اعتَقَد المسؤولون لفترة محدودة، أنّ النموذج الأردني تجاوز "عُنق الزجاجة"، مع تراجع حجْم الحِراك الشعبي في عمّان والمحافظات الأخرى، باعتباره مؤشراً على قبول شعبي لخطِّ السيْر الرسمي، من تعديلات دستورية وإجراءات عملية للتّمهيد لانتخابات بلدية ونيابية. إلاّ أنّ الكُرة بدأت تتدحْرج مرّة أخرى في الإتجاه المعاكس تماماً، فعادت الحركة الشعبية تتصاعد والشِّعارات السياسية تخترق السقوف كافة، بما لم تشهده البلاد منذ عقود طويلة من "خطابات سياسية" لا تعرف أيّ خطوط حمراء!في الأيام الماضية فقط، بدت الأمور وكأنّ المشهد السياسي قُلب رأساً على عقِب، إذ تَجَدّد الحراك الشعبي بصورة مكثّفة في المحافظات وعمّان، وغداة توقيع الملك على القبول بالتعديلات الدستورية في نهاية سبتمبر الماضي، خرجت أكبر مسيرة في وسط المدينة عمّان بدعوة من جماعة الإخوان المسلمين، كتحدٍّ واضح لهذا السَّقف من الإصلاح الرسمي، وتلويح بحضور الجماعة الشعبي. المأزق الذي وضعت الجماعة النِّظام فيه، هو إعلان مقاطعتها الانتخابات البلدية المُقبلة ووضعها شروطاً خمسة قاسية للمشاركة، من بينها إعادة النظر في التعديلات الدستورية وتغيير الحكومة، وهي بالتأكيد شروط لا يمكن تحقيقها واقعياً بعد أن تمّ إقرار التعديلات الدستورية عبْر القنوات التشريعية كافة، إلاّ إذا تمّ التوافق على إطار سياسي بين الطرفين، باعتبار هذه التعديلات "دُفعة أولى" ضمن عملية إصلاح دستوري متواصل وتقديم ضمانات للسير في هذا الطريق الجديد من قبل "مطبخ القرار". وفي حال قاطعت الجماعة الانتخابات البلدية والنيابية، فإنّ مصداقية الإصلاح الرسمي ستكون قد فقدت زخمها وحضورها، وخسرت شطراً كبيراً من المعركة السياسية والإعلامية قبل أن تبدأ الانتخابات، إذ أنّ مبرر حلّ مجلس النواب سيصبح مضحكاً، إذا قاطعت المعارضة وبقي مقعدها شاغراً في المجلس القادم، فما الدّاعي للحل؟!دوائر القرار، بالرغم من انزعاجها من "موقف الجماعة"، والقلق مما يسميه مسؤولون كبار بنوايا انقلابية لها على بنية النظام السياسي، إلاّ أنّ هذه الدوائر نفسها تُدرك تماماً أهمية مشاركة الجماعة في الانتخابات القادمة من أربع زوايا حيوية، لا يمكن تجاهلها. الأولى، أنّها الحزب الرئيسي للمعارضة في البلاد. والثانية، أنها تمثل اللَّون الإسلامي بخصوصيته المعروفة وأهميته في اللحظة الحالية في العالم العربي. والثالثة، أنّها بمثابة الواجهة السياسية للأردنيين من أصول فلسطينية وحضورها ضروري لعدم انعزال هذه الشريحة الواسعة (قرابة 50%) من السكان. أمّا الزاوية الرابعة، فالدولة بحاجة لمعارضة عقلانية واقعية مع بروز الخطاب الراديكالي المرتفع. تجديد العقد أم الطلاق ما هو أخطر من الصِّراع التقليدي بين الجماعة والدولة، تلك المعارضة الجديدة الراديكالية ذات الطابع (الشرق أردني)، مع اختلاف ألوانها وأطيافها ما بين نزوع يساري وإسلامي ومستقل، لكنها تشكّل اليوم التحدّي الأكثر أهمية وصعوبة للنظام الملَكي، بعد عقود من الإستقرار، وفره له توزيع أدوار بين قاعدة شرق أردنية متزاوجة مع الدولة وقاعدة أردنية من أصول فلسطينية تقبل بالدّور الإقتصادي الخاص وبدور سياسي محدود. القاعدة الشرق أردنية (من أبناء العشائر والمحافظات والمدن المختلفة، الذين يشكلون الجسد البشري للدولة والعمود الفقري للأجهزة العسكرية والأمنية)، تتململ اليوم وتخرج من عباءة العلاقة مع النظام وتبحث عن مصالحها بعد أن شعرت، وِفقاً لمزاج سائد عام، بأنّ الوضع الرّاهن سيؤدّي بها إلى مستقبل بلا أفُق، تحت وطأة الفقر والبطالة وتراجُع دور الدولة الاقتصادي والشعور بالحِرمان الاجتماعي والفجْوة التنموية الهائلة بين عمّان والمدن الكُبرى، وبين المحافظات التي تعاني من مشكلات اقتصادية مُزمنة.المدينة التي شبّت تماماً عن الطوق، هي الطفيلة، ولحقها حيّ الطفايلة في عمّان نفسها (وهو حيّ فقير مهمّش، يعيش فيه أبناء المحافظة ممَّن يعملون في العاصمة ويواجهون مشكلات اقتصادية كبيرة)، وقد تجاوزت السقوف في الشعارات والإعتصامات والمهرجانات، وصعدت فيه نخب جديدة من الشباب، تعلن بوضوح أنّ شرعية النظام أصبحت على المحك وأنّها تكاد تجتاز الخط الفاصل بين المطالبة بإصلاح النظام وإسقاطه!هذا الخط تجاوزته عملياً مجموعات شرق أردنية أخرى من أبناء العشائر والمتقاعدين العسكريين وغيرهم، عندما عقدوا اجتماعاً في بلدة اللبّن القريبة من عمّان، وتحدّث بعض الحضور بوضوح بعدم استثناء خيار إسقاط النظام.بالضرورة، فإنّ ما يحدُث في المحافظات الأردنية، التي بدأت تغلي بخطابات جديدة قاسية ضد النظام، هو تكذيب شرس وقاطع للدِّعاية السياسية التي استخدمها مسؤولون أردنيون مع مسؤولين غربيين في المرحلة الأولى من الربيع العربي، بتأكيدهم أنّ "الشرق أردنيين لا يريدون الإصلاح السياسي ويتخوفون منه"، وِفق مصادر دبلوماسية غربية أكّدت ذلك لسويس انفو، وإذا بهذه الشريحة نفسها تتصدّر المطالبة بالإصلاح السياسي، بل وترفض الإصلاحات الشكلية والجُزئية، مطالبة بإصلاحات جوهرية تمسّ مباشرةً إعادة توزيع السلطات بصورة حقيقية وعملية وبحماية المال العام من الفساد وبإعادة النظر في السياسات الاقتصادية، لتكون أكثر عدالة وتوازناً.