يتساءل المواطن في ربوع العالم العربي عن المثقف والمنظر والمفكر، في زمن أقل ما يمكن القول عنه إنه زمن الإخفاقات والظروف الصعبة جدا والقاسية. أين هو هذا المثقف؟ ما هو دوره في المجتمع؟ ما هو موقفه مما يحدث من حوله؟ ما هي ردود فعله من الإهانات والابتزاز والاستغلال الذي تتعرض له الأمة العربية؟ ما هو شعوره بعدما يتحرك المجتمع المدني الأوروبي والأمريكي من حين لآخر للتنديد بالجرائم التي تقوم بها قوى الظلم والبطش والتعسف في المنطقة العربية والشعب العربي المغلوب على أمره يتفرج ويبكي على الأطلال؟ أين هو المثقف العربي من تواطؤ الأنظمة العربية مع أمريكا والقوى الغربية في تصفية وإهانة والقضاء على الثوار والمناضلين ورجال المعارضة؟ أين هو المثقف العربي من الحرب على غزة وعمليات الاستيطان المتكررة وتهويد القدس؟ ما نلاحظه في الوطن العربي هذه الأيام هو عبارة عن شلل تام في المواجهة والتصدي والرفض لما آلت إليه أمة بكاملها. أطفال أبرياء يقتلون ويعذبون ويموتون يوميا في فلسطين والعراق وغيرهما من الدول العربية، قيادات سياسية وحزبية وقوى مضادة تهمش وتسجن وتتم تصفيتها بدون سابق إنذار، كل هذا يحدث في جو من الاستسلام والتفرج السلبي على انهيار أو موت بطيء لأمة بكاملها. قمم لجامعة الدول العربية تتوالى وتتكرر ووضع العرب على حاله بدون تغيير ولا تجديد ولا استراتيجية في الأفق للتعامل مع زمن ومرحلة لا ترحم ولا تعتق من لا يتعامل معها بمنطق القرن الحادي والعشرين. إشكالية المثقف ودوره وأزمته ومكانته في المجتمع تبقى من الإشكاليات الهامة والرئيسية المطروحة على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في العالم العربي. هل من * مكانة للمثقف في مجتمع يفتقد لمستلزمات التفكير والتعبير عن الرأي والحوار والمناقشة والحريات الفردية وحرية الصحافة وما إلى ذلك من مستلزمات وضرورات وشروط الإنتاج الفكري الناضج الذي يستطيع أن ينّظر ويؤّسس للتطورات والتحولات الهامة والمصيرية في المجتمع .ما علاقة المثق بالمجتمع المدني؟ وما علاقة المثقف بالطبقة الوسطى؟ التجارب التاريخية في العالم العربي تشير إلى آفة الاغتراب والتهميش والإقصاء الذي عانى وما زال يعاني منها المثقف العربي عبر الأجيال والعصور، ففقدان الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان كلها عوامل أدّت إلى اغتراب المثقف العربي وتهميشه سواء داخل وطنه حيث أصبح من الغرباء فيه لا يتعرف عليه ولا يتفاعل معه كما ينبغي لأنه إذا فعل ذلك مصيره يكون مجهولا، أو أننا نجده يلجأ إلى الهجرة طلبا للحرية ولمتنفس يجد فيه مجالا للتفكير والإبداع، لكن تبقى الغربة والعيش خارج المحيط الطبيعي للمثقف بمثابة الموت البطيء. * والمثقف مهما كانت الصعاب والمشاق والمشاكل والعراقيل يبقى دائما مسؤولا إزاء مجتمعه لتحقيق الأهداف النبيلة التي يناضل من أجلها، وهي العدالة والمساواة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة، ومن أهمها توفير الظروف المناسبة للفكر والإبداع. * إشكال آخر مهم جدا ضمن سياق ظاهرة اغتراب المثقف يتمثل في الرقابة الذاتية وممارسة الانسلاخ الإرادي والمباشر من المجتمع والعيش في ضفافه وقشوره، وهذا موت بطيء آخر يعاني منه المثقف العربي وهو نوع من الانتحار حيث لا يستطيع المثقف أن يجرؤ على التعبير عما بداخله ولا يستطيع أن يضع أفكاره في خدمة المجتمع وفي خدمة المهمشين والمحرومين. * فالإشكال هنا يتمثل في التقرب من السلطة، وهذا يعني بعبارة أخرى الانسلاخ عن الجماهير، أو التقرب من الواقع ومن الجماهير، وهذا يعني غضب السلطة على المثقف وإسكاته أو تهميشه بطرق مختلفة البعض منها معلن والبعض الآخر خفي وضمني. وفي كل هذا نجد أن المجتمع في نهاية المطاف هو الخاسر الكبير لأن المجتمع الذي لا يملك نخبة من المثقفين العضويين ونخبة من المفكرين تدرس وتبحث وتستقصي وتنتقد وتقف عند سلبياته وهمومه ومشاكله وتناقضاته وإفرازاته المختلفة لا يستطيع أن يكون مجتمعا يتوفر على شروط النجاح والإبداع والتحاور والنقاش البناء والجاد بين مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية. وآليات الاتصال هنا داخل المجتمع مهمة جدا، فكلما كانت مرنة وسلسة وميسرة نجم عنها التفاهم والوئام والوصول إلى الأفكار النيّرة. لكن كلما تعقدت آليات الاتصال والتواصل في المجتمع أصبحت عسيرة ومفتعلة ومتملقة ومصطنعة، كلما زادت مشاكل المجتمع وتفاقمت زاد سوء الفهم وانعدم التفاهم والحوار واحترام الآخر. هذا ما يقودنا للكلام عن الثقافة التي أفرزتها القوى المختلفة في المجتمع، فهذه الثقافة هي بكل بساطة ثقافة التبرير والتملق والتخدير والتزييف، وكأن الهدف في نهاية المطاف هو تجهيل الرأي العام وتخديره بدلا من توعيته والرقي به إلى مستوى الفعل والمشاركة في صناعة القرار وفي تحديد مصيره ومكانته بين الشعوب والأمم. * ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وما هي علاقته بالسلطة؟ أسئلة تفرض نفسها في المجتمعات العربية قاطبة في ظروف صعبة تميزها الأزمات المتعاقبة العويصة والمعقدة التي تعيشها الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. في البداية نتساءل عن مكانة المثقف في المجتمع وعن وضعيته وعن الدور الموّكل إليه. ولماذا نتكلم دائما في العالم العربي عن أزمة المثقف؟ * لماذا مثلا لا نتكلم عن المثقف العضوي في المجتمع، المثقف الحقيقي الذي ينتقد ويقف عند هموم وشجون المجتمع، المثقف الذي يعمل على تغيير الواقع وليس تكريس وتبرير الرداءة والتخلف والجهل والحفاظ على الوضع الراهن الذي تطغى عليه مختلف أنواع المشاكل والأخطاء والتجاوزات. العالم العربي بحاجة إلى المثقف الذي يساهم في صناعة الفكر وتنوير الرأي العام، المثقف الذي يحضّر مجتمعه شعبا وقيادة لمواكبة التطور الإنساني والحضاري والتفاعل الإيجابي مع ما يحدث في العالم. وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة النظر إلى المثقف كجزء فرعي من نظام كلي وهو المجتمع، ونتساءل هنا هل المثقف هو الذي ينتج المجتمع أم أن المجتمع هو الذي ينتج المثقف. فالمثقف عادة ما يكون مرتبطا بواقعه وبمجتمعه يتفاعل معه، يؤثر ويتأثر به. لكن الإشكالية التي تُطرح هنا هي ماهية وطبيعة العلاقة التي يقيمها المثقف مع الجهات المختلفة الفاعلة في المجتمع. وهنا نقف عند علاقة المثقف بالسلطة، هل هي علاقة تملق وذوبان في هذه السلطة علاقة مدح وتسبيح وتبرير لسلوك السلطة،أم أنها علاقة نقد واستقصاء ومراقبة ونقد ونقد ذاتي وحوار ونقاش وشفافية للقضاء على الرداءة وتشجيع النجاح والإبداع والتميز. * * كلية الاتصال، جامعة الشارقة