الفساد مستشر في كل مكان، لا يوجد قطاع من قطاعات النشاط إلا طفرت فيه بثور الفساد. الغش الخداع الاحتيال الاستغفال.. كلها عملات يتداولها أهل الشر الذين يتكاثرون كالطحالب، بل كالقراد تجذبه رائحة الدم، تمتص عصير الاقتصاد الوطني، فحولته إلى عبارة عن هيكل متداع آيل للسقوط، عجبا! يوميا تحمل إلينا الجرائد أخبارهم، التي تمتلئ بها الصفحات، وبها امتلأ القلب، فلم يعد يحتمل المزيد، فقلت في نفسي: لن أشتري بعد اليوم صحيفة، سأضرب عن قراءة الأخبار، وسأستعيض عن ذلك بقضاء الوقت بعيدا عن مسرح الأحداث، فركبت راحلتي إلى الريف، عند صديق قديم مازال يؤمن بخدمة الأرض، فوجدته في أسوإ حال.. ووجدت نفسي كالمستجير من الرمضاء بالنار. لم يكن حال الريف بأحسن من حال المدينة، لقد طالت الريف أذرع إخطبوط الشر وعاثت فيه فسادا.. كتمت غيضي ورحت أستمع لشكوى صديقي الفلاح، الذي قال والألم يبدو واضحا في كل كلمة ينطق بها: "بعثك الله إلي في الوقت المناسب، لقد ضاقت نفسي، وكدت أنفجر، يبدو أني لن أعمر طويلا في هذا المكان، سأعود قريبا إلى المدينة، استرزق كبقية الخلق.. هي أربع هكتارات يا صديقي، أخدمها وتخدمني، لم يتعد طموحي أكثر من العيش الكريم، الذي يجنبني الحاجة. عشت سنوات كما يعيش الموظف، أعمل وأدفع الضرائب، بانتظام، غير أن الحال لم يبق على ما كان عليه. في المدة الأخيرة، تردد علي بعض أصحاب الكروش المنتفخة، يساومونني في الأرض، فرفضت عروضهم المغرية، فلاحظت بعد ذلك أني محاصر، إنتاجي لا شاري له، والبذور لا أصل إليها، والضرائب تهالكت علي والديون السابقة وجدت من يسرع وتيرتها، فوجدت نفسي في مأزق. وقبل يومين، جاء إلي من يعاود المساومة بتخليصي من المشاكل التي أتخبط فيها، مقابل التخلي عن الأرض، فعرفت مصدر متاعبي، وها أنا أجد نفسي بين المطرقة والسندان.. " فقلت له كلاما خرج من متحف العادات المنسية: أرض العائلة للعائلة، لا تباع ولا ترهن ولا تقسم..! وأكمل بقية الجملة:.. ومن تخلى عن أرضه باع نفسه للشيطان، ولكن ما العمل.. و"القوم" يعرفون "بيري وغطاه"!؟