هل صحيح أن العلوم غير العلم الشرعية لن تفيدنا في شيء وأنه علينا أن نهتم بكيفية إصلاح آخرتنا والتفقه في الدين، فإن بقي لنا وقت يمكن البحث فيه في أمور الدنيا بحثنا، ولن يبقى لأن العلوم الشرعية بحر، ولن نسأل أمام الله عن إعمار الأرض؟ يقول العلماء إن العبادة التي خلقنا الله لأجلها هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهي تجمع الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فهي ميدان واسع وأفق رحب، حيث تشمل الفرائض والأركان والنوافل والمعاملات والأخلاق، كما تشمل كيان الإنسان كله وجوارحه وحواسه، فالمسلم يعبد الله تعالى في كل أوقاته وأحواله وحياته كلها لله، قال تعالى "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، فبإمكان المسلم أن يحول حياته كلها إلى أجر وثواب وطاعة وعبودية لله تعالى، ويكون ذلك باستصحاب النية الصالحة في أعماله العادية، وقال أهل العلم إن طالب العلوم الدنيوية إن احتسب الأجر ونوى نفع نفسه ونفع أمته وتقويتها وكفايتها مما تحتاجه في مجال دراسته، فهو مأجور عليها وينبغي أن يوازن بين دراسته وتعلمه هذا وبين عبادته وعمارته لآخرته، وهذا كما قال «معاذ» رضي الله عنه "أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، وقال الإمام «النووي» "مَعْنَاهُ أَنِّي أَنَام بِنِيَّةِ الْقُوَّة وَإِجْمَاع النَّفْس لِلْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطهَا لِلطَّاعَة، فَأَرْجُو فِي ذَلِكَ الأَجْر كَمَا أَرْجُو فِي قَوْمَتي، أَي صَلَوَاتِي"، وقال «ابن حجر» "حَاصِله أَنَّهُ يَرْجُو الأَجْر فِي تَرْوِيح نَفْسه بِالنَّوْمِ لِيَكُونَ أَنْشَطَ عِنْد الْقِيَام، وَفِي الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَنَّ الْمُبَاحَات يُؤْجَر عَلَيْهَا بِالنِّيَّةِ إِذَا صَارَتْ وَسَائِلَ لِلْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَة أَوْ الْمَنْدُوبَة أَوْ تَكْمِيلا لِشَيْءٍ مِنْهُمَا"، والأمر الثاني أن هناك حقوقا على العبد كثيرة، منها ما هو لله ومنها ما هو لنفسه ومنها ما هو للناس، والمسلم الموفق هو الذي يؤدي لكل ذي حق حقه، كما جاءت السنة النبوية "إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه"، وهنا قال العلماء إنه ينبغي أن يوازن العبد بين أعماله في أمر دينه ودنياه، بتحصيل ما ينفعه في معاشه ومعاده، فلا رهبانية فيه كرهبانية النصارى، ولا مادية كمادية اليهود، وإنما نأخذ من دنيانا لآخرتنا، ولا غنى لمسلم عن واحدة منهما، وقال الله تعالى "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين"، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي"، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم من قدر نفع الخلق وإعانتهم وقضاء حوائجهم حتى فضل ذلك على الاعتكاف الذي هو تخلٍ وتفرغ كامل للعبادة، فقال صلى الله عليه وسلم "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد- يعني مسجد المدينة- شهرا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام"، أما الأمر الثالث فهو أن الناس قد أدركوا بعد الحروب العالمية في القرن ال20 وما كان فيها من ترجيح كفة دولة على دولة وجيش على جيش، لا بالعدد ووفرة المال وإنما بامتلاك تلك التقنيات الحديثة في السلاح ووسائل النقل والاتصال وما إلى ذلك، فمن ذلك الزمن أصبحت قوة الأمم ونفوذها يقاس بتحصيلها العلوم المدنية، فصار لزاما على المسلمين أن يسعوا لاستعادة مكانتهم وريادتهم للعالم ليأخذوا بيده إلى عافية الدنيا وسعادة الآخرة، وذلك بامتثالهم لأمر الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون"، و"ما" الموصولة في قوله تعالى "مَا اسْتَطَعْتُم" تفيد العموم، وقوله "مِنْ قُوَّة"، جاء منكرا، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، ولا ريب أن هذه العلوم هي من أهم ما تحصل به هذه القوة في هذا العصر"، الأمر الرابع أن هذه العلوم التي يُحتاج إليها في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب والصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما، هي من فروض الكفايات، فيجب على أمة الإسلام أن يكون فيها من يجيد هذه الدراسات ويحسن هذه التخصصات بالقدر الذي يكفيها، لأنها إذا تركت بالكلية ستضيع المجتمعات ويتعطل القيام ببعض الطاعات، ويحتاج المسلمون إلى غيرهم، ومع ذلك فتعلم هذه العلوم لا يبيح للمرء أن ينصرف عن تعلم دينه، بل الواجب عليه أن يصحح عقيدته ويتعلم أحكام عبادته ولا يمارس أي عمل إلا بعد معرفة حكم الله فيه، فإذا تعلّم المرء فرض عينه، فلا حرج عليه بعد ذلك أن يتعلم من الأمور الشرعية أو الدنيوية ما يسد به ثغرة من ثغرات المجتمع، وهو مأجور على علمه وسعيه، سواء أكان في أمور الدين أم في أمور الدنيا إذا أخلص النية لله وقصد بذلك وجهه.