هم شباب في مقتبل العمر لا يتجاوز سنهم 16 سنة،غادروا مقاعد الدراسة في سن مبكرة لظروف اجتماعية قاهرة وآخرون رفضوا الالتزام بأوقات الدراسة، لتجدهم يتسللون من أقسامهم خفية عن الأنظار، وحتى عن أوليائهم...بحثا عن "لقمة العيش"...التي أصبحوا يجدونها في التراب...لعلهم يكسبون مدخولا من جمع"بقايا البطاطا"، خاصة لما جعلوا من الطريق السريع على مستوى بلدية العطاف...فضاء لهم يعرضون به سلعتهم على مدار أيام السنة. من المدرسة.. إلى البطاطا.. ورحلة البحث عن لقمة العيش هم مجموعة من الشباب، إن لم نقل أنهم مجموعة من التلاميذ أين التقيناهم صدفة بالطريق الوطني رقم 4، وبالضبط على مستوى بلدية العطاف، لما شد انتباهنا مشهد هؤلاء التلاميذ الذين كانوا يحملون فوق ظهورهم محافظهم التي من شدة قدمها كانت تبدو متهرئة ومنظرها يبعث على الاشمئزاز.. والمآزر التي كانوا يرتدونها..في ساعة..كان التلاميذ في سنهم متواجدين داخل أقسامهم، يتابعون دروسهم في جو دافئ، أين وجدنا البعض منهم منشغل في جمع "بقايا البطاطا"، التي تركها الفلاحون ورائهم، غير أننا وجدنا البعض الآخر منهم يقفون مصطفين على حافة الطريق، يغازلون زبائنهم بكميات البطاطا التي كانوا يعرضونها في أكياس من القماش، لعلهم يصطادون القليل منهم في طقس بارد والابتسامة لا تغادر أفواههم، ولما توقفنا بالقرب منهم للحديث إليهم، حين اعتقدوا للوهلة الأولى أننا قدمنا لشراء البطاطا، فراح كل واحد منهم يعرض علينا سلعته في أكياس من القماش، ذات الحجم الكبير، غير أنه ومباشرة بعدما كشفنا لهم عن هويتنا، تراجعوا قليلا ورفضوا في البداية التصريح لنا، لكننا وسرعان ما شرحنا لهم أن "الروبورتاج" الذي سننجزه عنهم وعن يومياتهم سيخدمهم كثيرا في المستقبل، وأن ما سنحرره عنهم سيفيدهم ولن يضر بهم. وفي تلك اللحظات الخاطفة التحق بنا أحد الشباب، المدعو زكرياء صاحب 22 سنة، والذي يقطن ببلدية زدين التي تبعد عن منطقة العطاف ب3 كيلومترات، فراح يسرد لنا بعض التفاصيل عن حياته، حين أكد لنا أنه غادر مقاعد الدراسة في سن جد مبكرة، وسنه لا يتجاوز 11 سنة وبالضبط في سن السادسة ابتدائي، لظروف عائلية واجتماعية قاهرة، منعته من مواصلة دراسته والتخرج بشهادات عليا، فوجد في التراب رزقا له ولعائلته المكونة من 9 أفراد، ليجد نفسه في يوم من الأيام مجبرا على التكفل بأفراد عائلته، حين أصبح والده بطالا من دون عمل. ولما طلبنا منه أن يشرح لنا ما يقوم به وعن العمل الذي يقوم بممارسته ، أوضح لنا أنه يأتي في الساعات الأولى من طلوع الشمس، ليقوم بجمع بقايا البطاطا التي تبقى في الحقل والتي يتركها الفلاحون بعد عملية الجمع، ليجتهد في تصنيفها واختيار فقط البطاطا ذات النوعية الجيدة، لأنه في أحيان كثيرة ما يصطدم "ببطاطا فاسدة"، لا تصلح للبيع، ليجتهد حينها في ملئها في أكياس من القماش ذات الحجم الكبير، وعرضها طوال اليوم، منذ طلوع الشمس إلى غروبها على طول الطريق السريع، لعله قد يكسب مدخولا يمكنه من تغطية مصاريف عائلته، ليختم حديثه بعبارة قد أثرت فينا، حيث قال باللغة العامية:" العام يدور، في التراب..و من التراب وإلى التراب وكل شيء بالمعارف"، ولما طلبنا أن يفسر لنا ما يقصد به من خلال مقولته، أوضح لنا أن السنوات، الشهور و الأيام تمر والزمن يسير..وهو لا يزال يشتغل بالتراب، ليعاد ليدفن بالتراب بعد وفاته. زكرياء لم يتوقف عن الحديث طوال اللقاء الذي جمعنا به..لأنه كان يرغب أن تصل رسالته إلى السلطات المعنية، لعله قد يحصل على وظيفة مستقرة تمكنه من العيش الكريم رفقة عائلته. أعوان شرطة...