للقرآن الكريم مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة عند المسلمين؛ كيف لا تكون له هذه المنزلة وهو كلام الله ووحيه المنزَّل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، وهو كتاب الرسالة السماوية الخاتمة لخير أمة أخرجت للناس، وهو أيضاً مصدر الدين والتشريع والتقنين، وهو أصل حياة الأمة، وسبيل رشدها وعزتها وشهادتها على الناس، وقد وصف الله تعالى القرآن بأوصاف عدة تبين طبيعته ووظيفته، وتثبت أهميته ومكانته العظيمة، ومن هذه الأوصاف أنه روح من عند الله، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 52)، والروح هي سر الحياة، ولا حياة للمسلمين في أي زمان ومكان بدون هذه الروح، فالقرآن العظيم روح يحيي به الله قلوب المتقين، فللَّه كم من ميت لا روح فيه ولا حياةٍ؛ أحياه الله تعالى بروح الكتاب المبين، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام:122)، فلا أطيب ولا أكمل من الحياة بروح القرآن الكريم. ومن أوصاف القرآن أنه شفاء ورحمة للمؤمنين به العاملين بهداه، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82)، فالقرآن أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو أنجع الأدوية لما في القلوب من الآفات والأمراض، ففي كتاب الله تعالى شفاء أمراض الشبهات، وشفاء أمراض الشهوات، وهو هدًى ورحمةٌ لمن تمسك به، يدله على الصراط المستقيم، ويبين له المنهاج القويم، ويوضح سبيل المؤمنين. ومن أوصاف القرآن الكريم أنه هدى للمتقين، قال تعالى: (ألم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 1، 2)، فبه تتحقق الهداية للتي هي أقوم في كل أمر من أمور المسلمين، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9). ومن أوصاف القرآن العظيم أنه نور مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه، قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (التغابن:8)، وقال سبحانه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 15، 16). وقال سبحانه: (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى: 52)، فالقرآن نور تشرق به قلوب المؤمنين، وضياء به تستضيء العقول وتستنير القلوب، يضيء السبيل للسالكين، ويُنير الدرب للمؤمنين فلا يكونوا من الهالكين، ولا يكون ذلك إلا لمن تمسك به فعمل بأوامره وانتهى عن زواجره. ومن أوصاف القرآن العظيم أنه فرقان يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الغي والرشاد، وبين العمى والإبصار، وهو فرقان فرق الله فيه وبه بين المؤمنين الأبرار وبين الكافرين الفجار، قال الله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]. والقرآن بصائر تبصِّر المتحقق المتخلق بها، فيكون بذلك من المبصرين للحق العاملين به، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) (الأنعام: 104). فهذه بعض الأوصاف التي وصف الله تعالى بها القرآن العظيم، وهي أوصاف عظيمة جليلة تبين عِظم قدر هذا الكتاب المجيد الذي جعله الله خاتم كتبه إلى أهل الأرض، فهو أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أعظم آيات الأنبياء، فلم يؤت نبّي مثل هذا القرآن العظيم الذي أعجز نظامُه الفصحاء، وأعيت معانيه البلغاء، وأسر قلوب العلماء، فكان حقا وصدقا أن يصفه ربنا بقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 23). إن كتابا هذا شأنه وهذه وظائفه وطبيعته، لم يَحْيَ به المسلمون اليوم كما كانوا أحياءً به زمن النبوة والخلافة الراشدة وفي أزمان متفرقة من حياة المسلمين لخسارة عظيمة، فوا أسفا على أمة ضيّعت قرآنها فضاعت، وأهملت كتاب ربها فأُهملت. إن العاقل لَيُدرك أن عدم حياة الأمة بالقرآن اليوم وهو الذي حييت به من قبل؛ إنما يرجع إلى إخلالها الكبير بما يجب عليها نحوه؛ فأكثر المسلمين اليوم أعرضوا عن القرآن إعراضاً، وهجروه هجراً؛ فلم يتخذوه هدى يهتدون به، ولا نوراً يستنيرون به، ولا بصائر يستبصرون بها، حتى إنه لينطبق على كثير منهم قوله تعالى على لسان رسوله الذي ما اشتكى إلى ربه مثل شكواه أمتَه في هجر القرآن العظيم: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30). سيروا في الأرض فانظروا إلى خلق الله قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (هود: 6)، الله تبارك وتعالى هو المولى الكريم الرحيم، الذي خلق هذه الأقوات المدخرة في الأرض للأحياء التي تسكن على ظهرها، أو تسبح في أجوائها، أو تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها، إن هذه الأقوات الجاهزة مَن جهزها وأعدها بمختلف الأشكال والألوان؟ إنه الله؛ فهو الذي خلقها لتُلبي حاجات هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها، ولا يحصي كميات أرزاقها إلا الذي خلقها، فسبحان المصور الذي نوّع مشاهد الأرض، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلت القدم، سهول وجبال، وبحار وأنهار، ونبات وحيوان، وبساتين وجنان، وأزهار وثمار وأشجار، فمتى يستيقظ القلب البشري للتأمل والتدبر والتفكر في هذا المعرض الإلهي الهائل؟ فقد قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20). وكل مشهد من هذه المشاهد في تغير دائم، يمر به الإنسان وهو أخضر، ثم يمر به إبان الحصاد حين يهيج ويصفر، فإذا هو مشهد آخر، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر: 21)، ألا ما أعظم الآيات والعجائب في هذا الكون العظيم (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (الجاثية: 6). إن كثيراً من الناس يمرون بهذا المعرض العجيب من المخلوقات مغمضي العيون، مُقفلي القلوب، لا يُحسون فيه حياة ولا يفقهون لغة.