مئات الشباب اليائس يجازفون بحياتهم ويشقون عباب البحر ببطء شديد، وصمت مخيف تسير قواربهم باتجاه المجهول، كلهم خوف ورعب من الموت الذي يسعون إليه في البحر العميق بعيدا عن الأهل والأحباب، قلوبهم لا تقوى على المضي أكثر في ظلمة الليل الحالكة والشجاعة التي تسلحوا بها بدأت تخونهم شيئا فشيئا، ولكن لا مجال للعودة وقرارهم المريب في التخلي عن كل شيء بدا وكأنه أسوأ قرار اتخذوه، فلا أحد غيرهم في هذا البحر الواسع الذي لا يلمحون فيه إلا أفقه اللامتناهي ولا يسمعون فيه إلا أصوات تلاطم الأمواج التي لا تزيدهم إلا اقتناعا بأنهم اقترفوا جريمة في حق أنفسهم وأنهم طاردوا حلما سرعان ما خبا وهجه، أما "جنة أوروبا" التي لطالما تغنوا بها وجوارحهم توّاقة لاستنشاق هوائها العليل مجسدين ذلك في كتابات حائطية ملأوا بها جدران المباني، أضحت كالسراب الذي حطّم مستقبلهم الذي كان ضبابيا وأصبح أسودا بعد رحلتهم هذه التي قيل عنها إنه "رحلة الموت". الظروف المعيشية السيئة تدفع "بالحراڤة" نحو المجهول هي مشاهد درامية كثيرة التكرار، يعيشها كل شاب فضّل خيار الحرڤة لتحقيق أحلامه بعيدا عن وطنه الذي لم يستطع أن يوفر له متطلبات يراها أكثر من مهمة وأن انعدامها في حياته أفقد هذه الأخيرة معناها على رأسها حقه في العمل وكسب قوت يومه في ظروف حسنة تسمح له بالتطلع لمستقبل مشرق، والتفاؤل بغد قد يفتح له أبواب الفرج على مصراعيها.. ولكن استمرار انتظاره لفرصة قد لا تصادفه أبدا جعله يحزم حقائبه التي لا تزيد عن واحدة محمّلة بزاد يبعد عنه الجوع والعطش لعدة أيام، ويتخلص من كل وثائقه الدّالة على هويته ويغادر نهائيا نحو المجهول، حيث وبمجرد أن يسدل الليل ستاره، وتخف حركة المارة تنطلق أفواج الشباب إلى البحر، أكثرهم يفضلون سواحل عنابة ويحبذون الانطلاق من "سيدي سالم" التي تحولت في الفترة الأخيرة إلى قبلة الحراڤة لاسيما بعد تضييق الخناق على الجهة الغربية القريبة من سواحل ألميريا الإسبانية والتي دفعت شباب من وهران للانتقال إلى عنابة على أمل الظفر بفرصتهم في تجريب حظهم بعدما استعصى عليهم الأمر في منطقتهم، فلا تجدهم إلا متسللين كالأشباح يخترقون كل الحواجز بما في ذلك الطوق الأمني لحرس السواحل الذين يقفون عاجزين أمام المد المتزايد لعدد الحراڤة المستفيدين من طول الساحل الممتد حتى "رأس روزا " بالقالة. أربعة أيام في البحر والوصول إلى سردينيا ليس مضمونا عشرات القوارب تنطلق من سواحل عنابة بالتجاه جزيرة سردينيا بإيطاليا بصورة تعتقد فيها أن الأمر لا يتعدى رحلة عادية قد تستغرق يوما أو يومين وفي أسوأ الأحوال أربعة أيام لقطع مسافة 239 كلم، ولكن تفاصيلها بكل ما تحمله من آلام وأوجاع لا يعرفها إلا من ركب البحر وعايش أهواله الكثيرة فالحراڤة يتحدون كل العوائق ويتمالكون أنفسهم عند فراق الأحبة، ولا يتوانون عن مخادعة مصالح الأمن، لكنهم لا يستطيعون إلا أن يقفوا مكتوفي الأيدي ويصابون بالذهول عندما يجدون أنفسهم في مواجهة أمواج البحر التي تقذف بقاربهم الصغير هنا وهناك وترميه في كل اتجاه دون أن يتمكّنوا من السيطرة على أنفسهم فيستسلمون لمصيرهم الذي يقودهم إلى حتفهم أو يوصلهم إلى جنتهم التي علّقوا عليها آمالهم ومنهم من يتم انتشاله وإنقاذ حياته وآخرون يتراجعون في آخر لحظة. اقتربنا من بعض هؤلاء للاستفسار عن أسباب فرارهم من وطنهم وتضحيتهم بالحياة رفقة أهاليهم وأصدقائهم، والأكثر من ذلك المجازفة بحياتهم في سبيل حياة أخرى أجمع كثيرون أنها لا تقل قساوة عن تلك التي يعيشونها في كنف الأهل فأجاب "رضا.