لم يكن أحد يتصور أن الثورات الجديدة التي أسقطت حاكم قرطاج من على عرشه، سيكون لمواقع الكترونية مثل الفيس بوك واليوتوب والتويتر، ربما كان يعتقدها الكثير من الحكام العرب مجرد لعب أطفال، وإنها ستكون أكثر خطرا من قناة "الجزيرة" التي اشتكى منها بعض الحكام العرب، وأكثر خطورة من هراوات الشرطة وأخطر من الجلادين الذين أحاط بن علي وزبانيته بهم أنفسهم معتقدين أنهم أمنوا أنفسهم وتأكدوا من أن السياسة الأمنية لا يمكن أن يخترقها شباب في سن الأطفال عن طريق "لعب الانترنت"، في نظرهم. "الفيس بوك".. أو جمهورية الشباب الفاضلة أصبح موقع الفيس بوك بحق جمهورية افتراضية تجمع شبانا من مختلف الأجناس ومن مختلف الديانات والأعراق في موقع اجتماعي واحد، وخلقت تفاعلا قل نظيره، وقد كان الموقع الذي اخترعه أحد الطلبة الأمريكيين في 2004 موقعا بسيطا خلق لأجل التواصل بين الطلبة في الجامعة التي كان يدرس فيها الطالب الإمريكي، لكنه في ظرف سنوات صار أشهر من نار على علم. ولقد كان لموقع الفيس بوك النصيب الأكبر في إرسال الصور والمقالات بين مجتمع الفيس بوك في ما يحصل في تونس وفي بلاد أخرى، فما عادت جمعيات حقوق الإنسان تحتاج إلى أدلة، فيكفي هذا الموقع ليقدم الصور والملفات، وحتى الصور المتحركة بالفيديو، عن الاختراقات وانتهاك حقوق الانسان، وصار قناة وأداة إعلامية أطاحت بكل قنوات العالم من "الجزيرة" إلى "سي آن آن". أما القنوات الحكومية، فقد طحنها تحت الأقدام، وما صارت العديد من الحكومات العربية تجد ما تبرر به، خاصة في استعمالها العنف ضد المتظاهرين، للدرجة أن نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لم يكن يتوقع أن موقع الفيس بوك سيفضح التستر والغلق المحكم لما يحدث في تونس. إلا أن الصور التي خاطر شباب توانسة بإرسالها إلى أصدقائهم في الخارج، سرعان ما انتشرت في وسائل الإعلام. والأمر نفسه في الجزائر، فقد استطاعت الأحداث الأخيرة أن تكشف حجم الخراب الذي لحق بالكثير من المؤسسات الوطنية والخاصة، في الأحداث الأخيرة التي مست عددا من الولايات احتجاجا على الغلاء، وبالتالي صار هذا الموقع بمثابة وكالة أنباء حقيقية توزع الأخبار أول بأول وعدد مراسليها ربما يقدر بنصف المتظاهرين. "اليوتوب".. كاميرات الهاتف التي سرقت السبق ولم يكن موقع الفيس بوك وحده الذي دخل معركة الإضرابات والكثير من الأحداث، بل كان موقع اليوتوب وهو موقع التسجيل عن طريق كامرات الهاتف المحمول أو بالكاميرا الرقمية على الخط، ليسجل مداخلات المحتجين ومواقفهم من أنظمتهم ومن كل ما يخص حياتهم المعيشية. كما أنه في تونس نقل صورا حية لقمع قوات الأمن للمواطنين والمحتجين، ولم تستطع وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية الكبيرة مجاراة الموقع من خلال نقل نبض الشارع ونقل الصور الحية، بل إن قنوات مثل "الجزيرة" التي لا يوجد لها مكاتب في الجزائروتونس والمغرب، استطاعت أن توظف الموقع وصوره الحية لصالحها وتزيده زخما آخر، فقد نقل اليوتوب وهو يعد موقعا أقدم من الفيس بوك التظاهرات