تشم في طرقاتها عند السير فيها رائحة الغبار الذي حركته حوافر خيولهم، تتقدم في السير قليلا فيتراءى لك على البعد صورة جندي يقف عند إحدى قبابها العالية حاملا سهمه، وعلى رأسه تلك الخوذة المعدنية الخضراء، تتقدم أكثر فترى مآذن جامعها الكبير الذي صمم على نفس طراز مسجد أياصوفيا بتركيا، تأخذك خطواتك أكثر وأكثر فتنفصل عن المدينة التي جئت منها، وتشعر وكأنك قد انفصلت عن الزمان الذي تعيش فيه، واخترقت مئات السنين إلى الوراء، لتركب آلة الزمان التي تعود بك إلى عصور متنوعة، فما بين الناصر صلاح الدين الأيوبي، وعز الدين أيبك وأقطاي وشجرة الدر وقطز وبيبرس، ومحمد علي ومذبحة مماليكه، تتوالى الحكايات في طرقات قلعة صلاح الدين الأيوبي التي لا تزال شامخة لتشعرك زيارتها حتى في حال تكرارها بحالة من الإعجاب الممزوج بالإثارة، حيث يحكي كل ركن فيها حكاية، ويخبرك كل مبنى تمر عبره بقصة، لتمتد الحواديت التي لم تكن أبدا خيالية إلى خارج أسوارها المنيعة التي تحيط بها في حنان تشعر به وأنت تمر بجوارها وكأنها تخشى عليها من أي اعتداء. كانت البداية في عام 1176 ميلادية، حينما أراد صلاح الدين الأيوبي حماية مصر المحروسة من أي عدوان خارجي، وفي نفس الوقت حماية سلطانه من أي تمرد داخلي وبخاصة بعد قضائه على المذهب الشيعي الذي كان سائدا منذ الدولة الفاطمية، وأحل محله المذهب السني، ومن بين مواقع مصر المختلفة وقع اختيار صلاح الدين على إحدى الربى المنفصلة عن جبل المقطم الذي يقع على مشارف القاهرة ليقيم عليها قلعته على ارتفاع 75 مترا عن سطح البحر. وترك صلاح الدين لوزيره بهاء الدين قراقوش عملية الإشراف على بنائها، فقام قراقوش الذي اشتهر في التاريخ المصري بالشدة، بهدم ما كان على الربوة من مقابر ومساجد، واستعان بأحجار الأهرامات الصغيرة في الجيزة لإتمام عملية بناء القلعة وهو ما عرضه للائمة المؤرخين، ووضع قراقوش التخطيط المعماري للقلعة على جهتين مستقلتين عن بعضهما، أولاهما الجهة الشمالية وتضم الحصن الحربي وتوجد بها أبراج بارزة، والجهة الجنوبية وتضم القصور وحظائر الخيل، وقام قراقوش بحفر بئر ماء في الصخور على عمق 100 متر حملت اسم "بئر يوسف" نسبة إلى ابن صلاح الدين الأيوبي، والتي لا تزال موجودة حتى الآن ولكن من دون استعمال. في نفس الوقت كان قرار صلاح الدين ببناء سور حول القاهرة بعد اتساعها العمراني في بداية عهده، وهو السور الذي ظل حتى سنوات قليلة مضت مغمورا تحت تلال الأتربة والمخلفات والمباني العشوائية التي باتت تحيط بالقلعة، حتى تم اكتشافه أثناء القيام بمشروع ترميم الجهة الشرقية للقلعة بالتعاون بين المجلس الأعلى المصري للآثار ومؤسسة الآغا خان للثقافة، ويستمر بناء القلعة نحو 32 عاما حيث لم يكتمل بناؤها إلا في عام 1208 في عهد الملك العادل شقيق صلاح الدين، حيث أصبحت مقرا لحاكم مصر حتى عام 1874 حينما انتقل مقر الحكم إلى قصر عابدين في عهد الخديوي إسماعيل، ولم تكن قلعة صلاح الدين مجرد مبنى عسكري يسكنه الجنود، ولكنها كانت مدينة متكاملة، حتى أن صلاح الدين أنشأ بها مدرسة الناصرية لتدريس أصول الدين وعلومه، كما بنى ملوك مصر من بعده عددا من القصور والمساجد بها