ع" البالغ من العمر 22 سنة والذي يعمل بمحل لبيع الخبز التقليدي "لقد فشلت في محاولة الحرڤة، ليس لأن القارب الذي امتطيته انقلب أو أنه ألقي القبض عليّ ولكن تراجعت في آخر لحظة حين راجعت نفسي قبل لحظات من انطلاق القارب الذي كان يحمل على متنه 8 من الشباب أغلبهم كانوا أصدقاء لي، لقد اكتشفت بعد تفكير طويل وأخذ ورد مع نفسي أن القرار الذي اتخذته اقتداء بالأصدقاء، وأبناء الحي لم يكن صائبا، لقد صوروا لي أوروبا كجنة الخلد التي فيها كل متاع الدنيا وملذاتها، لكن في النهاية وقبل أن أرحل معهم اكتشفت أن وضعي الاجتماعي يختلف عن وضعهم وحالتهم، فأنا من عائلة ميسورة الحال وأعمل في محل يقع وسط مدينة عنابة، وقد تمكّنت في ظرف وجيز من كسب زبائن كثيرين يقتنون الخبز التقليدي من محلي، فعلاما أضيّع كل ما حققته بسبب المجهول الذي ينتظرني خلف البحر؟ ورغم هذا لن ألوم الكثيرين ممن اختاروا الحرڤة فظروفهم تجعل العين تذرف بدل الدمع دما قانيا". أما جميلة فتروي لنا قصة شقيقتها زهرة البالغة من العمر 26 سنة والتي قررت مغادرة عنابة نهائيا بسبب الظروف الاجتماعية السيئة وتخلي والدها عنها بعدما انفصل عن والدتها إضافة إلى تمادي إخوتها الذكور في إهانتها والإساءة إليها. تقول جميلة إن شقيقتها زهرة هددتهم بالرحيل والهروب إلى إيطاليا كلما تعرضت إلى إساءة من طرف إخوتها الذكور، إلا أن الجميع قابل تهديدها بالسخرية واللامبالاة ولم يصدقها أحد، لاسيما وأن الواقعة حدثت في 2006 عندما كانت الحرڤة في بدايتها وضرب من ضروب الخيال وكان قليلون من تجرأ على الرحيل عبر البحر في قوارب الموت، ولم تكن ثقافة الحرڤة قد وصلت إلى العنصر النسوي بعد فكانت مقتصرة على بعض الشباب المتهور فقط، ربما لهذا السبب لم يصدق أحد تهديدات زهرة ويلقي لها بالا، إلى أن قررت في إحدى ليالي رمضان حزم متاعها في غياب إخوتها الذكور وانطلقت تواجه خطر البحر عبر قارب يضم 5 من الحراڤة كانت سادستهم، ورغم الأخطار التي واجهوها، فإن زهرة نجحت في الوصول إلى إيطاليا لتسرد حكايتها لشقيقتها عبر الهاتف من هناك، وهي الآن تعمل نادلة في أحد الفنادق وترفض العودة في ظل الظروف الاجتماعية التي تعانيها أسرتها وتعسف إخوتها في حقها، مصرة على أنها ستظل في إيطاليا مهما كان الأمر. ولا زلت جميلة تحن إلى شقيقتها وتتمنى أن تعود إليها ولو في المناسبات، لكن هيهات فزهرة تعيش بلا وثائق هوية مختفية في ذلك الفندق الذي تعمل فيه تنتظر ما تجود عليها الأقدار مستقبلا لعل الأحوال تتحسن. بالنسبة لفتحي البالغ من العمر 30 سنة فالأمر مختلف تماما بالنسبة إليه، فهو يعتبر نفسه مولودا جديدا لا يبلغ من العمر إلا سنتان، حيث قادته أطماعه للمجازفة بنفسه على متن قارب صغير في عرض البحر على أمل أن تطأ أقدامه جزيرة