نحاول في هذا الروبورتاج بحث أسباب عجز قطاع الري إلى حد الآن عن تغطية احتياجات سكان ولاية معسكر من مياه الشرب، ولاسيما سكان الجهة الشمالية الواقعة على محور المحمدية سيڤ، ويستمد هذا البحث مشروعيته من كون قطاع الري كان من القطاعات التي حظيت بأكبر قسط من الاعتمادات المالية المخصصة لتمويل برامج التنمية بولاية معسكر بعد قطاع الأشغال العمومية، نحرص من البداية التذكير بها إجمالا لإظهار جهد الدولة في هذا المجال. وتشير حصيلة السنوات العشر الماضية في هذا الخصوص، إلى رصد الدولة حوالي 1200 مليار سنتيم لتطوير هياكل الري بولاية معسكر، ومن ثم تحسين ظروف حياة المواطنين، ولاسيما من حيث التموين بالماء الصالح للشرب ووضع شبكات التطهير الصحي والحفاظ على البيئة والمحيط الطبيعي. وقد استغلت هذه الأموال الطائلة لتعبئة أكبر كمية من المياه السطحية والجوفية، وكذا لرسكلة المياه المستعملة. ولعل من أهم المشاريع المنجزة خلال العقد الماضي، مشروع تدعيم محوري بوحنيفية، القيطنة، حسين وبوحنيفية معسكر بالمياه الصالحة للشرب انطلاقا من سد بوحنيفية، وهو المشروع الذي كلّف قرابة 144 مليار سنتيم سمحت بإنجاز محطة تصفية المياه بسد بوحنيفية بمنسوب قدره (250 لترا في الثانية)، أي ما يعادل 22400 متر مكعب يوميا، وكذا محطات لضخ المياه وشبكة لنقل الماء تمتد على 60 كلم موجهة لتوفير المياه الصالحة للشرب لسكان بلديات بوحنيفية والقيطنة وحسين، زيادة على سكان بلديتين من ولاية سيدي بلعباس، وكل هذه العمليات لا تمثل سوى الشطر الأول من المشروع الذي أشرف رئيس الجمهورية على تدشينه في جويلية 2003. أما الشطر الثاني الذي انتهت به الأشغال في جويلية 2006، فقد تمثل في مد قنوات لجر المياه من محطة التصفية المذكورة بسد بوحنيفية نحو محطة الضخ بتيزي، التي تمون سكان عاصمة الولاية وما جاورها، وهو ما سمح بتدعيم حصة مدينة معسكر ب 12900 متر مكعب من المياه يوميا، علما أن نفس المدينة التي تأوي أكثر من 108 آلاف نسمة حظيت بمشروع آخر رصدت له الدولة 27 مليار سنتيم لإنجازه، والذي سمح بحفر وتجهيز 3 آبار عميقة بمنطقة معسكر، وبالتالي توفير 5 آلاف متر مكعب من المياه الإضافية لسكان عاصمة الولاية. ودائما في مجال تعبئة الموارد المائية المخصصة للشرب، استفادت مدينة سيڤ التي يسكنها أكثر من 69 ألف نسمة، من اعتماد مالي مبلغه 11 مليار سنتيم لإعادة الاعتبار لمحطة تصفية المياه الصالحة للشرب بها، وتقدر طاقة هذه المحطة ب 8 آلاف متر مكعب يوميا، علما أن مشروعا مماثلا استهلك حوالي 18 مليار سنتيم، استهدف إعادة الاعتبار لمحطة تصفية المياه بمدينة المحمدية التي تنتج يوميا 10 آلاف متر مكعب من الماء الشروب. 22 بلدية بلا ماء هل كانت هذه الاستثمارات الضخمة كافية لتوفير المياه لسكان الولاية؟ الإجابة بنعم، ستكون منافية للواقع. إذ باستثناء 25 بلدية بالولاية، يمكن اعتبارها مبدئيا مكتفية من حيث التموين بمياه الشرب، لتجاوز حجم إنتاجها لهذه المادة، حجم احتياجاتها، فإن 22 بلدية أخرى يقل إنتاجها من الماء عن حاجة سكانها، ولكن عجز هذه البلديات ينعكس في المحصلة النهائية على كامل ولاية معسكر التي تشكو من عجز في تلبية احتياجاتها اليومية من المياه، مادامت لا تنتج سوى 109582 مترا مكعبا من الماء يوميا، مقابل احتياجات