كان قدر لغتنا العربية أن تقف في مفترق طرق الحضارة اليوم تتجاذبها خطابات الأبناء والغرباء معا حول إمكانية سيرورتها ومكامن إسهاماتها في صناعة التاريخ تماشيا وحالة التشرذم الفكري والاغتراب الثقافي الذي خلفه الاستعمار في دولنا العربية القطرية وشعاره كان وسيظل مع الأسف تقسيم المقسم وتجزئة المجزإ. ولا زالت المعارك بين المشككين والممكنين للعربية وفي محفل صناعة الحضارة ضارية إلى حد أن أنست بعض معارك الأرض والجغرافيا في قدسية القدس حتى! مما يدلل بوضوح على مركزية الإشكال اللغوي وقدسيته في العقل العربي المستنير كقدسية العرض والدين. الأستاذ الدكتور عبد الكاظم العبودي أحد جنود العربية في معركة فتح مجال التقانة أمام لغة الضاد يحدثنا عن سخافات المشككين في تكنولوجية اللسان العربي عبر التاريخ مشيرا إلى مكامن الضعف في إشكال الاستيعاب اللغوي للتقانة والتي يلخصها في مؤامرات الداخل والخارج معا ليس إلا. الأستاذ الدكتور عبد الكاظم العبودي هل لازالت جهود تعريب المصطلح العلمي في البلاد العربية فردية وتتم بمعزل عن الجهد الجمعي المؤسس ؟ رغم وجود مؤسسات وطنية وقومية في الأقطار العربية، كالمجامع اللغوية والمجالس العليا المتخصصة والمهتمة بقضايا اللغة العربية وبالبحث اللغوي والاصطلاحي، إلا أن غياب إرادات وطنية وقومية جماعية وفاعلة، يبقى سائدا، ولا يتكفل بالتنفيذ والمتابعة والالتزام بالاستخدام للمتفق عليه قوميا من مصطلحات علمية، وتعميم ما يترجم أو يوضع أو ينحت من المصطلحات الجديدة . كل ذلك كرس، وسيكرس حالة من الفوضى الاصطلاحية، مصحوبة بالتشتت الفكري واللغوي الاصطلاحي، كالحالة التي نعيشها، وهو ما ينعكس، كنتيجة منطقية على مستوى النشر العلمي أو البحث اللغوي الاصطلاحي واللساني ويعرقل الجهد الترجمي، وبالتالي سيؤثر سلبا على التدريس الجامعي عموما بكل اختصاصاته سواء اللغوية والإنسانية منها أوالعلمية التطبيقية. لا يمكن أن نتغافل عن الجهد الفردي الذي يبذله العديد من الأساتذة العرب في جامعات الوطن العربي في حقل التأليف والترجمة واللسانيات، ووضع المصطلحات العلمية المقابلة الجديدة لما يظهر من نظائرها في العالم، كل حسب اختصاصه؛ لكن كثيرا من تلك الجهود تضيع سدى، أو تتوقف عند حدود الموانع العديدة الكابحة، ومنها انحسار فرص وإمكانيات النشر والتوزيع والإعلام بها، أو الترويج لاستخداماتها على نطاق واسع بالشكل المطلوب. كما أن المؤسسات الجامعية ذات الصلة بالتعريب تتراجع اليوم بقوة أمام موجات من القرارات النخبوية الفوقية المذعنة للشروط العولمية التي تدعو إلى التراجع عن التدريس باللغة العربية لصالح لغات أخرى للمقررات التدريسية الجامعية. وما يجري فعلا، هو ما تريده جهات متنفذة معينة تسعى للتطبيق نظمها الجامعية الجديدة، وخاصة في مجالات العلوم التطبيقية والتقانية. إن أي جهد فردي سيتراجع مع حالة شيوع حالة من الإحباط أمام جدوى النشر العلمي، وتخبط التوزيع المعرفي الجغرافي الناجع خلف المستويات القطرية والقومية. يذهب البعض من ذوي التكوين التقني المحض في بلاد العرب إلى حد الحكم على اللغة العربية بالعجز المزمن عن استيعاب المنتج الاصطلاحي العلمي الحديث فما رأيكم في مثل هذا الحكم؟. هذا حكم نابع عن عجز ذاتي ومؤسساتي أولا، وهو جهل فاضح بالتكوين النفسي والتربوي للمتعلمين والمتمدرسين ثانيا، وناتج أيضا عن غياب المتابعة الجادة لما ينشر وطنيا وقوميا وأجنبيا في اللغات المختلفة ومقارنتها ثالثا. إضافة إلى ذلك، يعبر أصحاب هذا الرأي عن ميولهم لتكريس نوعا من القطيعة اللغوية، غير