مثلما فعل الملك الكامل، والظاهر بيبرس. أما محمد علي الذي ارتبطت القلعة باسمه إلى حد كبير لا بسبب ما شيده بها فقط من مبان، ولكن أيضا لما وقع فيها من أحداث ما زالت تتردد في أوراق التاريخ وحكايات العامة، ولعل أشهر تلك الحكايات مذبحة القلعة، التي يمر في شهر مارس من كل عام ذكراها والتي تخلص فيها محمد علي من المماليك عام 1811، وتعد واحدة من أكثر حكايات القلعة إثارة، حيث استغل محمد علي خروج الجيش المصري لبلاد الشام فدعا المماليك لوليمة كبيرة وعقب انتهائها، دعاهم للسير معه لتوديع الجيش من باب العزب الذي يمر بطريق صخري منحدر، فسار المماليك معه خلف الجيش وبمجرد وصولهم إلى ذلك الباب المطل على أحد شوارع القاهرة أمر بإغلاق الباب ليبدأ الجنود في إطلاق رصاص بنادقهم على المماليك الذين لم ينج منهم سوى واحد فقط جرى وقفز بحصانه من أحد أسوار القلعة. ويذكر المؤرخون أن دماء القتلى أغرقت المكان واندفعت إلى الطريق المجاور للباب، وعلى الرغم من أوامر محمد علي لجنوده بغسل الطريق إلا أن لون أرضه ظلت حمراء من كثرة الدماء التي التصقت بالأرض وهو ما جعلهم يطلقون عليه اسم الدرب الأحمر الذي لا يزال أحد أشهر المناطق الشعبية المصرية حتى الآن. في قلعة صلاح الدين توجد ثلاثة قصور متجاورة تبدو كقصر واحد أطلق عليها اسم "قصور الحرم"، وترتبط من داخلها بممرات، وقد خصصها محمد علي للجواري مما ملكت أيمانه واللاتي بلغ عددهن 365 جارية، حيث كان يقضي مع كل واحدة منهن ليلة واحدة فقط في العام، أصبحت تلك القصور الآن مقرا للمتحف الحربي بالقلعة والذي يضم عددا من الآثار المهمة التي تعبر عن عصور عدة مرت بها مصر بدءا بالعصر الفرعوني وانتهاء بالعصر الحالي، فيمكنك أن ترى العربة الحربية لتوت عنخ آمون والتي وجدت مفككة في أحد المقابر واستمر تركيبها نحو 10 سنوات، وعددا كبيرا من الآثار الحربية المهمة في التاريخ والتي لن تجدها في مكان آخر من خلال قطع أصلية، في مقدمتها سيف صلاح الدين الأيوبي، والبنادق المستخدمة في عهد المماليك ومحمد علي، والعربة الملكية للخديوي إسماعيل التي خصص لها جناح خاص، كما يمكنك أن ترى متعلقات وخوذة عساف ياجوري أشهر أسرى الجيش الإسرائيلي في حرب السادس من أكتوبر عام 1973، ليست الأسلحة فقط هي ما يجذبك إلى تلك القصور، بل غرفها المتعددة التي ترك بعضها على حاله لتخبرنا عن سبل حياة محمد علي باشا، في مقدمة تلك الغرف، حمامه الخاص المصمم على أحدث طراز والذي استخدم فيه الرخام الطبيعي والألبستر والمزود بالمياه الدافئة والباردة في وقت لم تكن فيه تلك الأمور قد انتشرت، كما جعل سقفه من قطع الزجاج الملون بألوان ساخنة كالأحمر والبرتقالي والأزرق، وذلك حتى تدخل الدفء على الحمام. وعلى بعد عدة أمتار وبالقرب من ربوة المسجد، بنى محمد علي قصرا آخر لزوجاته وليكون مقرا للحكم أسماه "قصر الجوهرة" وقد أقامه على أطلال قاعات مملوكية ومنشآت أخرى أبرزها مقعد السلطان قايتباي، ليشرف على القاهرة كلها حتى الآن من خلال ساحته التي يطلقون عليها "البانوراما"، ويراودك الإحساس عند دخول هذا القصر بأنك في قصر المرايا، فعند مدخله سلم به عدد من الدرجات الهابطة في مواجهتها مرآة