنيا ولا العكس، إنما يقدمهما معا في طريق واحد، وبجهد واحد، ولكنهما لا يجتمعان معا في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة، فالإيمان والعبادات والصلاح والتقوى تمثل الضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق الحياة المرضية عند الله الكريمة للإنسان، فلا تصادم بين الدين والحياة، فالدين يشمل الحياة ويستغرقها كلها، ولذلك قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 62/63).