المبررة علميا، بتراجعهم عن استعمال اللغة القومية الأم في التدريس والبحث العلمي. نذكرهم أنه لا زالت اللغة العربية وعاء واسعا يستوعب الأفكار والمصطلحات والأساليب المتجددة في كل مجالات الحياة. وأنها حاوية وحاضنة متكاملة لما يصب بها من مستجدات العلوم والتقانات المختلفة، تأليفا بها، أو ترجمة إليها عن لغات أخرى. وعلينا أن نعترف أن العرب، في كبوتهم الحضارية، اليوم، غير منتجين، لا للعلم ولا للتقانة وتطبيقاتها العالية، فمن البديهي أن ليس ما لديهم من مصطلحات جديدة، يضيفونها إلى قاموس لغتهم العلمي من كلمات ومصطلحات جديدة وليس لديهم ما يسهمون به في إثراء لغات العالم الاخرى من كلمات ومصطلحات العربية. هذه الفجوة الحضارية مع العالم المنتج للمعرفة، لا تبرر لنا، نحن العرب، الجلوس والتفرج على الأطلال اللغوية التي ورثناها، ولا حتى التبجح الفارغ بسيادة للغات اخرى على غيرها، وعلى لغتنا العربية، بحكم ظروف تاريخية وسياسية معروفة للامم التي عانت التخلف في ظل السيادات الاستعمارية لبعض الأمم والأقوام وسيطرة لغاتهم لقوة السلاح قبل الكتاب. كانت لغة العرب حاملة لمنتجات العقل والتفكير العلمي عبر العصور، كما نقلت عبرها أفكار وعلوم الأمم الأخرى من دون انقطاع. ولم تعكس هذه اللغة يوما حالة من العجز الاصطلاحي في استعياب الجديد من المصطلحات، ترجمة لها أو وضعا مقابلا لما يستجد في علوم الآخرين وتقاناتهم. ان ظاهرة الاقتراض اللغوي بين لغات العالم ظاهرة عالمية، وهي ظاهرة صحية، وطبيعية، فرضتها ظروف تفاعل الحضارات والثقافات العالمية، وهي لا تخص العربية دون غيرها من اللغات، لكن تفعيل مثل هذا الإقراض والاقتراض اللغوي بين اللغات يجري على يد أهل الاختصاص والفهم اللغوي الجيد بين الذين يعرفون كيفية وضع المصطلح العلمي والإلمام بدقة ترجمته أو وضع مقابلاته التي يتقبلها الناس، لفظا واصطلاحا علميا سليما. وإذا ما شعر أهل الاختصاص والعلوم والتقانة بالعجز في الكتابة والتأليف والفهم بلغتهم او الترجمة من والى لغتهم القومية، فعندئذ تبدأ الكارثة اللغوية التي نعيشها اليوم وفي عزلتنا العلمية والتكنولوجية عن بقية العالم. ما السبيل في رأيكم إلى بلوغ التأصيل اللغوي للمنتج التقني المضطرد والمتسارع في تاريخ البشرية في ظل غياب العقل العربي عن السبق الاستكشافي العلمي اليوم؟. عالمنا المعاصر هو عالم اللغات القومية، واللغة القومية ليست مهمة حكومة أو وزارة أو مؤسسة لها ميزانية تسعى إلى تأصيل لغوي في أجندتها، كما نسمع عن مشاريع المجالس اللغوية او جمعيات الدفاع عن بقاء اللغة العربية. يرى فلوريان كولماس من خلال كتابه "اللغة والاقتصاد" ابعد ما نتصوره من عنوان هذه الإشكالية في عنوان الكتاب؛ باعتبار اللغة كالعملة لها حضورها وتراجعها، كما أن لها قدرة إقراض اللغات الأخرى بما تنتجه من أفكار وأساليب صياغة وكتابة ومصطلحات؛ بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن الخراب الاقتصادي يمكن أن يسببه خراب اللغة وضعف أهلها علميا وإهمال تطويرها ، حتى أنه افرد فضلا عن النفقات والخسائر التي تنشأ عن التعدد اللغوي في الوطن الواحد. وهكذا فإن الجوانب الاقتصادية للتعدد اللغوي نالت قدرا كبيرا من العناية في ناقشات النخب الساعية إلى خلق مؤسسات الدولة القومية، خصوصا أن تكاليف الحياة اليومية الآن، من استخدام الهاتف المحمول إلى المحاضرة الجامعية ، إلى نشرة الأخبار وكافة نشاطات الاتصال صارت محسوبة ومرتبطة باللغة اقتصاديا؛ لذا فإن التعدد اللغوي الرسمي والشعبي والتعليمي والاتصال بالعالم كله ذي