سردينيا، لكنه تاه في البحر رفقة 14 آخرين وبقوا يتخبطون في عرضه لأكثر من 15 يوما قبل أن تمر عليهم باخرة وتنتشلهم، وإن كان أحدهم قد فارق الحياة بعدما تعرض لدوار البحر وحمى شديدة أودت بحياته إثر اضطراره لشرب مياه البحر. حراڤة مخيرون بين السفن الكبيرة والقوارب الصغيرة لا أحد يعرف عن الحرڤة أكثر من الحراڤة أنفسهم، فهم يقضون الأيام والليالي يتبعون أحاول الطقس وحركة الريح وكل ما يتعلق بالجو، لتأمين رحلة آمنة وفي ظروف جوية مواتية، أما الذين لا يتمكّنون من تأمين المبلغ المطلوب من أجل الرحلة في قارب الموت، أو الذين يتوجسون خيفة من البحر وتقلباته، فإنهم يركزون على البواخر الداخلة إلى ميناء عنابة، متخذين من إحدى المناطق العالية المطلة على الميناء كمكان للمراقبة واختيار السفينة الملائمة، وتكون بذلك أولى محطة انطلاقهم، بعدما يجمعون كل المعلومات المتعلقة بالتاريخ واليوم الذي تنطلق فيه السفينة من ميناء عنابة والبلد الذي ستتجه نحوه، وعندها سيحملون حقائب الظهر المجهزة من طرف الحراڤة بما يحتاجونه من زاد ومؤن، إلا أن هذه الطريقة في الرحلة لم تعد آمنة أو ناجحة في غالب الأحيان بدليل اختيار الحراڤة للقوارب الصغيرة "البوطي" على السفن حتى ولو دفعوا مبالغ مالية متفاوتة، فالحراسة المشددة على البواخر كثيرا ما تكون سببا في كشف الحراڤة الذين تمكّنوا من التسلل داخل إحدى هذه السفن وبالتالي يكون مصيرهم السجن، وإن كان هؤلاء الذين يخافون من مخاطر البحر قد وجدوا في السفن طريقة لتجنب أهوال البحر، إلا أنهم لن يأمنوا ردة فعل قبطان السفينة الأجنبية، الذي قد يأمر بإلقاء الحراڤة في قلب البحر، لذا تجدهم يتجنبون السفن اليونانية، التي لا يتوانى ملاحوها في التخلص من الحراڤة برميهم في عرض البحر غير مبالين بمصيرهم، في حين يفضلون السفن البرتغالية والإسبانية وبدرجة أقل الفرنسية. وعلى الرغم من أن هذه السفن قد تبدو في ظاهرها أقل تراجيدية مقارنة بقوارب "البوطي" الصغيرة أو قوارب "الزودياك" المجهزة بمحركات قوية، إلا أن قصصا مأساوية كثيرة وقعت لشباب اختاروا التسلل إلى البواخر الراسية بميناء عنابة أقلّها توقيفهم ومحاكمتهم وإيداعهم السجن، وقد حدث الأكثر مأساوية من هذا، إذ يذكر لنا أحد المحامين كان موكلا للدفاع عن اثنين حاولا الهجرة غير الشرعية مع صديق ثالث لهما اتهما فيها بضرب صديقهم والتسبب له بجروح بليغة أدخلته الإنعاش داخل الباخرة، وواقع الحال أن الصديق الثالث كان قد سقط على رأسه حين حاول التسلل وهوى إلى أسفل السفينة وارتطم رأسه بقاعها، ولو توفي صديقهم لبقوا أحرارا خاصة أنه لا يوجد شهود على الحادثة، ولولا أن تعافى صاحبهم وأدلى بشهادته بعد أسابيع من الغيبوبة لكان وضعهما حرج، خاصة دون وجود شهود عن الحادثة، حيث اعترف أمام المصالح المعنية أنه سقط بعدما زلت قدمه. وفي حين نجا "هذا الحراڤ" من الموت بمساعدة صديقيه اللذين أنقذاه، فإن شباب كثيرين لقوا حتفهم وظلوا جثثا هامدة في غرفة المحركات، أو في أماكن خطيرة داخل السفينة إلى أن اكتشفوا من طرف البحارة، ورغم ذلك لا زالت "الحرڤة" تستهوي شبابنا رغم كل المخاطر التي تؤدي إلى القبر أو السجن وإذا أوصلتهم إلى أوروبا فإن الوضع لن يكون بالضرورة ورديا. الحراڤة ضحايا داسوا قوانين جرّمتهم رغم الإجراءات الكثيرة التي اتخذتها مصالح الأمن لمنع الحراڤة من التضحية بأرواحهم والمركزة أساسا على تشديد الخناق على المناطق المتخذة كنقاط انطلاق صوب المجهول، إلا أن الحراڤة مصرون على تنفيذ قراراتهم، حيث لم يعدموا الوسيلة في كثير من المرات وتمكّنوا من تحقيق حلمهم في أن يستنشقوا هواء سردينيا ويتحدثوا لغتها دون اعتبار منهم للقانون الذي جرّم فعلهم، هذا لما فيه من إساءة للوطن واقترابه للانتحار أكثر منه سعي لتحسين أوضاعهم المعيشية. يقول عبد العزيز إنه وبالرغم من فشله في الحرڤة إلا أنه عازم على تكرارها في أول فرصة تسنح له، مؤكدا أنه لا يخشى حرس السواحل ولا يخاف العقوبات المترتبة عن ذلك لأنه ببساطة اضطر لمواجهة البحر بما فيه من أخطار مميتة، ووصل لدرجة فقد فيها كل الثقة في إمكانية تحسن وضعه المعيشي، على أنه أبدى من جهة أخرى استياءه من القوانين التي تم صياغتها والتي وضعتهم في خانة المجرمين؛ بينما لم يسعوا إلا لتحقيق حياة كريمة لهم ولعائلاتهم. أما نوار البالغ من العمر 18 سنة والذي وجدناه منهمكا في عجن الخبز، فقد نفى عن نفسه رغبة الحرڤة في مقابل عدم لومه لمن يجبر على التخلي عن ماضيه واللجوء إلى البحر الذي لا يكون إلا أزرقا في نهاره وأسودا في ليله وكلاهما لا يزيدان في قلب الحراڤ إلا خوفا ورعبا ورغبة جامحة في الوصول إلى اليابسة التي ستكون فرجه باعتبار أن هذه المخاطر -حسبه- جعلته ضحية للمرة الثانية بعد أن كان ضحية ظروف معيشية صعبة. وبين هذا وذاك، فان سكان عنابة الذين تشربوا من المشكلات اليومية الكثيرة وأعيتهم الظروف المعيشية الصعبة، يرون أن الحرڤة وسيلة خلاصهم ولا يعتبرونها مخالفة يعاقب عليها القانون باعتبارها تحمل العديد من الدلالات أهمها الإساءة إلى سيادة الوطن وأخفها أنها غير شرعية وتودي بأصحابها إلى الموت في أحيان كثيرة. للحرڤة أصول.. ومنظم رحلات الموت بعنابة يتحدى الوصول للمسؤول الأول عن رحلات الموت ليس بالأمر اليسير، بحكم السرية والتكتم المحيطة به. كانت حجتنا في بحثنا عن هذا الشخص أننا عاصميون قصدنا عنابة للظفر بفرصة تحملنا نحو الضفة الأخرى لأسباب اجتهدنا كثيرا لنجعلها منطقية ومقنعة للوسطاء الذين بإمكانهم ربط لقاء بيننا وبين صاحبنا الذي ذاع صيته بصورة أثارت فينا الكثير من الفضول وشكّلت لدينا علامات استفهام كلما زادت الحيطة والحذر عند هؤلاء الوسطاء حتى كدنا نيأس من مقابلته باعتبار أن الشخص المعني أحرص من أن يكشف عن نفسه لغرباء لا يعرفهم، خاصة وأنه يقوم بعمل غير قانوني. وحدثت المفاجأة حينما كشف لنا منظم "الحرڤة" نحو سردينيا انطلاقا من عنابة عن نفسه بواسطة أحد الوسطاء، وقد ظهر ذكاءه من أول وهلة التقينا به فلم يصدق فكرة أننا نبحث عنه من أجل "الحرڤة" فاضطررنا للكشف عن هويتنا وحرصنا على أننا سنتكتم عن كل التفاصيل التي قد تؤدي إلى شخصه، ولكنه أكد لنا أنه لا يخشى الصحفيين وأننا مرحب بنا عنده. ولم يلبث محدثنا طويلا ليحدثنا عن نفسه بحكم عمله، معتبرا نفسه أهم شخص في المنطقة، ناهيك عن رحلاته التي نجحت كلها، حيث