الترويح عن النفس من الأمور المهمة التي قد يحتاجها الإنسان، وفي بعض الأحيان لا مفر من الترويح والاستراحة وإزالة التعب والمشقة، وإدخال السرور على النفس، والانتقال من حال إلى آخر أكثر تشويقاً منه من أجل العودة إلى الجد والنشاط والعمل، لكن أكثر من يطلب الترويح والفسحة يجد في أوله مشكلة، ذلك أنه لا يفقه معنى الترويح أو الراحة، ومن ثم يخلط الأمور ولا يصل إلى النتيجة.إن الترويح عن النفس في الإسلام عبارة عن عدة نشاطات غير ضارة والتي يمكن أن يقوم بها الفرد أو الجماعة طوعاً في أوقات الفراغ، بغرض تحقيق التوازن أو الاسترخاء للنفس الإنسانية، في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية، فما يعود على النفس أو الغير بالضرر والإيذاء فهذا ليس من الفسحة أو الترويح وإنما من الإفساد، وما كان فيه خروج عن قيم الدين فهذا من المعصية وليس من الانبساط أو التنفيس عن النفس.وبهذا المعنى يتضح لنا جليا خطأ شبابنا وهم يريدون الفسحة أو الانبساط والدعة حين وصل بهم المطاف إلى أذية النفس، إذ وصل الأمر ببعضهم إلى غرف الإنعاش، ووصل الأمر بآخرين إلى حافة الهلاك، ذلك بعد اعتبار أن تعريض النفس للمخاطر والمغامرة والتلاعب بأغلى شيء عند الإنسان وأعز شيء عند الله تعالى -وهي النفس البشرية- هي الفسحة والترويح، فأكثر من جادل عن تلك المفاسد التي وقعت ودافع عنها حجته في ذلك تحصيل الاسترخاء والرضى النفسي.إن الاسترخاء والرضا النفسي لا يُحصّل بإزعاج الآخرين أو دفعهم إلى التوتر والقلق واضطراب الأعصاب، إما بالفعل الهمجي الفوضوي، أو بتعريض النفس للضرر فينزعج الآخر كالوالد والوالدة وغيرهما.والأعمال الترويحية يشترط لها النفع سواء أكان نفعاً فرديّاً أم جماعيّاً، نفسيّاً أم بدنيّاً أم عقليّاً، أما الترويح الذي ساهم في تفويت الاجتهاد أيام الامتحان وأدخل الاختلال الذي أدى إلى الرسوب عند كثير من أبناء الأمة وتضييع سنة من الدراسة، فهذا ليس من الترويح ولا من الاسترخاء ولا من اللهو المباح، لأن الترويح لا يكون في وقت الاجتهاد وإنما في وقت الفراغ.ولعلنا نكون قد وُفقنا إلى تبين حقيقة الترويح وأزلنا عنه بعض الغبار، حتى نعلم أنه من الممكن أن يروح المرء عن نفسه بأنشطة وجدانية أو عقلية أو بدنية، أو مركبة من كل ذلك أو بعضه، ويزداد هذا المعنى بيانا وتجليا حين نعرف أهداف الترويح والترفيه عن النفس في الإسلام.فأول هدف الترويح: تحقيق التوازن بين متطلبات الكائن البشري (روحية، عقلية، بدنية) ففي الوقت الذي تكون فيه الغلبة لجانب من جوانب الإنسان، فقد يتعب الإنسان بدنيا، وقد يتعب من كثرة التفكير والتحضير، فيأتي الترويح ليحقق التوازن بين ذلك الجانب الغالب وبقية الجوانب الأخرى المتغلب عليها.ثانيا: يساهم النشاط الترويحي في إكساب الفرد لخبرات ومهارات وأنماط معرفية، كما يساهم في تنمية التذوق والموهبة، ويهيئ للإبداع والابتكار.ثالثا: يساعد الاشتغال بالأنشطة الترويحية في إبعاد أفراد المجتمع عن التفكير أو الوقوع في الجريمة، وبخاصة في عصرنا (عصر التقنية) الذي ظهرت فيه البطالة حتى أصبحت مشكلة، فقد قلت ساعات العمل والدراسة بما توفر من وسائل حديثة، وأصبح هناك وقت فراغ، فإن لم يروح فيه المرء عن نفسه فقد يشتغل بما لا ينفع.رابعا: من أبرز المسميات التي أطلقت على عصرنا: عصر التقنية، وعصر القلق، وعصر الترويح.. وترتبط هذه المسميات بعلاقة وثيقة فيما بينها؛ فالتقنية توَلّد عنها القلق، وأصبح الترويح أحد أهم متطلبات عصر التقنية والقلق؛ لما له من تأثير في الحد من المشاكل المترتبة عن ذلك.