فلا يظنّنَّ أحد أنّ ظلمه للعباد بضرب، أو سب أو شتم، أو تزوير، أو أكل مال بالباطل، أو سفك دم، أو غيبة أو نميمة، أو استهزاء أو سخرية، أو جرح كرامة، - لا يظننَّ أحد - أنّ شيئاً من ذلك الظلم سيضيع ويذهب دون حساب ولا عقاب، كلا، كلا، فلابُدّ للظالم والمظلوم من الوقوف بين يدي الله عز وجل ليَحكم بينهما بالعدل الذي لا ظلم فيه ولا جاه ولا رشوة ولا شهادة زور، ﴿ اللَهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 69] روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجلحاءِ من الشاة القرناء". أما والله إن الظلم شؤم ولازال المسيء هو الظلومُ ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غداً عند المليك مَنِ الملومُ فما أقبح الظلم، وما أقبح نتائجه وعواقبه في الدنيا والآخرة، لِذا حرّمه رب العالمين، وحذّر منه سيد المرسلين. • الظلم سبب في المحن والفتن والهلاك والبلاء في هذه الدنيا، فكم من أمم قد طغت فأبيدت ودُمّرَت، وكم من أقوام قد طغوا فعذبوا وأهلِكوا، وكم من أناس قد أسرفوا في الظلم والطغيان فكانت نهايتهم إلى الهلاك والخُسْران يقول ربنا سبحانه:﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ الأنبياء:11. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِتْه» قال: ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]. فأين الجبابرة؟! وأين الأكاسِرة؟! وأين القياصرة؟! وأين الفراعنة؟! أين الطغاة؟! وأين الطواغيت؟! أين عاد؟! وأين ثمود؟! وأين قوم نوح؟! وأين قوم لوط؟ أين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان؟ هل فارق الموت ذا عز لعزته؟ أم هل نجا منه بالسلطان إنسان؟ لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جانُ ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ العنكبوت: 40. فلتكن لنا في الأمم السابقة عِظة وعِبرَة، أناس تكبروا وتجبروا وأسرفوا في الظلم والطغيان، فأهلكهم الله تعالى وجعلهم عبرة لكل ظلم وطاغية. قال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 13، 14]، وقال تعالى: وقال سبحانه: ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ الحج: 45، 46. وقال عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 6 – 14]. فيا من تظلم العباد، اتق الله في نفسك، ودع عنك الظلم والطغيان، واعلمْ أن دعوة المظلوم مستجابة، ليس بينها وبين الله حجاب. ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن، فقال: "اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوة المظلوم تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السماوات، ويقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»، أخرجه ابن حبان في صحيحه لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنمِ الظلم سبب في العذاب والخسران في الآخرة، ويكفي في التحذير من ذلك قول ربنا سبحانه: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42] إياك أن تظن أن الله تعالى غافل عن هذه الأرواح التي تُزهق، ولا عن هذه الدماء التي تُسفك، ولا عن هذه الأعراض التي تُنتَهك، ولا عن هذه الحرمات التي تُستباح، ولا عن هذه الأموال التي تُسلب، ولا عن هذه المنكرات التي تُرتَكب، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ﴾ [إبراهيم: 42، 44] - نجب دعوتك التي هي دعوة السلم والسلام، دعوة الأمن والأمان، دعوة المحبة والمودة والرحمة والوئام، دعوة التعاون والتآزر والتعاطف والتراحم... وليست دعوة ظلم ولا طغيان - ﴿ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [إبراهيم: 44 - 52] فاذكروا واعتبروا يا أولي الألباب. فيا مَن دعاك منصبك وجاهُك إلى ظلم العباد! ويا من حملتك قوتك وثروتك على ظلم العباد! تذكّرْ قدرةَ الله عليك، وتذكر وقوفك بين يديه، واعلم بأنّ مالِكَ الملكِ هو الذي سيقتصّ للمظلوم من الظالم يوم القيامة. فماذا يكون حالك إذا وقفتَ بين يدي الله، وهو يقول سبحانه: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر:16، 17. يا من ظلمتَ نفسَك، أو ظلمتَ العباد، عُدْ إلى رُشدِك، وابتعِدْ عن الظلم والطغيان، واعلم أن الظالم محروم من الهداية، محروم من الفوز والفلاح، ومطرود من رحمة الله. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام:21]، وقال عز وجل: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر:52]. ابتعد عن الظلم والطغيان، واعلم أن الظالم محروم من الشفاعة يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [غافر:18]. ابتعِدْ عن الظلم والطغيان، وتذكّرْ أنّ عذاب الله للظالمين شديد، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]. يا من وقعت في ظلم العباد؛ بادِرْ برَدّ المظالم إلى أهلها اجتهدْ في رَدّ الحقوق والمظالم إلى أهلها ما دُمْتَ في هذه الدنيا، أو تحللْ منها بالْتِماسِكَ من المظلوم المسامحةَ والعفوَ والتجاوز، قبل أن تُؤخَذ منك الحسناتُ في الآخرة، أو تتحمّل من أوزار المظلوم بقدر مظلمته. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس»؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعْطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحَتْ عليه، ثم طرح في النار. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت له مَظلمة لأخيه مِن عِرْضِه أو شيء، فليتحَلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينارٌ ولا دِرهم، إن كان له عملٌ صالح أُخِذَ منه بقدْرِ مَظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ مِن سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه».