الله تبارك وتعالى هو الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، ورحمة الله تتجلى على الخلائق عامة، وعلى الإنسان خاصة، تتجلى ابتداءً في وجود البشر أنفسهم، وفي نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الإنسان على كثير من العالمين، وتتجلى في تسخير ما في هذا الكون العظيم من النعم والطاقات، والقوى والأرزاق، والماء والهواء، وغير ذلك مما يتقلب فيه الإنسان كل لحظة، قال الله تعالى ممتنًا على البشرية جميعا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70). وتتجلى رحمة الله في تعليم الإنسان ما لم يعلم مما يحتاجه في حياته كما قال سبحانه: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78). وتتجلى كذلك في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى كلما نسي أو ضل، وأخذه بالحِلم كُلما لَجّ في الضلالة والجهالة والمعصية، وتتجلى كذلك في مجازاته العبد على السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومحو السيئة بالحسنة، قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الأنعام: 160)، وتتجلى في تجاوز الله عن سيئات العباد إذا عملوها بجهالة ثم تابوا، قال تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام: 54). والله جل جلاله هو الرحمن الرحيم، وقد وسعت رحمته كل شيء، واستوى على أعظم المخلوقات وأوسعها وهو العرش، بأوسع الصفات وهي صفة الرحمة فقال سبحانه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5). وقد أنزل الله في القرآن سورة كاملة باسمه الرحمن ومطلعها: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن: 1، 4)، وهي معرض لآلاء الرحمن ومخلوقاته العظيمة، ومظاهر رحمته التي تبلغ كل عقل وكل سمع وكل بصر وتملأ فضاء السموات والأرض، ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان، تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته، وتعليمه البيان، فهذا القرآن العظيم نعمة كبرى، بل هو النعمة الكبرى على البشرية كلها، تتجلى فيه رحمة الرحمن بالإنسان، وآلاء الله ومخلوقاته، وهو منهج الله للبشرية، الذي يصلهم بربهم، وينظم أحوالهم ومعيشتهم وفق أمر ربهم، ويفتح عقولهم وحواسهم ومشاعرهم على هذا الكون العظيم الجميل، ومبدعه الذي شمل خلقه برحمته الواسعة. والله جل جلاله غفور رحيم، يفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو سبحانه الرحيم الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها، وقبلها منه، قال الله تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 39). ومن رحمته سبحانه أنه ملأ سماواته من ملائكته، يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في التسبيح بحمده سبحانه، وفي الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة لهم عند ربهم ليدخلهم الجنة كما قال سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (غافر: 7، 9). فما أعظم هذه العناية من الرب جل جلاله بعباده المؤمنين، وما أجمل هذا الإحسان من المولى الكريم، وما أعظم هذه الرحمة من الرحمن الرحيم، وما أجملَ هذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد، وحسن التلطف بهم.