لقد استقبل المسلمونَ في كلِّ مكانٍ عيدَهم، فرحينَ بطاعةِ اللهِ وإتمامِ العباداتِ، سائلينَ اللهَ تعالى أن يُكفّر السيئات وقبولَ صوم يوم عرفات، وأن يعُم الحُجاج بفيض الرحمات، ويغفر لهم الخطيئات ويرفع لهم الدرجات، ويُضاعف أعمال عشرِ ذي الحجةِ مرات ومرات، وما ذلك على الله بعزيز، فهو سُبحانه الذي دعاهم، ووعدهم أن يغفر لهم، ومن أوفى بعهده من الله، وأجاب المسلمون دعوة ربهم، فأطاعوا أمره وامتثلوا شرعه، فقاموا ملبين وحجوا، واقتنوا من بهيمة الأنعام ليُضحوا، فحُق لهم أن يفرحوا في يوم العيد، في مظهرٍ يعزُّ مثيلُه في الأممِ الأخرى التي تحتفلُ بأعيادٍ بشريةٍ غيرِ إلهيةٍ، ترتبطُ بأشخاصٍ أوْ تُحيي ذكرى قصصٍ خرافيةٍ، فأعيادُنا التي منّ الله تعالى علينا بها مليئةٌ بالفرحِ والسرورِ، والاجتماع والحُبور، لا مكانَ للحزنِ فيها خلافاً لبعضِ الأممِ، كالأعيادِ الجنائزيةِ لدى الفراعنةِ، وكعيدِ الغفرانِ اليهودي وهوَ يومُ حزنٍ وبكاءٍ على حائطِ المبكى، وليسَ لأعيادِنا صلةٌ قريبةٌ أوْ بعيدةٌ بقتلِ الإنسانِ وإفسادِ الأوطانِ كما في عيدِ الشكرِ الذي يحتفلُ بهِ الأمريكيُون لتتذكرَ جرائمَهم الوحشيةَ ضد الهنودِ، فالحمدُ للهِ الذي جعلَ عيدَنا يومَ زينةٍ وبسمة، والحمد لله الذي أبدلنا في الإسلام عيدين هما خير وأجلّ وأعظم من سائر أعياد الناس. فأعيادنا الإسلامية تتميزُ عنْ أعيادِ الأممِ الأخرى بمزايا، فهي ربَّانيةٌ أمرَ اللهُ سبحانه بها، وبلَّغَها الرسولُ صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً لأمته، فمن سعد بهذا العيد فقد قبل هدية الله عز وجل، وتأسى بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وهذين العيدين يجيئان بعدَ موسمينِ عظيمين، وبعدَ أداءِ ركنين منْ أركانِ الإسلام، الصوم والحج، وأنَّ من أبرز ما اختاره الله لنا من الأعمال في هذين العيدين إطعامُ الفقراءِ وإغناؤهم، ولهذا العمل فضيلةٌ عظيمة، بل إنها أعظم عندما تتضاعفُ بشرفِ الزمان ألا وهما العشر الأواخر من رمضان والعشر الأوائل من ذي الحجة، فإن من أعظم الذنوب إضاعة الصلاة ومنع العون وطعام المسكين، وفي عيدنا أعظم ما نفعله إقامة الصلاة والصدقة على المساكين، والصدقة عظم الله ثوابها، وضرب لنا مثلها، فهي في الأجر كسُنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سُنبلة مائة حبة، لما لها من أثر النفع، وغرس المحبّة، وزرع الثقة، ونشر الخير بين الناس، ودعم الأخوّة في الله، والتكافل ونصر الضعيف، ودفع الحرج، وإقامة الدين، فإن الفقر والعوز يهدم الدين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتعوّذ من الدين والفقر، فما سئل أخبر أنه يحمل الرجل على الكذب والإخلاف في الوعد، فما أجمل أن يملأ الناس عيدهم بذكر الله وبذل المعروف، وإن أخبار المعروف بين الناس لا تكاد تنقطع في غير العيد، وأما في العيد فإننا نجدها تكثُر وتتضاعف، فإن كان كثير من الناس يُهدون ويتصدقون من لُحوم الأضاحي فإن منهم من يُوزع الأضاحي حيّة كاملة، فيُدخلون السرور إلى قلوب اليتامى، ويرفعون الحرج عن المُقلّين الذين لا يجدون، وبذلك تكمُل فرحة الأمة، وتكون الفرحة عامة، وهذا يدل على خيرية هذه الأمة، كما يدل على أن في الأمة حاجة وفاقة، فرحم الله من يرحم أفراد هذه الأمة، وما دامت الأمة مُتراحمة فإن رحمة الرحيم الرحمن تصيبها وتحوطها وترعاها، فلندخل تحت مظلة هذه الأمة المُتراحمة، التي ترى بشائر الخير من ربها، ولا نكن من الذين لا يرون إلا ما يمقُتها، فقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال: (من قال هلك الناسُ فهو أهلكُهم). هذه ميزة من مُميّزات أعيادنا التي متّعنا الله بها، ومن تمام مُتعة العيد أنه ليسَ في أعيادِنا استباحةٌ للمحرمات؛ فلنا أنْ نفرحَ ونلهو بكلِّ حلالٍ لا حرجَ فيه على الدِّينِ أو المروءة، فلا يحق لأمة أتمّ الله عليها النعمة وأكمل لها الدين في مثل هذا الموعد ثم تخرج عن طاعة ربها. كما أنَّ عيدا هذه الأمة المرحومة يجيئانِ في جميعِ فصولِ السنةِ، وهذا من مزايا التقويمِ الهجري، خلافاً لأعيادٍ محبوسةٍ على فصولٍ لا تبرحها، وأهم ما في هذين العيدين فرصة اجتماعِ الأمةِ على مستوياتٍ مختلفةٍ، في الصلواتِ واللقاءاتِ العائليةِ والإقليميةِ، أوْ على الصعيدِ الطاهرِ في الموسمِ العظيم موسم الحج، الذي يُرسل رسائل عديدة للعالم كله، من أن هذه الأمة لازالت متمسكة بدينها مهما كاد لها