وهناك أهداف أخرى أسمى وأعلى نذكرها في وقت قادم حتى يتضح أمر الترويح، وإذا كانت هذه بعض أهداف الترويح والانبساط وهي أهداف سامية منمية فلا شك أن الإسلام لا يرفضها، بل قد دلت نصوص شرعية إجمالاً على جواز الترويح، ومنها ما دعت إليه وحثت عليه، ونذكر بعضا منها حتى يتأكد عند من لا يُقدر أهمية الترويح أن في الدين يسر، وحتى لا يُنكر الترويح من يظن بنفسه الالتزام ويرى أنه مضيعة للوقت ومفسدة للعمر، فيُحَمل الدين ما لا يتحمله، وإنما هي فكرته لا من منهج الدين.فحديث حنظلة رضي الله عنه المشهور الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن يا حنظلة؛ ساعة وساعة). والحديث الذي جاء في الصحيح، وفيه: أن سلمان زار أبا الدرداء رضي الله عنهما، فرأى من حزمه وجده ما أنكر عليه، وكان من حديثهما عجبا، قال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان). وحين بلغ النبيَ صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بنَ عمرَو واجتهاده قال له: (يا عبد الله بن عمرو؛ إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت، لا صام من صام الأبد). وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صُم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقّاً، وإن لعينك عليك حقّاً، وإن لزوجك عليك حقّاً، وإن لزورك عليك حقّاً). ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مازح أنس بن مالك وهو نبي الأمة، وداعب عائشة رضي الله عنها حيث قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن منه فَيَسْر بهن إليّ) والمقصود ب يتقمعن: أنهن يجلسن بعيداً عن النبي دون عائشة.الإسلام نظام حياة، متكامل عقيدة وشريعة، وفيه مبادئ وقيم وسلوكيات الإنسان المسلم، والترويح عن النفس جزء اعتنى به الإسلام ضمن هذه القيم وأفاض عليه بعض الخصائص منها:أن فيه عبودية لله تعالى: قال الله تعالى: (قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الأنعام: 162) والترويح هو جانب من المحيا في حياة المسلم، وبالتالي: فهو (لله رب العالمين لا شريك له) وذلك في حال إصلاح العبد لنيته في ممارسة الترويح بشروط حلّه، واتخاذه وسيلة لتحقيق عمل صالح أو لتجديد نشاط المسلم في الأعمال الجادة؛ روي عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق.ثانيا: أن الترويح في الإسلام ثابت المعالم متجدد الوسائل: هناك ترويح لكن ليس للمسلم أثناء قيامه بنشاط ترويحي أن يتجاوز جوانب يوجب الإسلام تركها لحرمتها أو ضررها، بل عليه أن ينضبط بضوابط الإسلام ويحتكم بأحكامه، وهذا هو الجانب الثابت في الترويح، وما سوى ذلك فللإنسان أن يبدع ويجدد فيه ما شاء من كيفيات ووسائل.ثالثا: الإسلام جعل الترويح يراعي طبيعة الفطرة الإنسانية: فعند التأمل في أنواع الترويح المشروع والمباح نجده شاملاً لجميع حاجات ودوافع الإنسان التي تتطلبها جوانبه المختلفة (الروح، العقل، الجسد) مما يدل على أن الترويح المشروع من خصائصه أن يعم ويشمل جميع مكونات وخصائص الكائن البشري، ويراعى الفطرة التي خلقه الله تعالى عليها.رابعا: أن يحقق التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة: فللإنسان جوانب مختلفة (روح، عقل، جسد)، وله ميول متنوعة، قد تدفعه إلى تغليب جانب أو أكثر على بقية الجوانب الأخرى تصل به إلى أن يكلّ ويملّ ويصعب عليه مواصلة المسير، ولذلك شرع الترويح ليحقيق التوازن بين تلك الجوانب، ولكي يبتعد الإنسان عن الكلل والملل، ويعاود المسير براحة وطمأنينة.خامسا: الترويح في الإسلام ينبغي أن لا يزحف على عمل جاد، فالنشاط الترويحي يكون في وقت الفراغ، والمراد به الوقت الخالي عن الأعمال الجادة كأوقات الشعائر التعبدية الواجبة، وأوقات العمل، وأوقات القيام بواجبات ومستلزمات الحياة الأخرى، وما توجبه طبيعة الحياة الاجتماعية من آداب مرعية كزيارة الأقارب، وإكرام الضيف، وعيادة المريض ونحو ذلك.