يومية تزيد عن 114447 مترا مكعبا، وهو ما يجعل نصيب الفرد من الماء كمعدل نظري في حدود 140 لترا يوميا، كما أسلفنا، غير أن المعطيات الجزئية تشير إلى أن 29 بلدية يقل فيها حظ الفرد عن هذا المعدل الوسطي، بل إن 18 بلدية من هذه البلديات لا يحصل فيها المواطن سوى على أقل من مائة لتر يوميا، ولكن لا تصله كل يوم، وإنما وفق رزنامة توزيع تتغير بحسب الظروف والفصول. وفي أثناء ذلك، يختل الوضع فيصبح البعض يغرقون في بحر لا ينضب من المياه العذبة، ويقطع البعض الآخر المسافات الطويلة بحثا عن قطرة ماء، ويلجأ آخرون إلى الصهاريج المتنقلة للحصول حاجتهم الدنيا من الماء. ولأخذ فكرة أوضح عن هذا الاختلال المتعدد الأوجه، يكفي أن نعرف بأن نصف البلديات العاجزة عن تغطية احتياجاتها من الماء، تقع شمال الولاية على محور المحمدية سيڤ. كما أنه إذا استثنينا بلديات العلايمية، رأس العين، عميروش والشرفة، فإن كل البلديات الشمالية أي 11 بلدية يقل فيها النصيب الفردي من المياه عن المعدل الولائي "النظري" المقدر ب 140 لترا للنسبة يوميا. كما أن أدنى معدل ولائي يوجد بإحدى البلديات الشمالية، وهي بلدية "بوهني"، الذي لا يزيد نصيب الفرد فيها عن 34 لترا يوميا، وأعلاه يوجد بجنوب الولاية ببلدية زلامطة التي يقدر نصيب كل نسمة فيها ب 304 لترات يوميا. الوجه الآخر من الاختلال، يوجد على مستولى طاقات التخزين، حيث نلاحظ بأنه إذا كانت هذه الطاقة في حدود الإنتاج اليومي للمياه بالولاية، فإنه لا يلبي الاحتياجات الحالية والمستقبلية، وتكفي الإشارة في هذا الشأن إلى أنه من أصل 22 بلدية تشرف وحدة "الجزائرية للمياه" على تسييرها بولاية معسكر، هناك 20 بلدية تعاني عجزا في طاقة تخزين المياه، منها تسع بلديات شمالية. ويصل العجز الإجمالي لهذه البلديات في مجال التخزين، إلى 34470 متر مكعب، منها 11,300 متر مكعب تمثل العجز الخاص ببلديات شمال، علما أن طاقة التخزين ينبغي أن تتجاوز حجم الاحتياجات بنسبة 20 بالمائة من الناحية التقنية لضمان الانتظام لوتيرة توزيع المياه، حسبما أكده لنا مسؤول بوحدة "الجزائرية للمياه". نصف إنتاج محطة "فرقوق" من المياه يمون وهران أكد بودربالة مدير وحدة "الجزائرية للمياه" أن بلديات شمال الولاية تتمون من المياه السطحية، وهو ما يفسر النقص النسبي للمياه بها. ومن أجل ذلك يضيف نفس المسؤول يرتقب تموين هذه البلديات من مشروع "ماو" بعد إكماله، وحتى من محطة تحلية مياه البحر، موضحا أن مخزون السدود هذا العام جيد مقارنة مع السنوات الماضية، وهو ما يعفي المنطقة من مشاكل التموين بالماء الشروب، مبررا الانقطاعات واضطراب توزيع الماء ببعض البلديات الشمالية، بالتصدعات الكبيرة لقنوات نقل وتوزيع المياه، الأمر الذي يحتاج إلى وقت للتصليح وآخر لعودة الضغط الكافي إلى الشبكة. ومن بين 60 ألف متر مكعب من المياه تنتجها محطة فرقوق بالمحمدية، سيدي عبد المومن ببوهني، مقطع دوز وسيڤ، وهي بلديات تزيد احتياجاتها من المياه عن 37 ألف متر مكعب يوميا، بينما لا تزيد الكمية الموزعة بها عن 24 ألف متر مكعب. وبخصوص إشكالية طاقة التخزين، أكد بودربالة مدير وحدة "الجزائرية للمياه" بمعسكر، أن هذه الطاقة كافية بالمقارنة مع حجم الإنتاج، مع تسجيل عجز نسبي بالطابق الأوسط بالنسبة لمدينة معسكر بالمنطقة السكنية الثامنة، وكذا بعض البلديات الصغرى، ويبقى العجز الأكبر في طاقة التخزين على مستولى مدينة تيغنيف التي يزيد عجزها في هذا المجال عن 7500 متر مكعب. وحسب ذات المسؤول، فإن مديرية الري بالولاية قد برمجت مشاريع ودراسات لإنجاز خزانين، سعة الواحد منهما 2500 متر مكعب، بمدينة المحمدية، ومشروعين آخرين لإنجاز خزانين يسع كل واحد 1500 متر مكعب لفائدة المدينةالجديدةبالمحمدية. وللعودة إلى اختلالات توزيع المياه من باب التسربات، يؤكد نفس المتحدث أنها تقلصت عما كانت عليه بفضل مشاريع تجديد شبكة نقل وتوزيع المياه في مرحلة أولى، وكذا إنجاز دراسة من طرف مكتب دراسات كندي لإعادة الاعتبار الكلي لهذه الشبكة بعاصمة الولاية، والملف موجود على مستوى الإدارة المركزية، في انتظار وضعها حيز التنفيذ في مرحلة ثانية. سوء التوزيع يفاقم مشكلة المياه أكد البعض أن الماء لم يزر حنفياتهم لأسابيع، ولا سيما بالنسبة للمقيمين منهم في الطوابق العليا من العمارات، وفي الأحياء الواقعة في المرتفعات، علما أن التبريرات التقنية المقدمة لهؤلاء غالبا ما تفشل في إقناعهم بسبب حرمانهم من الماء. كما اعترفت إحدى السيدات التي كانت من بين المواطنين الذين استقبلهم مدير وحدة "الجزائرية للمياه" يوم 13 جويلية الماضي، وهو نفس اليوم الذي وصلتنا فيه من مجموعة من سكان أحد أحياء الصحاورية ببلدية المحمدية، يشكون فيها من حرمانهم من نعمة الماء، ولا سيما في فصل الصيف، ومثل هذه الشكاوى تكثر في مثل هذه الفترة من العام، حيث يؤكد بعض الشاكين ولا سيما الحواضر الكبرى اضطرارهم إلى شراء الماء عن طريق الصهاريج المتنقلة وتسديد فاتورة الماء في نفس الوقت، رغم أن المياه غائبة في معظم الأوقات عن الحنفيات. مسؤول بمديرية الري بولاية معسكر، أرجع مشكلة المياه إلى سوء التوزيع، وأوضح أن التوزيع السليم للمياه المتوفرة يمكن أن يشرب 60 بالمائة من سكان الولاية يوميا، استنادا إلى إنتاج الحسابات التي أجريت في هذا الشأن. وقد استفسرنا أحد رؤساء إحدى البلديات الشمالية بالولاية، وهو رئيس بلدية سيڤ حول وضعية التموين بالماء، فأكد بدوره أن الوضع تحسن مقارنة مع السنوات الماضية، ولا سيما في المدينةالجديدة التي استفادت من مشروع لتجديد 80 بالمائة من شبكة مياهها، مضيفا أن التموين بالماء الشروب تتم 3 مرات في الأسبوع، وأن العمارات يبلغها الماء إلى غاية الطابق الثالث. وبخصوص دوار الخروب الذي يشكو من نقص الماء، فقد تم استلام خزان مائي مؤخرا مخصص لتموين سكانه، الذين قامت "الجزائرية للمياه" بإعلامهم بأنها باشرت أشغال الوصل الفردي بشبكة المياه. ثمن البرمجة الظرفية للمشاريع وما يستخلص في نهاية المطاف، أن قطاع الري بولاية معسكر قد استفاد فعلا من إنجازات معتبرة، غير أن هذه الإنجازات لم تتمكن إلى حد الآن من تحقيق التوازن المنشود بين العرض والطلب في مجال توفير المياه، حتى خلال السنوات التي يكون فيها مخزون المياه السطحية قياسيا، كما هو عليه الموسم الحالي بتجاوزه سقف 120 مليون متر مكعب في عز الصيف، وهو أمر لم تعرفه الولاية منذ مدة. ومرد هذا العجز حسب بعض الملاحظين هو اعتماد قطاع الري على الظرفية في سد احتياجات الولاية إلى مياه الشرب، فلا يبرمج مشروع لفائدة منطقة ما حتى تبلغ الأزمة بها ذروتها، لأن البرمجة تتم مجزأة.