أظهرت دراسة أنجزتها اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، بخصوص قيمة التحويلات بالعملة الصعبة للجالية الجزائرية، أن الجزائر احتلت خلالها كما يقول عضو اللجنة الخبير مالك سراي المرتبة الأخيرة في سلم ترتيب البلدان العربية التي تمت دراستها من قبل هذه الأخيرة، والتي ضمت كل من مصر والسودان وليبيا والمغرب وتونس. أكدت الدراسة الحديثة للأمم المتحدة بأن استفادة الاقتصاد الجزائري من مداخيل جاليتنا المتواجدة في الخارج والمقدرة بحوالي خمسة ملايين شخص، تكاد تكون منعدمة، نتيجة توجه هؤلاء إلى تحويل أموالهم من العملة الصعبة التي يدخلونها معهم في السوق السوداء، في الوقت الذي كان بإمكان هذه الفئة، كما يقول الخبير مالك سراي، جلب سنويا لبلادنا ما يقارب السبعة ملايير دولار إن تم صرفها عبر القنوات المالية الرسمية. وبمقارنة قيمة تحويلات المغتربين العرب إلى بلدانهم الأصلية بتحويلات المغتربين الجزائريين، فقد أظهر كتاب ''حقائق عن الهجرة والتحويلات لسنة 2008 '' الصادر عن البنك الدولي أن قيمة التحويلات المسجلة التي أرسلها المغتربون المصريون وصلت إلى 9, 5 مليار دولار في 2007، فيما جاءت المغرب في المرتبة الثانية حسب الكتاب بعد مصر ب7, 5 مليار دولار، ثم لبنان ب5,5 مليار دولار، والجزائر 9, 2 مليار، وتونس 7, 1 مليار، واليمن 3, 1 مليار، وسوريا 8, 0 مليار، والضفة الغربية وقطاع غزة ب6, 0 مليار دولار. إلا أن بعض الخبراء الاقتصاديين الجزائريين، يؤكدون أن قيمة تحويلات المغتربين تفوق بكثير القيمة التي أعلنها البنك الدولي لأن هذا الأخير أخذ فقط كما يقول هؤلاء المحللين التحويلات التي قام بها عدد من المستثمرين من أفراد الجالية لفائدة مشاريع استثمارية أقاموها هنا بالجزائر. وقد وصل عدد تلك المشاريع الاستثمارية الممولة من قبل هؤلاء، حسب مصدر رسمي بوزارة الشؤون الخارجية، حوالي خمسون مشروعا استثماريا ما بين 2002 و2008، ب80 بالمائة منها في القطاع الصناعي. لكن يبقى المشكل الكبير في ذلك، كما يقول هؤلاء الخبراء، ليس في القيمة التي يتم إدخالها إلى بلادنا من قبل أفراد الجالية وإنما في مدى استفادة مؤسساتنا المالية من هذه القيمة، لأن كل العملة التي يتم جلبها معهم يتم تحويلها في السوق السوداء، والأموال التي يتم صرفها في الأسواق الموازية للعملات لا يتم تبرير وجودها في النشاط الاقتصادي القانوني. والسبب في ذلك، كما يقول الخبير مالك سراي، يرجع إلى البنوك الجزائرية التي لم تلعب دورها كما ينبغي لفتح فروع لها في الدول التي تعرف تواجدا كبيرا لجاليتنا، عكس الدول المجاورة التي عملت على فتح فروع لبنوكها في الخارج، كما هو الشأن بالنسبة للسودان والمغرب ومصر، وقد عملت تلك الفروع على استقطاب أموال جاليتهم هناك من خلال تحويل إمكانياتهم المالية لبلدانهم الأصلية، بعد أن قدمت لهم تحفيزات وصفقات وخدمات أحسن بكثير من تلك التي يتلقونها في بلدان إقامتهم، والعكس كل العكس بالنسبة للجزائر التي لم تصل بعد إلى غاية الآن إلى تحديد البنوك العمومية التي يسمح لها بفتح فروع لها خارج الوطن رغم انطلاق المشاورات بين وزارة المالية ووزارة التضامن الوطني والأسرة والجالية الوطنية بالخارج والبنك المركزي منذ مدة. والكارثة الكبرى التي وقفنا عندها هو عدم وجود شبابيك كافية لصرف العملة داخل الموانئ والمطارات؛ فكيف يعقل لمطار مثل مطار هواري بومدين الدولي لا يحتوي سوى على شباكين للصرف، واحد تابع لبنك الجزائر الخارجي وآخر تابع للبنك الوطني الجزائري؟ في وقت يصل فيه عدد شبابيك صرف العملة بمطار قرطاج الدولي بتونس على سبيل المثال لا الحصر أكثر من 15 شباكا وكل شيء يتم في إطار قانوني، ومعظم تجار العملة الصعبة في السوق السوداء بتونس هم جزائريون يعملون ضمن شبكات وطنية ودولية. وما صدمنا أكثر خلال جولتنا لمطار هواري بومدين الدولي هو غزو تجار العملة للمطار الذين يقومون باصطياد زبائنهم من أفراد جاليتنا القادمين من الخارج والأجانب لعرض عليهم سعر أكبر للصرف. إذ يتجاوز أحيانا سعر الصرف المعتمد في سوق ''السّكوار'' بالجزائر العاصمة، وهو أحد أكبر الأسواق الموازية لصرف العملة الصعبة ببلادنا، لأن أغلبية هؤلاء السماسرة لا يعملون كما قال لنا أحد أعوان الأمن العاملين بالمطار لحسابهم الشخصي وإنما يعملون لصالح شبكات كبيرة لا يهمها السعر الذي يتم به الصرف بقدر ما يهمهم الحصول على العملة، التي يقومون هم بدورهم بتهريبها إلى الخارج ضمن شبكات دولية. ويعدّ مطار هواري بومدين الدولي بالإضافة إلى المراكز الحدودية الأخرى من المنافذ الرئيسية التي يتم تهريبها منها، وقد سمحت بعض المعلومات التي تلقتها مصالح الجمارك بمطار الجزائر الدولي فقط من حجز 9,1 مليون أورو و90 ألف دولار خلال الستة أشهر الأولى من السنة الماضية. وقد أصبح هؤلاء السماسرة على مستوى مطار هواري بومدين الدولي، يعطون صورة سوداء عن الجزائر من خلال تصرّفاتهم مع الأجانب ومضايقتهم لهم، وإلحاحهم المتكرر ومحاولات الضغط عليهم لتحويل عملتهم عندهم، وقد تصل مضايقات هؤلاء للأجانب إلى حد اتباعهم حتى وإن توجهوا إلى شبابيك الصرف الموجودة في المطار، هو ما خلق مشاكل كبيرة لأعوان الوكالتين الموجودتين على مستوى هذا الأخير، نتيجة تمكن هؤلاء السماسرة من خطف زبائنهم من الشباك بعد أن يعرضوا عليهم أسعارا مرتفعة عن أسعار الصرف التي يقدمها البنك، الأمر الذي أدى إلى تقليص عمل الوكالتين إلى 50 بالمائة من نشاطيهما. والغريب في الأمر، أن هؤلاء السماسرة يعملون امام الملإ، فرغم الشكاوى المتكررة من قبل بعض الجزائريين الغيورين على سمعة البلاد، إلا أن الجهات المعنية لاتزال تغض الطرف عنهم ولم تحرّك ساكنا لتوقيف هؤلاء، على الرغم من أن المطار مجهّز بكاميرات من السهل توقيف هؤلاء الذين أصبح عددهم يزداد من يوم إلى آخر، حفاظا على سمعة البلاد التي لطخوها بتصرفاتهم، لأن المطار هو الواجهة الأساسية لأي دولة وعلى السلطات المعنية أن تعمل على تحسين هذه الواجهة. عجز أغلبية السلطات المحلية الولائية ببلادنا من القضاء على أسواق العملة خصوصا في الولايات التي تعرف تداولا كبيرا للعملة خارج الأطر الرسمية كبعض الولاياتالشرقية على سبيل المثال لا الحصر، وتأتي على رأس هذه الأخيرة ولاية سطيف التي تعرف أسواقها الموازية تداولا قياسيا للعملة الصعبة، نتيجة الطلب