و تلاميذ يتسللون من أقسامهم..بحثا عن رزق آخر زكرياء هو أحد الشباب الذين التقيناهم يجمعون بقايا البطاطا ليبيعونها على طول الطريق السريع، لكن زكرياء ليس لوحده وإنما يمارس مهنته رفقة مجموعة كبيرة من الشباب، وحتى تلاميذ المدارس، خاصة حين شد انتباهنا مشهد طفل صغير بدا لنا أن سنه لا يتجاوز 13 سنة..كان يرتدي مئزرا أبيضا، لكن اللون البني يبدو أنه قد طغى عليه من كثرة تلطخه بالتراب إلى درجة أن لونه الأبيض الناصع قد تغير وحتى بشرته، التي من المفروض أن تكون ناعمة في سنه، قد تحولت إلى سميكة بسبب احتكاكه اليومي بالتراب، إلى درجة أن لونها قد تحول إلى الأسمر..ورغم تلك المعاناة..فذلك التلميذ لا يزال يحتفظ ببراءته وابتسامته اللتان لم تفارقانه أبدا، فكان يحمل على ظهره محفظته التي يبدو أنها قد أثقلت كاهله، ورغم أنه ترك مدرسته خفية غير أنه لم يفرط في محفظته، بحيث أخبرنا لما تقربنا منه أن اسمه بن حمادة نور الدين و يبلغ من العمر 13 سنة، ويقطن بمنطقة "الروينة" التي تبعد بضع كيلومترات فقط عن بلدية العطاف وحين سألناه عن سبب تواجده بذات المكان، أخبرنا أنه يقوم بالتسلل من القسم خفية عن أعين أساتذته، لينطلق في جمع "بقايا البطاطا" التي يتركها الفلاحون، رفقة زملائه من نفس المتوسطة، وأحيانا حتى من نفس القسم، ليجتهد في بيعها، لعله قد يكسب مالا إضافيا يساعد من خلاله والده الذي أصبح عاجزا عن التكفل بعائلته المكونة من 11 فردا، خاصة في ظل تدني مستوى المعيشة..ليقاطعه زميله الذي يدرس معه بنفس المتوسطة، وهو المدعو برابح حمزة والبالغ من العمر 17 سنة الذي كان يخفي محفظته تحت معطفه الأزرق البالي، الذي كان يغطي جزء بسيطا من جسده لقصره، فتأسف كثيرا، حين أخبرنا أن ظروفا عائلية واجتماعية قاهرة وقفت في وجه تفوقه في الدراسة، مثله مثل زملائه الآخرين، خاصة وأن زملائه في نفس سنه سيجتازون شهادة الباكالوريا هذه السنة، لكن هو ما يزال يدرس في السنة الثانية متوسط مع تلاميذ أصغر منه سنا،غير أنه أكد لنا أن عزيمته كبيرة وإرادته قوية، لتخطي المشاكل وتحقيق نتائج إيجابية في الدراسة. وأما حكايته مع "البطاطا" أوضح لنا أن المبلغ المالي الذي يكسبه والده من مهنته، التي رفض الكشف عنها ضعيف جدا ليضطر هو الآخر إلى التسلل من قسمه خفية، ليقطع كيلومترات عديدة لكي يلتحق بزملائه، أين يجتهدون جميعا في جمع "بقايا البطاطا"، فتتلطخ أجسادهم وأيديهم وملابسهم بالتراب، لا يهم...لأن المهم هو كسب مال إضافي..لعله يساعدهم في تغطية ولو جزء بسيط من تكاليف المعيشة. غير أن ذلك الشرطي الذي كان يتابع حديثنا من بعيد للحظات لينهمك بعدها في جمع "بقايا البطاطا"، من دون أن يقترب خطوة منّا، و لما طلبنا منه أن يقترب منّا..اقترب.. وهو مطأطأ رأسه حين جعل يديه من ورائه ..ومن دون أن ينطق بكلمة واحدة، رافضا الحديث إلينا بحجة حساسية منصبه، حين تدخل زكرياء ليقطع صمته قائلا:" ما تحشمش خويا الخدمة ما شي عيب وخدام الرجال سيدهم"..لكن الشرطي وبعد إلحاح كبير اكتفى بالقول أنه "المعيشة غالية بزاف"، حين أضحى على "الزوالية" مثلنا أن يبحثوا عن مصدر آخر للرزق، فأضاف قائلا:" وجدت في التراب ما لم أجده في غيره ". تركنا هؤلاء التلاميذ وهؤلاء الشباب منهكين في جمع وبيع البطاطا في جو قارس، قبل أن يحل الظلام عليهم..ليعودوا بعدها إلى منازلهم بعد يوم متعب..محملين إما بفرحة كبيرة، لما جنوه طوال يوم كامل، أو بخيبة أمل لا تقاوم.