عدائي لصدام لم يدخلني العراق على ظهر دبابة أمريكية هاجم صدام في حياته بشراسة، لكنه لم يخن بلده.. تعرض لثلاث محاولات اغتيال، فقضى أكثر من ربع قرن في المنفى.. ميّز بين الاختلاف في الرأي والولاء للوطن.. وآمن أنه لا بديل عن الفكر والثقافة لإخراج العالم العربي من كبوته.. إنه السياسي والمثقف العراقي البارز "فخري كريم" الذي انفردت "الأمة العربية" بمحاورته. ومن لا يعرف "فخري كريم"، فهو سياسي عراقي قديم، أفنى ربع قرن من عمره في معارضة النظام العراقي السابق وحزب البعث، حارب بكل ما أوتي من قوة مفاهيم الدكتاتورية والحجر على الرأي وأعداء الثقافة. وفي الوقت الذي دخل فيه معظم المعارضين العراقيين على ظهر الدبابات الأمريكية، ترجل وحيدا من دمشق إلى بغداد بعد سقوطها.. ليحافظ على سمعته وتاريخه النضالي، فكان أحد القلائل الذين قاتلوا من أجل العراق دون أن يمدوا أيديهم لأعدائه، وأحد النماذج الحية على التفريق بين أبناء العراق المخلصين وعملاء الاحتلال. ومنذ سنوات، وهو يسعى من أجل تحرير العراق وفك قيود المواطن العربي، وساعده مشواره السياسي في تقلد عديد المناصب مثل رئاسة المجلس العراقي للسلم والتضامن، ومستشار الرئيس العراقي الحالي "جلال الطالباني"، إضافة إلى مناصبه الثقافية التي لا تحصى، وأهمها رئاسة مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون، سألته: * أبدأ معك بلفتتك الإنسانية تجاه الصحفي الجزائري الذي أراد بيع كليته بعدما ضاقت عليه الدنيا، لماذا تعاطفت معه لهذا الحد؟ ** الموضوع أكبر من الإنسانية والتعاطف.. إنها كارثة يعيشها المثقف العربي عموما، فضح فصولها هذا الصحفي الذي كشفت مأساته عما وصل إليه حال المبدعين في محيط تنفق فيه المليارات على اللهو والفساد، في حين يعاني صفوة المجتمع من الفقر والتهميش، أحيانا سهوا وغالبا عمدا، من أجل القضاء على آخر أمل للأمة، وهم مثقفيها، فمن المؤسف ألا تتحرك الأوساط والقائمون على مؤسسات ثقافية تصرف الملايين على دعوات وحفلات وجوائز لمد يد العون للمثقف. * لكن، كيف عرفت بمأساة هذا الصحفي؟ ** كنت أتابع برنامج على شاشة "العربية" تطرق إلى معاناة المثقفين العرب وسلط الضوء على قضية الصحفي الجزائري الذي عرض كليته للبيع، باعتباره الحل الذي سيخلصه من الفاقة والعوز، فشعرت بحالة غضب شديد، واتصلت على الفور بالقناة طالبا منع الصحفي من الإقدام على هذه الفعلة، وطالبت إدارة القناة بإبلاغه أن مؤسسة "المدى" ستقدم له منحة مالية مقدارها خمسة آلاف دولار كي يبقى رأسه مرفوعا، مثلما عودتنا الجزائر التي لا تنجب إلا الرجال وشامخي الرؤوس، ووقتها رفضت أن يعرض هذا الأمر على شاشات التلفزيون وأن يبقى الموضوع بيني وبين الصحفي المعني، لكن قناة "العربية" أصرت بشدة على تناول الموضوع وأنها حصلت على موافقة الصحفي الجزائري، فوافقت على مضض، لأن كل ما كان يشغلني هو حل هذه القضية الخطيرة التي تمس الثقافة العربية وتتطلب من الجميع العمل على وقف هذا الانهيار، وبعد تلك الواقعة بأيام قررت إنشاء صندوق يعنى بالمثقفين في الدول العربية. * الموقف على الشاشة كان مؤثرا للغاية.. فكيف تعاملت معه؟ ** حينما أجهش الصحفي الجزائري بالبكاء، كنت متأسيا للغاية على حالنا كمثقفين. لكن حينما قال إنه كان يتوقّع أن تأتي هذه المبادرة من الوسط الثقافي الجزائري، إلا أنها جاءت من العراقيين قبل غيرهم، شعرت أنني لم أقدم شيئا أمام ما قدمته الجزائر والشعب الجزائري لأشقائهم العراقيين، فدعوت الصحفي لاستعادة ثقته بنفسه وبزملائه ووطنه ومواصلة عمله الإبداعي، كما أخبرته بأن المال المقدم إليه حلال مئة في المئة. * هناك من يطعن في مصدر ثروتك.. ما ردك؟ ** الشخص الذي تحدث عن هذا الموضوع، لم يستوعب قيام شخص قيادي في الحزب بإدارة مشروع شخصي، وهذا الأمر كان موضوع التباس وتساؤل، من باب أنه لم يفهم هل مجلة "النهج" قضية شخصية أم حزبية. لكن الأمر الذي لا لبس فيه، أن الحزب الشيوعي لم يمتلك ثروة في يوم من الأيام، بل كان يمتلك بعض الأموال من التبرعات والمساعدات التي لم تكن تكفي نفقات للحزب. * إذن، أين ذهبت الأموال التي كان يحصل عليها الحزب من بعض الرؤساء والأثرياء العرب؟ ** إن أموال الحزب لم تصل في يوم من الأيام إلى مبلغ المليون دولار، إلا مرة واحدة عندما حصل على مبلغ 200 ألف دولار من الرئيس اليمني السابق "علي ناصر"، ومبلغ مماثل من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ولم يكن الحزب يحصل على مساعدات بشكل دوري إلا من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. * كشفت في وقت سابق عن قائمة تضم عددا من الشخصيات العربية الاعتبارية، كانت تحصل على كوبونات نفطية من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.. والسؤال الملح: كيف تحصلت على هذه المعلومات؟ ** هذه المعلومات كانت محفوظة في سجلات الاستخبارات العراقية في زمن حكم صدام حسين، ثم وقعت هذه الوثائق في يد الحاكم المدني السابق للعراق "بول بريمر"، والذي كان يحيطها بسرية كبيرة ولا يريدها أن تخرج للعلن، لكني تمكنت من الحصول عليها عن طريق صديق له كان قريبا جدا من موقع هذه الوثائق، فتمكن من سحبها سرا لأقوم بتصويرها في أقل من ساعة، خاصة وأني بحثت عنها كثيرا لدرايتي سابقا ببعض تفاصيل الموضوع، لكنني كنت بحاجة للدليل المادي. * لماذا تعمّدت إثارة هذه القضية تحديدا، رغم درايتك بعواقبها؟ ** كنت أعلم أن الأسماء التي كشفتها على حقيقتها أمام الناس، ستستخدم كل ما في جعبتها من أجل تحطيمي، لكنني لم ألتفت لتلك الحسابات، فقد نجوت من ثلاث محاولات اغتيال دبرها نظام صدام ضدي واعتدت على المعارك التي أناصر فيها الحق، فقررت خوض المعركة من أجل هدف شريف، وهو المواطن العربي الذي من حقه معرفة الحقيقة، ومن حقه أن يجد من يخرجه من دوامة التغفيل والاستهانة بعقله. إضافة إلى أن هؤلاء المرتشون الذين كشفت فضائحهم بالوثائق، يريدون أن يمتد الخراب السياسي العربي إلى الوضع الثقافي، في حين أن الثقافة هي الخندق الأخير للأمة العربية، وكان ضروريا وضع حد لفسادهم، لأنهم هم أنفسهم من يتهم الفلسطينيين الذين بقوا متمسكين وصامدين بأرضهم بالخيانة، وهم ذاتهم الذين يحاربون كل بؤر المقاومة العربية الآن لتفريغ الساحة للمستعمر. * أنت ودار "المدى" عرضة للقصف المستمر.. يا ترى ما أسباب وقوعكما في دائرة الاتهام؟ ** ما أستغربه حقا، هو استهداف دار "المدى" للثقافة والفنون منذ انطلاقتها، وحتى اليوم، حتى وصل الأمر إلى تخويني واتهامي، في الوقت الذي يحتاج فيه العالم العربي آلاف من المؤسسات الثقافية من هذا النوع لبعث روحه الثقافية والفكرية. وما يثير حزني، أنني أسست هذا المشروع في دمشق ليس من أجل الربح، وإنما لخلق هوية عربية تقدمية تساعد في هذا الجو الكئيب على إحياء الحياة الثقافية في البلدان العربية، أسستها من أجل التعاون مع بقية المؤسسات الثقافية العربية لتطوير مشروعنا الثقافي العربي، لكن للأسف البعض هاجم فقط لدواعي تنافسية دون النظر للمصلحة العليا للوطن. ** لماذا إذن يرى كثير من الصحفيين العرب أنك ومشروعاتك خطر داهم على الأمة؟ ** هذا السؤال موجه إليهم، أما أنا فكل ما أفعله هو أنني أساهم في تفعيل الحياة الثقافية العربية بالتعاون مع مثقفين ديمقراطيين ومخلصين، يقفون ضد المخاطر التي تستهدف منطقتنا، وفي مقدمتها التفكر الطائفي والعنصري والإرهابي، ومن أجل خلق قاعدة ثقافية إيجابية تؤسس لهوية ثقافية عربية ومشاريع نهضوية تدعو للديمقراطية وتقاوم الاحتلال الجاثم فوق صدورنا. * بين الدماء والضحايا والمتفجرات وفوقهم الاحتلال، كيف يمكن الحديث عن حياة ثقافية في العراق؟ ** الوضع الثقافي العربي عموما محاصر اليوم بالوضع السياسي الفاسد، ومليء بالمستنقعات التي تتحرك فيها أصوات مضادة لما هو إبداعي، فهناك من يقف ضد تحوّل الثقافة العربية إلى معول لبناء الأمة. أما الثقافة العراقية، ورغم الأوضاع الأمنية غير المستقرة، فهي اليوم تلعب دورا مؤثرا في تجديد ونهوض الثقافة العربية، فقديما كانوا يقولون إن الكتاب يؤلف في بيروت ويطبع في القاهرة ويقرأ في بغداد، اليوم الكتاب يؤلف ويطبع ويقرأ في بغداد، دون التقليل من أهمية الإبداع في بيروت أو القاهرة أو أي مكان عربي آخر، فأحيانا تخلق الأزمات إبداعا وتصنع مبدعين، تماما مثلما حدث عندكم في الجزائر، التي أثمرت سنوات الإرهاب فيها في ظهور وتفوق واضح للإعلام الجزائري على الساحة العربية. * بالرغم من كونك كرديا، إلا أن توجهاتك ومشروعاتك قومية عربية، كيف تفسر هذا التناقض؟ ** وما التناقض في ذلك؟ للأسف، هناك من يحاول التشهير بالمثقف الكردي وبالشعب الكردي عموما، واصفا إياه ظلما بالعدو للعروبة والثقافة العربية، فالأكراد أمة تعتز بثقافتها، لكنها تتغنى بانسجامها مع العرب، وأثبت التاريخ أن الأكراد متكاتفون ومتفقون مع العرب، بدءا من البطل الكردي صلاح الدين الذي أفنى حياته من أجل تحرير تراب الأمة والذود عنها، ووصولا إلى أبرز شاعرين عراقيين يحسبان على الشعر العربي، بالرغم من كونهما كرديان وهما الزهاوي والرصافي. * ألا ترى أنك متهم كباقي أطياف المعارضة العراقية لنظام صدام، بالعمالة لصالح المحتل؟ ** الاختلاف مع الحاكم لا يعني خيانة للوطن، فأنا كنت عدوا للدكتاتورية والظلم والاستبداد، لكنني لم أدخل العراق على ظهر دبابة أمريكية ولم أضع يدي أبدا في يد المحتل، بل إنني أسعى اليوم لتحرير كل شبر من أرض العراق، وإعادة بناء عراق ديمقراطي عربي ليست له أي علاقة بالتبعية التي كنا نعيشها فعلا في زمن النظام السابق، تارة للشرق وتارة أخرى للغرب، حتى سقطنا فريسة في يد المستعمر. ** وما حقيقة مشروعك الضخم الذي يهدف لإحياء الكتاب العربي؟ ** القارئ العربي فقد الثقة منذ عقود في المرجعية الثقافية العربية، وانحدر مستوى توزيع الكتاب في كل البلدان العربية. وبالرغم من أن القارئ موجود، إلا أن الكاتب الموثوق به اندثر، ومن هنا ولد مشروع "الكتاب للجميع" منذ سنوات قليلة لإعادة الاعتبار إلى أهم العناوين الصادرة خلال القرنين الماضيين، وذلك من خلال إعادة نشر أمهات الكتب العربية والعالمية التي تغطي سائر حقول الثقافة والفنون والمعرفة الإنسانية التي أثرت حياتنا الثقافية وشكّلت مصدر إلهام وخلق إبداعي، ومتعة روحية للأجيال التي عايشت أحداث القرن العشرين في حركة نهوضها وفيما انتهت إليه من إخفاق في نهايتها. فاستعادة العناصر الإيجابية في الميدان الثقافي، من شأنها إثراء الحياة الروحية للأجيال الجديدة وإغراؤها بالتوجه إلى تلك الينابيع الملهمة للارتقاء إلى مستوى ما تطرحه من تطلعات وطموح لعلها تساهم في تطبيب الأجواء المحبطة التي تحيط بنا. * لكن، كيف يمكن إنجاح هكذا مشروع في ظل تردي الأحوال الاقتصادية للقارئ العربي؟ ** تدني مستوى الدخل للمواطن العربي ليس عقبة أمام انتشار الكتاب، لأننا استحدثنا وسائل للتغلب على هذا الوضع، لكن الحواجز السياسية هي أكبر عائق أمام انتشار الكتاب، مضاف إليها وسائل اللهو وتحويل العمل الثقافي إلى ميدان للمنافسة التجارية الفظة، كل ذلك يجتمع لمحاصرة حركة الكتاب، هذا إضافة إلى افتقار العالم العربي إلى مؤسسات لتوزيع الكتاب، وهنا تكمن أهمية المشروع الذي نجح في خلق شبكة تهتم بتوزيع الكتاب لا تضع المعايير التجارية والربحية في الأولوية، فنحن نوزع كتابا كل شهر مجانا مع عدد من الصحف العربية، على أن تباع العناوين الأخرى بسعر الكلفة وتوزع على أوسع نطاق عربي ممكن، بعد تأمين دعم المؤسسات الثقافية المعنية ونطمح أن يشمل المشروع صحيفة في كل دولة عربية. * دعوتك القضائية ضد الصحفية اللبنانية "سماح إدريس"، ألا تعتبر حجرا على آراء الآخرين، رغم دعوتك الدائمة لحرية الرأي؟ ** هناك فرق بين حرية الرأي والمساس زورا وبهتانا بسمعة الآخرين، فقد تقدمت بشكوى ضد القدح والذم اللذان مارستهما الصحفية في مجلة "الآداب" اللبنانية، فالقضاء وسيلة إنسانية تهدف إلى إنصاف المظلوم ورد اعتباره. * ولكنك شخصية اعتبارية ومنخرط في المشروع السياسي، ومن حق الناس أن تنازلك وتهاجمك، ومن حقك أيضا أن ترد مدافعا عن تاريخك وأفكارك دون اللجوء للقضاء... ** لطالما هاجمني الكثيرون من القومجية أو من يسمون أنفسهم قوميون، وكنت في كل مرة دائما أرد في حدود المنطق والأخلاق والأدلة الدامغة، وأحيانا كثيرة لا أرد إذا تدنى مستوى النقد. أما وبعد أن وصل الأمر حد الإهانة الشخصية والمساس بالسمعة التي هي أغلى عندي من كل شيء، فلم أجد وسيلة مناسبة أكثر من القضاء، فأكثر ما يؤلمني أن كثيرا من المثقفين العرب لا يملكون إلا السب والقذف. وبدلا من استثمار وقتهم في البحث والتنقيب عن الأدلة التي تدعم كتاباتهم، يختارون طرقا سهلة وعشوائية لا تمت للعمل المهني بصلة.