الكبير عليها هناك من قبل المستوردين الناشطين بسوق شارع دبي بالعلمة، فقيمة العملة الصعبة في السوق السوداء لهذه الولاية، تقدر حسب بعض الخبراء الاقتصاديين بالملايير الدولارات، تتحكم فيها شبكات وبارونات كبيرة، تحولوا إلى جماعة ضاغطة حقيقية لتعاملهم كما يقول مصدرنا مع شبكات المخدرات وتجار السلاح، ونفس الشيء بالنسبة لأسواق عين مليلة وأم البواقي وتبسة ووادي سوف، فولاة هذه المناطق عبروا، كما يقول مصدرنا، للجهات الأمنية المعنية عن عجزهم في القضاء على هذه الأسواق الموازية لصرف العملة الصعبة على الرغم مما أصبحت تشكله من خطر كبير على الأمن القومي للبلاد، والنتيجة هي تنامي هذه الأسواق بشكل كبير جدا. وقد وصلت قيمة العملة التي تتداولها هذه الأسواق، حسب الخبير مالك سراي، إلى قرابة 60 مليار دولار سنويا كل ذلك قوى لوبيات وجماعات ضاغطة كبيرة أصبح بمقدورها تهديد أمن الدولة إن مست مصالحها أو تم التفكير فقط في مسّها. والحل الوحيد لإضعاف قوة تلك اللوبيات، كما يقول أغلبية الخبراء الاقتصاديين، هو تجفيف منابع هذه الأسواق السوداء التي تتغذى من مداخيل المغتربين الذين يعدّون من أهم موردها. فعلى الدولة أن تفكر من الآن على حد قول الخبراء في كيفية الاستفادة من مداخيل جاليتها الموجودة في الخارج من خلال توفير لهم تحفيزات كبيرة لتشجيعهم على تحويل مداخيلهم عبر القنوات المالية الرسمية وليس تحويلها في السوق السوداء، كما يتم الآن. ولا يكون ذلك من دون فتح فروع لمختلف البنوك العمومية في البلدان التي تعرف تواجدا كبيرا لجاليتنا، على غرار ما قامت به كل من مصر والسودان والمغرب والعديد من الدول العربية الأخرى للاستفادة من مداخيل جاليتها. فالدولة الجزائرية إن عرفت كيف تتقرب أكثر من جاليتها الموجودة في الخارج بإمكانها أن تجلب، كما يقول الخبير مالك سراي، لخزينتها ما يربو عن السبعة ملايير دولار سنويا. إلا أن القيام بإجراءات الاستفادة من مداخيل المغتربين لابد وأن يرافقه، يضيف محدثنا، إجراء آخر للحفاظ عليها واستغلالها فيما يخدم الاقتصاد الوطني، وذلك من خلال وضع حد للملايير التي تهرب سنويا عبر مطاراتنا وموانئنا وحدودنا البرية من قبل شبكات وطنية وأجنبية التي أصبحت تتفنن في تهريب العملة من بلادنا، بالإضافة إلى تشديد الرقابة أكثر في المطارات والموانئ على الأجانب من مختلف الجنسيات الذين أصبحوا يمثلون خطرا كبيرا على الاقتصاد الجزائري، نتيجة تهريبهم سنويا للملايير من الدولارات إلى بلدانهم الأصلية دون المرور عبر القنوات المالية الرسمية للدولة. ولا أحد يعلم كم من مليار دولار يتم تهريبه من بلادنا سنويا نحو الخارج، إلا أن إحصائيات نشاط مصالح الجمارك الخاصة بإحباط عمليات تهريب العملة نحو الخارج، تؤكد أن هذه الظاهرة كبيرة، حيث سمحت مختلف عمليات التدخل التي تمت خلال السنة الماضية من حجز قرابة 37 مليون أورو و2,1مليون دولار، بالإضافة إلى قيمة أخرى معتبرة من باقي العملات الأجنبية لتصل بذلك قيمة العملة المحجوزة خلال السنة الفارطة إلى 118 مليار سنتيم، وفاقت هذه القيمة بكثير ما تم حجزه من عملات أجنبية ؛ حيث تجاوزت قيمتها 164 مليار سنتيم.