الكائدون، وأن دينها لا يزال قائما وراسخا ومحفوظا من التغيير والتحريف، وهذا الدين حقق ويُحقق ما عجزت البشرية عن بلوغه، وهو تحقيق الأمن والسلم بين شعوب العالم، فها هو الحج يضرب المثل الأسمى في التآخي والتعاون، وتلاقي الشُعوب والقبائل والأمم في موقف واحد، يُحبّ بعضهم بعضا على غير تعارف مُسبق، فهذا الذي أعجز أعلى الهيئات العالمية والمنظمات الإنسانية ها هو الإسلام يجمع ما فرّقته النُظم على بياض أبيض من اللبن، وصفاء أصفى من العسل، جمعتهم العقيدة على حب الخير للغير كما يُحبه المرء للنفس، وجمعتهم على أن حُب المؤمن لأخيه المؤمن دين، وأن المؤمنون إخوة مهما اختلفت الأعراق والأنساب والألوان واللغات. الإسلام يحثُ على صلة الأرحام لقد بلغ من اهتمام الإسلام بصلة الأرحام والأقارب وتأكيده على ذلك أنْ قَرَن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حقهم في الإسلام بعبادته وتوحيده، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) (النساء: 36)، ثم قرن رسوله صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام بإفراد الله بالعبادة والصلاة والزكاة، جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله: أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال: (تعبدُ الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم) متفق عليه. ولعظيم منزلة صلة الرحم ولكونها من أسس الأخلاق وركائز الفضائل وأبواب الخيرات فرضها الله على الأمم قبلها قال سبحان: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى) (البقرة: 83)، وكانت صلة الرحم من أوائل ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم مطلع نبوته، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: قدمت مكة أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت فقلت من أنت؟ قال: (نبي)، قلت: وما نبي؟ قال: (أرسلني الله)، قلت: بم أرسلك؟ قال: (بصلة الأرحام، وكسرا الأوثان، وأن يوحد الله) رواه الحاكم، ويقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اِنْجفَل الناس إليه – أي ذهبوا إليه – فكان أول شي تكلم به: (أيها الناس؛ أفشو السلام، وأطعم لطعام، وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) رواه الترمذي وابن ماجه. وإن صلة الأرحام والأقارب من المكارم العظيمة والصفات الحميدة التي كان العرب يُمتدحون بها في الجاهلية قبل الإسلام، ويُثنون على أصحابها، ويذكرونهم بالفضل، لأنهم يرون أن القرابة لُحمة من الإنسان وبِضعة منه لا بد له منهم، ولا فكاك له عنهم، فعِزهم عِزٌ له، وذُلهم ذل لهم. ومما درج على ألسنتهم في هذا الباب قولهم: مَن لم يصلح لأهله لم يصلح لغيرهم، ومن لم يَذُب عنهم لم يَذب عن غيرهم والأرحام هم أقارب المرء من جهة الأب ومن جهة الأم، ويشمل ذلك الآباء والأمهات والأجداد والجدات والأولاد الذكور والإناث وأولادهم، وهكذا الإخوة والأخوات وأولادهم، وكذلك الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم، كل أولئك أرحام داخلون في قوله جل وعلا: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض)، أما أقارب الزوجة فهم أصهار وليسوا بأرحام، وكذلك أقارب الزوج بالنسبة للمرأة أصهار وليس بأرحام. كرم إبراهيم عليه السلام وكرم الله كان إبراهيم عليه السلام جالس لوحده، وفي هذه اللحظة هبطت على الأرض أقدام ثلاثة من الملائكة، جبريل وإسرافيل وميكائيل عليهم السلام، فتشكلوا في صور بشرية من الجمال الخارق وساروا صامتين، وكانت مهمتهم مزودجة، المرور على إبراهيم وتبشيره، ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم، سار الملائكة الثلاثة قليلا، ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه، تأمل وجوههم فإذا به لا يعرف أحدا فيهم، بادروه بالتحية وقالوا: سلاما، قال: سلام، نهض إبراهيم عليه السلام ورحب بهم، أدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء، أجلسهم واطمأن أنهم قد اطمأنوا، ثم استأذن وخرج إلى أهله، نهضت زوجته سارة حين دخل عليها وقد صارت عجوزا ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب، قال إبراهيم عليه السلام لزوجته: زارنا ثلاثة غرباء، سألته: من يكونون؟ قال: لا أعرف أحدا فيهم، وجوه غريبة على المكان، لا ريب أنهم من مكان بعيد، غير أن ملابسهم لا تشي بالسفر الطويل، أي طعام جاهز لدينا؟ قالت: نصف شاة، قال وهو يهُم بالانصراف: نصف شاة.. اذبحي لهم عجلا سمينا، هم ضيوف وغرباء، ليست معهم دواب أو أحمال أو طعام، ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء. اختار إبراهيم عليه السلام عِجلا سمينا وأمر بذبحه، وبدأ شواء العجل على الحجارة الساخنة، وأُعدت المائدة، ودعا إبراهيم ضيوفه إلى الطعام، أشار إبراهيم عليه السلام بيده أن يتفضلوا باسم الله، وبدأ هو يأكل ليُشجعهم، كان إبراهيم عليه السلام كريما يعرف أن الله لا يتخلى عن الكرماء، وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل، وضيوفه ثلاثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد، غير أنه كان سيدا عظيم الكرم، راح إبراهيم يأكل ثم استرق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهم يأكلون فلاحظ أن أحدا لا يمد يده إلى الطعام. قرّب إليهم الطعام وقال: ألا تأكلون؟ وعاد إلى طعامه ثم اختلس إليهم نظرة فوجدهم لا يأكلون.. رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام. عندئذ (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، ففي تقاليد البادية التي عاش فيها إبراهيم كان معنى امتناع الضيوف عن الأكل أنهم يقصدون شرا بصاحب البيت. ولاحظ إبراهيم عليه السلام بينه وبين نفسه أكثر من ملاحظة تؤيد غرابة ضيوفه، فقد لاحظ أنهم دخلوا عليه فجأة لم يرهم إلا وهم عند رأسه، ولم يكن معهم دواب تحملهم، ولم تكن معهم أحمال، ووجوههم غريبة تماما عليه، كانوا مسافرين وليس عليهم أثر لتراب السفر، ثم ها هو ذا يدعوهم إلى طعامه فيجلسون إلى المائدة ولا يأكلون، فازداد خوف إبراهيم عليه السلام، وما كان يدور في فكره ويجول في خاطره كان الملائكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه، فقال له أحد الملائكة: (لاَ تَخَفْ)، رفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة: اعترف إنني خائف. لقد دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم، ولكنكم لا تمدون أيديكم إليه، ابتسم أحد الملائكة وقال: نحن لا نأكل يا إبراهيم.. نحن ملائكة الله.. وقد (أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ). ضحكت زوجة إبراهيم عليهما السلام وكانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم، التفت إليها أحد الملائكة وبشرها بإسحاق، فصكت العجوز وجهها تعجبا وقالت: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيب) (هود: 72)، عاد أحد الملائكة يقول لها: (وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، جاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته عليهما السلام، شف جو الحجرة وانسحب خوف إبراهيم، واحتل قلبَه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط، كانت زوجته العاقر تقف هي الأخرى وهي ترتجف، إن بشارة الملائكة تهز روحها هزا عميقا، إنها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير، كيف؟! كيف؟ وسط هذا الجو الندي المضطرب تساءل إبراهيم عليه السلام: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (الحجر: 54)، كان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى، كان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية منة الله عليه، ويهتز بالفرح مرتين بدلا من مرة واحدة، فأكد له الملائكة أنهم بشروه بالحق وقالوا: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (الحِجر: 55، 56) لم يفهم الملائكة إحساسه البشري، فنوه عن أن يكون من القانطين، وأفهمهم أنه ليس قانطا إنما هو الفرح، فلم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته عليهما السلام، فلم يكن له غير ولد واحد هو إسماعيل عليه السلام وقد تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية، ولم تكن زوجته سارة قد أنجبت خلال عشرتها الطويلة معه، وكان حنينها إلى الولد عظيما، وهكذا أراد الله لها ولزوجها، في مغيب العمر تتلقى البشارة، ستلد غلاما ليس هذا فحسب، بشرتها الملائكة بأن ابنها سيكون له ولد تشهد مولده وتشهد حياته، لقد صبرت طويلا ثم يئست ثم نسيت، ثم يجيء جزاء الله مفاجأة تمحو كل العذابات في لحظة، فاضت دموعها وهي تقف، وأحس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإحساس محير، جاشت نفسه بمشاعر الرحمة والقرب، وعاد يحس بأنه إزاء نعمة لا يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر، وخرّ ساجدا على وجهه.