صلة وثيقة بالاقتصاد والتطور . لذا يرى [أن صياغة سياسة لغوية رشيدة هي في ذاتها مسألة اقتصادية، ويجب أن تكون لها اسبقية عظيمة؛ مثلها مثل المسائل الاقتصادية الأخرى]. بلوغ التأصيل اللغوي للمنتج التقني المضطرد والمتسارع لابد أن ينطلق من تعليم لغة الأم، والسعي إلى تهذيب اللغة القومية، والاهتمام بجوانب القرض والتصدير اللغوي منها ولها من خلال مؤسسات مركزية ذات إيمان بدور البلاد وحضورها العلمي والثقافي بين بلدان العالم في مجالات عدة؛ وفي مقدمتها استخدام وتطوير اللغة القومية. ولا يمكن قبول بعض الأفكار الساذجة التي تروج من أن هناك لغة ذات خصائص وقدرات أدبية أو شعرية وأخرى قانونية وثالثة علمية تكنولوجية. هذا هراء يجهل أن كل لغة قومية هي الخازنة للثقافة وتطور وعلوم أهلها، ويمكنها أن تتطور بموازاة تطورهم في أي مجال يبدعون فيه. ألا تعتقدون أن مناهج تدريس اللغات الأجنبية في عالمنا العربي وكذا برامجها قد تجاوزها الزمن بالنظر إلى عجزها عن الإسهام في ترجمة العلوم التقنية بالكم والكيف المطلوبين في الحقل العلمي العربي؟ أولا هناك فرق كبير بين تنمية لغوية تسعى إلى توطيد وتعزيز اللغة القومية وبين تغريب لغوي بالتشبث الوهمي برقي لغة أخرى على لغة قومية أو محلية. وهذا ما تسقط به بعض المؤسسات التعليمية عند اختيارها لبرامج تدريس لغات أخرى. لم يكن التعدد اللغوي يوما مؤشرا لثراء اجتماعي أو اقتصادي في أغلب بلدان العالم؛ ولكن المعيار الأكثر أهمية هو العدد الذي يتكلم به قوم بلد ما ليشكل وحدة اجتماعية اقتصادية فعالة، ولتصبح اللغة المشتركة بمثابة رصيد. وقد أوجزت الدراسات العلمية حقيقة هامة ملخصة في عبارة قصيرة: (..إن البلاد المجزأة لغويا بشكل كبير بلاد فقيرة دائما) وفي جميع الحالات إن اللغة القومية تلعب دورا أكبر في ديناميكية وحيوية مجتمعاتها من اللغة المشتركة. إن ما يضاف إلى القوة الاقتصادية اليابانية أنه بلد رغم صغره مساحته؛ لكنه متجانس لغويا بدرجة عالية. وهذا العامل لا تمتلكه الولاياتالمتحدة رغم توحدها بلغة إنجليزية كشعب لا يشكل أمة له لغته القومية. إن الساعين من اليابانيين لتعلم اللغات الأخرى كالانجليزية مثلا إنما هم يقومون ويسعون إلى إغناء الثقافة واللغة اليابانية ذاتها بالفكر والمعارف التي لا يمكن أن ينتجها إلا الغرب، وهم حريصون على أن يترجموا إلى اليابانية كل ما هو جدير بأن يؤخذ من الغرب. وعلى ضوء تلك الأهداف وضعوا مناهج تدريس وتعليم اللغات الأجنبية. إن من يسعى إلى إحلال لغة أجنبية بدل لغته القومية سيخسر التعليم في كلا اللغتين. وما لم تُغنى اللغة القومية فلن يتمكن دارسوا اللغات الأجنبية من الوصول إلى مستوى التوازن اللغوي والعقلي في عملية الاتصال الحضاري المطلوبة من تدريس اللغات الأجنبية في جامعاتنا. يتحدث كثيرون عن ظاهرة التأثير الأيديولوجي والسياسي على قرار التعريب وتوطيده في منظوماتنا التربوية والتعليمية والعلمية تماشيا وصراعات النخب الحاكمة والمعارضة في البلاد العربية، على سبيل ما قيل أنه وقع مثل هذا في العراق بعد وصول المعارضة إلى الحكم إذ شرعت في التخلص من التعريب العلمي نكاية بالمشروع البعثي الصدامي سابقا ما حقيقة مثل هذا الطرح؟ بعيدا عن التنظير السياسي والعقائدي ، أثبتت تجارب جميع الأمم التي وصلت إلى علومها وتقاناتها العالية بفضل منظوماتها التعليمية القومية وتمسكها بلغتها الأم. تؤكد ذلك تجارب اليابان وألمانيا والكوريتين والعراق قبل الغزو والاحتلال. فالاستثمار اللغوي ظل هدفا ضمن برامج منظومات تلك الدول؛ فاللغة القومية في التعليم بكل مراحله امتلكت، نتيجة لعمليات تاريخية وتربوية واجتماعية ونفسية، طاقة وساعدت على الوصول إلى هدف التنمية من خلال الاستثمار في العقل، وليست اللغة مجرد أداة لنقل المعرفة أو للاتصال البشري . مهما حاولت الإدارة الأمريكية للاحتلال التراجع عن تعريب مؤسسات التعليم العراقية ومحاولة فرض الإنجليزية لدواعي تخدم الاحتلال مستقبلا بخلق نخب عراقية عميلة ومرتبطة بالمشروع الأمريكي، تكون بعيدة عن البعد القومي الذي اختطته المؤسسات العلمية العراقية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين. ولكن هل سجل التاريخ ديمومة الاحتلال ولغته في أي بلد له من الحضارة والتاريخ. كل الأمثلة السابقة التي أشرنا إليها تؤكد سقوط كل مشاريع إلغاء التعريب في أي بلد عربي مستقبلا. لاحظ البعض أن اللعب بالاصطلاحات والتسميات الوبائية الأخير في العالم له أبعاد وغايات ثقافية واقتصادية سياسية حيث يتم من خلالها عزل لغات أخرى عن تلكم الغايات عبر فرض تشفير اصطلاحي معين على شاكلة إنفلوانزا الخنازير الذي تم تغير اسمه إلى "إيتش وان أن وان" إلى أي حد يصدق مثل هذا الطرح؟ فرض مصطلحات الأمم الغالبة تشكل واحدة من صور التبعية العلمية واللغوية، كما أن فوضى المصطلحات تشكل بمجموعها هدفا مرسوما لقبول العولمة بنهجها الأمريكي خاصة. ليست القضية هنا في إشكالية المسميات أو المختصرات التي تمنحها المخابر للكائنات الدقيقة والأمراض المكتشفة أو أنها ذات صلة بمسميات الفيروسات المخلقة في مخابر الحرب البيولوجية الصامتة والموجهة ضد الأمم الأخرى. إن الإعلام ومنظومات الاتصال التابعة للمركز الغربي موظفة لخدمة تلك الأهداف، وسوف لا تتوانى حتى عن تسميتنا يوما بالمفردة اللغوية المطلوبة بوصفنا كائنات حية لا جدوى من بقائها على الأرض، يراد التخلص منها أو انقراضها بشتى الوسائل، حتى ولو بالتمهيد بالانقراض اللغوي أو الأمراضي المتعمد، أو تغيير أنماط الغذاء والدواء الجيني مستقبلا. ما مدى قدرة المصطلح التراثي العربي في المساعدة على التأصيل الاصطلاحي للعلوم والتمكين للغة العربية من العودة لصناعة الحضارة انطلاقا من قدرتها القاموسية الذاتية؟ المصطلح التراثي العربي لازال يشكل الثروة الكبيرة التي لا تنضب يوما، والتي يمكن استثمارها بشكل علمي مدروس. واللغة العربية منذ العصر الأكدي ظلت صانعة للحضارات؛ ويكمن ذلك في تجانسها، وقدرات معجميتها، واختزالها أيضا، وقدرتها على الاقتصاد في الألفاظ والمعاني، إضافة إلى قدرتها على الاشتقاق المتجدد الممتد دون أن تقطع جذورها التاريخية ومرجعيتها ومسايرة الحياة وتجددها. يصر البعض على أن أولى مراحل البدء في التحكم في اللغة العلمية وتأصيلها هي حوارات ونقاشات النوادي العلمية عبر كامل المستويات المدرسية والتربوية والجامعية هذا في الوقت الذي نفتقد نحن لمثل هذه التنظيمات الأهلية كيف يمكن تجنيد مثل هاته الطاقات لتلعب دورها الابتدائي في ترسيخ المصطلح العلمي في اللغة الأم؟ في حالة الخروج من حالة التقوقع النخبوي والتزمت الأكاديمي القطري والاستفادة من نتائج الثورة العلمية التكنولوجية بما وفرته من سرعة وسعة وسائل الاتصال يمكن إثراء حوارات واسعة واعتماد وسائل نشر متنوعة للوصول إلى وحدة المصطلح العلمي وتمكين التعريف به واستعماله في كافة المجالات ، وخاصة المدون والمكتوب والمسموع. كلمة أخيرة أستاذنا الفاضل؟ لغتنا العربية ليست من متحجرات القرون الوسطى وليست هياكل عظمية يراد إعادة تشريحها. هي نسغ الحياة المتجدد، العلة في كبوتنا الحضارية، هي هويتنا ومكمن وجودنا الأزلي