في مختلف بلدان العالم، كما أنه كشف الاعتداءات التي تتعامل بها قوات الأمن في مصر مع المعتقلين، كما نقل أيضا انفجار الإسكندرية، ونقل أيضا أصوات المعارضين الداعين إلى الثورات والداعين إلى السلام، وكشف الكثير من مظاهر التعذيب في عدة بلدان عربية، كان أبطالها أفراد من قوات الأمن، وحتى التصوير كان أبطاله من قوات الأمن. ليستطيع هذا الموقع وبتقنيات بسيطة جدا، الدخول إلى قاعات التعذيب ومخافر الشرطة ويسجل بالصورة والصوت طريقة الاستنطاق التي تعامل بها قوات الأمن المواطنين، وقد حدث هذا الأمر في مصر ونقلته المواقع المختلفة، وكان المصدر دوما موقع اليوتوب. وقد كان للولايات المتحدة حظها من هذا الموقع الذي كشفها للعالم، من خلال صور سجني أبو غريب وغوانتنامو واعترافات مجندين بضلوعهم في التعذيب والقتل العمدي للمواطنين العزل، فضلا عن الجرائم المرتكبة في أفغانستان. "ويكيليكس".. أو الموقع الذي وضع العالم تحت الصدمة مهما اختلف المهتمون في الهدف من وراء تسريبات موقع ويكيليكس، فإن نتيجة التسريبات جاءت صفعة قوية على وجه الكثير من الأنظمة العربية، هاته الأنظمة التي كانت مطمئنة للإعلام الغربي مهما كانت درجت حريته في أنه من المستبعد أو بالأحرى من المستحيل أن يسرب معلومات قدمتها بعض الجهات العربية للسفارات الإمريكية، فإن ما لم يكن متوقعا هو التسريبات الإلكترونية، وهذا ما يدل على أن الأنظمة العربية في غالبيتها في خصام مستمر مع التكنولوجيا ولم تعتقد يوما أن الانترنت سيصبح خطرا داهما عليها، فموقع ويكيليكس كما قلنا مهما كانت أهداف من يقف خلفه، فقد كشف بحق عن عملاء عرب من الطراز العالمي، ممثلين في سفراء ووزراء ومدراء ودبلوماسيين وعسكريين، قدموا خدمات وبالمجان للإدارة الأمريكية عن أخبار وتسريبات تخص وضع بلادهم، بل يوجد حكام عرب من سربوا للسفراء الأمريكيين معلومات هامة ومناقشات عربية جرت في جدران مغلقة خلال اجتماعات عربية ثنائية أو خلال قمم عربية. وهنا، يمكن أن يطرح أي مواطن عربي سؤالا مهما: لماذا تفتح بعض الحكومات العربية التي جاء ذكرها في الموقع بأنها قدمت تسريبات للأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين، تحقيقات حول الذين أشار لهم الموقع بأصابع الاتهام؟ الجواب بالتأكيد سيقود إلى اتهامات أخرى تصل إلى أعلى مستوى من القيادات السياسية تكون متهمة بنفس الفعل. وثمة سؤال آخر: كيف سيكون التعامل العربي مع هذه التسريبات مستقبلا؟ وهنا يتوقف الأمر على الضغط الأمريكي، وليس على الإرادة العربية. واليوم يمكن أن نقول إن موقع ويكيليكس تسبب في صدمة كبيرة لدى الرأي العالم العالمي بصفة عامة، والعربي بصفة خاصة، وربما ساهم بطريقة ما في الفوضى التي ظهرت في مطلع 2011 في الكثير من الدول العربية وما زالت مستمرة إلى الآن، فقد فعل ما عجز عنه أي إعلامي متمرس وقريب من دوائر صنع القرار، وهو سبق كان وقعه كوقع تصوير أحد الهواة حادثة 11 سبتمبر 2001 الشهيرة. بعدما تجاوزت وسائل الإعلام التقليدية.. المواقع الإلكترونية صارت مصدرا للخبر