نقل شبابا كثيرين من مختلف مناطق الوطن إلى سردينيا باستثناء رحلة واحدة كللت بالفشل حين تاه بهم القارب في عرض البحر بسبب عاصفة لم تكن متوقعة أخذتهم تياراتها إلى الأراضي التونسية على جزيرة" لاقالات" حيث كتب له عمرا جديدا بعدما اعتقد أنه لن ينجو.. هي واحدة من مغامراته الخطيرة والأقسى على الإطلاق، ورغم ذلك يصر محدثنا على أنه لا يخشى البحر ولا يتصور عملا آخر غير تهريب البشر إلى الضفة الأخرى، مؤكدا أنه حريص على سلامة كل من يمتطي معه قاربه طلبا "للحرڤة" نافيا أن تكون مهامه هي تهريب الشباب دون معرفة الأسباب التي جعلتهم يقدمون على هذا العمل لأنه مطالب -حسب قوله- بمعرفة كل صغيرة وكبيرة على أي "حراڤ" يود ركوب البحر معه للرحيل إلى سردينيا، فهو لا يأخذ معه إلا من يقتنع بأنه مستعد لمواجهة أخطار البحر وأهواله، وكذا إلى الأسباب الحقيقية والمقنعة التي أدت بالحراڤ لاختيار الهجرة غير الشرعية فهو مضطر للدخول في مفاوضات قد تستمر أيام لإقناع بعضهم بالعدول عن "الحرڤة" إذا كان هذا المرشح للهجرة مستقرا في حياته، وله عمل قار، نافيا أن يكون المال هو هدفه بدليل أنه يهرب الناس بعشر ملايين سنتيم وب 4 أيضا ولو كانت الوجهة واحدة. آباء يشجعون أولادهم على الحرڤة وفتيات يلحقن بأصدقائهن سألنا المسؤول عن هذه الرحلات عن المبالغ المطلوبة للرحلة، فأجاب بسرعة أنها لا تخضع إلى أية مقاييس، إذ يمكن لأي "حراڤ" أن يرشيه بابتسامة أو كلام حلو، في مقابل مطالبته بأكثر من 10 ملايين سنتيم كأقصى حد، وهي قابلة للتغيير حسب الظروف وإن كان أكثرهم يدفعون من04 إلى 8 ملايين، غير أن هناك من يدفع أكثر من ذلك من تلقاء نفسه وأكثرهم المحكوم عليهم بالسجن غيابيا، فقد حدث وأن عرض أحد المواطنين القاطنين باسطاوالي بالعاصمة مبلغ 20 مليون سنتيم مقابل رحلة بالقارب بعدما صدر في حقه حكم بالسجن. وبين هذا وذاك تبقى الفتيات أكثر شرائح المجتمع سخاء في هذا المجال وذلك للالتحاق برفاقهن الذين سبقوهن للضفة الأخرى. يقول صاحبنا إنه في البداية كان يقصي الفتيات تماما خشية إصابتهن بالذعر في عرض البحر وخوفا من عدم السيطرة عليهن باعتبار أن الرجال الذين بدوا على سطح اليابسة شجعانا بالكاد تمالكوا أنفسهم وهم يشقون عباب البحر، وإن كان قد اهتدى إلى كيفية التحكم فيهم وهو تخويفهم في البداية وتهدئتهم وسط البحر، أما الفتيات اللائي لم توانين عن دفع 15 مليون سنتيم فقد افتكين القبول بصعوبة بسبب المشاكل الكثيرة التي يسببنها على القارب والتي جعلت القائم بالرحلات يعتبرهن أسوأ الحراڤة ويضطر لتخويفهن أكثر حتى يرضخن له ويلتزمن الصمت، فهو يهددهن برميهن في البحر في حال الاستمرار بالصراخ والنحيب ولم يكن ليوافق لولا حادثة وقعت له قبل أكثر من عامين عندما اضطر لأخذ أسرة متكونة من زوج وزوجة وكذا رضيعهما البالغ من العمر 18 شهرا بعد أن تعاطف معها، حيث تم طردها من بيتها من طرف العائلة الكبيرة، فلم تجد مكانا تذهب إليه فقررت الرحيل نهائيا، فكانت الزوجة أول امرأة يصطحبها معه إلى سردينيا لتبدأ أسراب الفتيات اللائي ساءهن أن يفترقن عن أصدقائهن فلحقنهم دون اكتراث منهن بعائلاتهن، وإن كن في أغلبهن غير