قد أبالغ عندما أخبرك سيدتي أني من عالم آخر ليس فيه غش ولا نفاق، الناس فيه لا يكذبون، لا يخدعون، القناعة شعارهم والحب أساس وجودهم، إني أعيش في عالم خال من الزيف والأوهام، تسوده الرفعة، لا أقنعة تزييف، ولا ابتسامة صفراء ترتسم على شفاههم من أجل المسايرة. عالمي لا يوجد فيه الفسق، بل أناسه من النبلاء والأشراف الذين تستهويهم الحياة النقية، نساء هذا العالم بمرتبة حور العين، ورجاله مثل الملائكة وخدام العرش الكبير، إنها يا سيدتي "المدينة الفاضلة" التي ذكرها ذلك الفيلسوف في كتابه، إنها مجرد حبر على ورق لكل الناس لكنها حقيقة بالنسبة لي، أعيشها وأتعايش معها، ومشكلتي اني لم استطع الخروج منها والعودة الى الواقع والحقيقة التي أعيشها. نعم، إنها مشكلتي، فبعد أن كانت هذه المدينة هي المكان الذي أخلذ إليه هروبا من المشاكل وهموم الدنيا وذلك في الخيال، استفقت بعد أن بلغت الثلاثين من العمر، فوجدت نفسي كأهل الكهف الذين أفاقوا من سباتهم، فوجدوا الزمن قد فاتهم. عشت في الخيال وتركته يتملكني وأصبح جزء مني، يمنعني من مواجهة الناس، لأنني لا أملك خبرة التواصل معهم. أريد الرجوع إلى الحقيقة بما تحمله من سلبيات ومعاني مختلفة للحياة، أريد العيش ككل أترابي الذي رفضه منذ سنوات، أريد الارتماء بين أحضان هذا البلد رغم امتلائه بالتناقضات، رغم قلة الحظ فيه، رغم الزيف والنفاق، رغم ما سأجده من أمور عكسية لتلك التي كنت أعيش فيها مدينة أوهام، لذلك التجأت لك سيدتي، يا طيبة القلب لكي تداويني وترديني الى موطني، لأنني حقا كالطائر الذي ضيع وكره. الرد: صديقي العزيز، لماذا تعقد مفهوم الحياة وتجعلها أصعب من عبور البحر عند هيجانه، لماذا تجعل من الحياة معركة ترى نفسك فيها مهزوما وأنت تملك الأسلحة الفتاكة ذات الدمار الشامل لهذه الأفكار التشاؤمية. هون عليك والقى وراء ظهرك هذا التفيكر الفلسفي وابتعد عن الزهد في الدنيا بهذه الطريقة، فقد خلقنا الله عز وجل لكي نعيش فيها ونستمتع بها. ان الاختلاف وتغير الطبائع البشرية رحمة من عند الله لكي نضمن الاستمرار والبقاء، كن بسيطا ترى الدنيا بما تحمل من أعباء بسيطة. كن متفائلا ترى الأفق زاهيا ثم إنك يا صديقي تعطي الأمور أكثر مما تستحق، فمن قال أنك لا تستطيع العيش في هذا العالم، أنت منا وإلينا، وإلا كيف تفسر مطالعتك لجريدتنا، فهي ليست من جرائد "المدينة الفاضلة"، ولكنها من العالم الذي ترفضه فإذا استحسنت فيه شيء كقراءة الجريدة، لذلك فإنك حتما ستجد ما يريحك وأنا متأكدة من ذلك. صديقي العزيز، أنت لم تفصل عن حياتك أي شيء لكي نتناقش أكثر، لذلك أنا انتظر رسالة مفصلة منك، لأرد عليك بطريقة أدق، استغفر خالقك وعد الى رشدك ولا تقنط من رحمة الله، وابتعد عن ما سيجرك ولا محالة إلى عالم الجنون. رد مدام نور