مما لا شك فيه، أن الكثير من وسائل الإعلام التقليدية من تلفزيون وراديو وجرائد، تضبط عملها عدة قوانين وإجراءات، وهذا ما يجعل الأخبار أحيانا تتأخر، وأحيانا توضع تحت الخطوط الحمراء، أي أنها ممنوعة من النشر وممنوعة من أن تمر عبر القنوات التلفزية مهما كان لهذه القنوات من هامش حرية، فقد حدث في حرب العراق أن صارت أكبر القنوات جرأة تسير بتعليمات حكومية كي لا تؤثر على الحرب وحفاظا على الأمن القومي حسب زعم الإدارة الأمريكية إلا أن المواقع الاكترونية التي تعيش بعيدا عن الرقيب والتي تتلقف السبق في حينه، أخذت البريق الإعلامي من هذه القنوات ووسائل الإعلام مجتمعة، واستطاعت أن تقصي بعض القنوات من الطريق. والأكثر من هذا، أن هذه المواقع صارت مادة دسمة للمعلومة تعتمد عليها القنوات والفضائيات، سواء من خلال الصور أو من خلال المداخلات لبعض الأشخاص. فالوسائل البسيطة من هاتف أو كاميرا رقمية والتعامل مع كمبيوتر محمول، صار هو كل ما يحتاجه أي "مراسل" متطوع لهذه المواقع، وليكون أحد الإعلاميين غير الرسميين الذين ينقلون الحدث خبرا وصورة إلى كل بقاع العالم. فأحداث تونس التي أطاحت بالرئيس المخلوع بن علي، لم يكن بطلها التلفزيونات أو القنوات الرسمية أو الفضائيات، قدر ما كان الشباب الذي قاد الثورة هو وقود الثورة وهم المراسلون وهم القادة، لدرجة أن وسائل الإعلام لم تعد تجد في مراسليها الكثير من الأخبار الحية، لينساق المراسلون لمختلف القنوات نحو هذه المواقع ويستقون منها الأخبار، اليوم عصر التكنولوجيا صار رقما فاعلا في صناعة الإعلام ولا يمكن تجاهله، رغم أنه سلاح ذو حدين. في الوقت الذي صارت الأوطان مكشوفة.. الحكومات العربية ما زالت تعيش بعيدا عن الحضارة أوطاننا العربية اليوم مكشوفة، وحتى أسوار مكاتب التحقيق سقطت. ورغم هذا، ما تزال الحكومات العربية تمارس الغلق السياسي والغلق الإعلامي، رغم أن الانترنت تنقل بالصوت والصورة كل ما يدور في هذه الأوطان، لدرجة أنه لا تمر حادثة إلا وقيدت في المواقع المختلفة، إلا أن تعامل الحكومات والأنظمة العربية جاء بطريقة أقل ما يقال عنها إنها بدائية، متناسية أن هناك شبابا وجيلا جديدا يعيش خارج مجال تغطيتها البوليسية والرقابية. لذا، فقد اهتمت هذه الحكومات على فرض رقابة على وسائل الإعلام التقليدية، وأيضا تفطنت لمواقع النت، فحظرت منها مواقع عديدة، ولكن التكنولو جيا في عجلة من أمرها وتطورها ليس في كل يوم فقط، بل في كل لحظة، والشباب العربي في تحد لهذه الأنظمة استطاع اختراق كل الحواجز التي أقامتها الأنظمة وتفوّق عليها بطريقة ذكية وكبيرة، أظهرت أن الأنظمة العربية ليست هشة وفقط، بل انتهى عصرها، خاصة بعدما كشفت المواقع الإلكترونية ما يحدث خلف أسوار التحقيقات وأطاحت بأحد الأنظمة الأكثر تشددا والأكثر استقرارا أمنيا. وعليه، فإن التكنولوجيا اليوم باتت حليفا حقيقيا للشعوب العربية، ولم يبق للأنظمة سوى التسليم بالأمر الواقع وفتح الحريات ودخول العالم الحديث من أبوابه التكنولوجية، وليس عن طريق الهراوات البوليسية.