متعلمات فقد أكد قائد المركب أنه لم يسبق أن أخذ معه فتاة تحمل شهادة معينة. وحسب "منظم" الرحلات إلى سردينيا، فإن الراغبين في الحرڤة أكثر بكثير مما يتصوره البعض أو ما تنشره وسائل الإعلام عن إلقاء القبض عن مجموعة، لأن غالبية هذه الرحلات تتم بسرية تامة وتنجح أيضا، وقد تأكدنا فعلا من أن المرشحين للهجرة والباحثين عن "الحرڤة" عدده كبير من خلال رنين الهاتف النقال لمنظم الرحلات الذي لم يتوقف والكل يطلب له مكانا في القارب. وما أثار استغرابنا اتصال أم ترجته أن يوافق على نقل ابنيها إلى الضفة الأخرى، وتوسلته بطريقة فهمنا منها درجة المعاناة التي يقاسيها هؤلاء الشباب والتي قد تفوق كل ما يتصوره خيال بشر، حتى أن هذه المرأة لم تتوان في عرض مبلغ مرتفع من أجل أن يقبل بنقل ولديها إلى سردينيا، وفي الأخير وافق على أخذ الابن الأكبر البالغ من العمر 28 سنة بمبلغ 6 ملايين سنتيم في حين رفض اصطحاب شقيقه الأصغر معللا ذلك بأنه من غير اللائق أن يهجر الشقيقان ويتركا أمهما وحدها. بعض زعماء شبكات الحرڤة يحظون بالتقدير قد يبدو صاحب قارب الموت إنسانا فضا لا يهمه إلا جمع الأموال من شباب يئسوا من حياة تنعدم فيها الكثير من الضروريات، وقد يحسبه كثيرون شخصا عديم المسؤولية ويتلاعب بمصائر مواطنين فروا من واقعهم، ولكن الحقيقة غير ذلك وقد استغربنا كثيرا إذ وجدنا أن الشخص الذي تحدثنا إليه مؤهل لتأدية عدة مهام متعلقة بالبحر لكونه متحصل على أكثر من شهادة كفاءة في هذا المجال، كما أنه دقيق في اختيار مرافقيه الذين سيصحبهم معه في رحلته، ويتخذ إجراءات احتياطية أدركنا معها أنه لا يترك فيها مصيره للصدف والأكثر من ذلك أنه حيوي ويؤدي كثيرا من الأمور لفرض سيطرته على الحراڤة يبتدئها كالقائد الصارم الذي يعنفهم قبل بداية الرحلة، لاسيما فيما يتعلق بالمستلزمات الكثيرة التي يجلبونها معهم، و التي غالبا ما يرمي بها في عرض البحر أو يقدمها لمن يساعده على دفع القارب. هناك قصص طريفة عن أطفال لا يكادون يرونه حتى يندفعون نحوه يترقبون حقهم في زاد الحراڤة، فمنهم من يتحصل على الأطعمة ومنهم على الألبسة والهواتف النقالة وفيهم من يتحصّل على الأموال باعتبار أن المعني يعمل على التخلص من كل ما يشير إلى بلده بما في ذلك العملة الوطنية، وقد سبق أن قدم مبلغا مالي يقدر بمليون سنتيم لأحد هؤلاء وقد نتج عن كل ذلك نشوء علاقة حميمية بين الأطفال وهذا الحراڤ الذي اكتسب مكانة كبيرة في قلوب العنابيين حتى أنه وعلى غرار كثيرين مثله يعملون كوسائط بين الحراڤة وشبكات النصب والاحتيال التي تستغل حاجتهم وتسلب أموالهم بحجة أنهم بحارة ومتعودون على نقل الشباب للضفة الأخرى، وبمجرد أن يحصلوا على الأموال يختفون عن الأنظار تاركين الشباب تائهين لا يعرفون ماذا يفعلون بعدما فقدوا أموالهم التي جمعوها بالجهد الجهيد، وإذا نالوا فرصة ملاقاة شبكات الحراڤة الحقيقيين يتمكنون من استرجاع أموالهم، حيث يفرض أصحاب المراكب على المحتالين إرجاع أموال الشباب باسم سلطة لم نفهمها، ولم نستطع فك ألغازها، ولم نعرف إلا أن هذه الشبكات تحظى بتقدير خاص من طرف زعماء العصابات الذين يحذرون عناصرهم من الاقتراب منها.