ضخمة بطول الحائط، السبب في وجودها خوف محمد علي من الغدر به من الخلف فكان يحب أن يرى ما يحدث خلف ظهره، وفي طابق قاعة العرش مرآة أخرى كسابقتها تكشف من يدخل من باب القصر ومن يدخل على محمد علي، وتمتلئ قاعة الحكم بالعديد من الآثار المبهرة من بينها كرسي الحكم الذي أحضره محمد علي من إنجلترا ويحيط به أسدان من كل جانب كما يعلو مسنده تاج الملك، كما توجد بنفس القاعة صور لبعض أفراد العائلة المالكة في مقدمتها صورة الملك فؤاد والد الملك فاروق آخر ملوك مصر، وتلك الصورة رسمها أحد الرسامين الفرنسيين بطريقة تجعلك تشعر بحركة الملك فؤاد بجسده وعينيه للنظر إليك كلما تحركت في القاعة، تماما كلوحة الموناليزا، وفي الغرفة المواجهة لتلك القاعة يمكنك أن تشاهد غرفة النوم الخاصة بالإمبراطورة الفرنسية أوجيني، التي أحضرها لها الخديوي إسماعيل من فرنسا خصيصا عند حضورها لمصر لحضور حفل افتتاح قناة السويس في عام 1869، وكان مقر إقامة الملكة هو قصر الخيام الذي بات الآن فندق ماريوت بحي الزمالك بالقاهرة، إلا أنه وعند تشييد الفندق تم نقل الغرفة إلى قصر الجوهرة لتحتل إحدى غرفه. هناك أيضا في القلعة قاعة العدل الأنيقة التصميم، والتي عندما تدخلها تشعر وكأنك قد بت في حضرة الوالي، فها هو محمد علي يجلس في المنتصف على أريكته الحمراء ومن حوله جنوده ومترجم للعربية وشاك يعرض شكواه وهو جالس على الأرض. ورغم عدم قدرة تلك النماذج المجسمة على النطق، إلا أن النظر إليها يمنحك الإحساس بأنك تنتظر سماع أصواتهم، وفي مواجهة أريكة محمد علي تشاهد نافورة ملتصقة بالحائط، ولكنها ليست كأي نافورة، حيث إن محمد علي استخدمها كجهاز إنذار ضد أي خطر يهدد القلعة، فالماء المنساب فيها، يأتي من منطقة مجرى العيون التي كان يقف عليها جنود محمد علي الذين يزيدون من كمية المياه المنسابة بها في حال وجود أي خطر يهدد القلعة، فيتحرك عمودان من الالبستر على جانبي النافورة محدثين صوتا كصوت الطاووس ليدرك محمد علي الخطر فيهرب من باب موصول بعدد من السراديب إلى خارج القاهرة. ولا تقتصر مباني القلعة على ما ذكرناه فقط، خاصة وأنها كانت في تلك العهود دارا للحكم والحياة أيضا، فقد بني بها عدد من الدواوين مثل "الانتيكخانة" الخاصة بحفظ الوثائق الرسمية، ودار لسك العملة والطباعة، بين أسوار القلعة يمكنك أيضا زيارة مسجدين آخرين هما جامع السلطان الناصر محمد بن قلاوون ويوجد في وسط القلعة تقريبا وبني في سنة 1318 ميلادية، وقد ظل المسجد الرئيسي للقلعة حتى بنى محمد علي مسجده إيذانا بانتهاء سيطرة المماليك على مصر وبزوغ دولته التي حملت اسمه، هناك أيضا مسجد سليمان الخادم الذي أنشئ في عهد الدولة الفاطمية عام 535 هجرية ولكنه يطلق عليه اسم جامع "سارية الجبل" نسبة إلى سارية بن عمر بن عبد الله قائد الجيوش الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، وبالقرب من هذين المسجدين ترى متحف الشرطة الذي كان مجرد سجن حربي تم إنشاؤه بقرار جمهوري عام 1968 على أنقاض أحد سجون المماليك التي كانت قائمة في ذات الموقع، ولطالما احتوت جدرانه أنات المعتقلين السياسيين به، حتى افتتح في أكتوبر 1984 كمتحف لتاريخ الشرطة.