منذ 34 سنة من رحيل الرئيس هواري بومدين أو كما سمي بأبي الثورة الزراعية، ما تزال التساؤلات تطرح حول الأسباب التي غيرت السياسة الزراعية في الجزائر، بعدما كانت الجزائر بلدا مصدرا للحبوب إلى أوروبا حتى وهي تحت سيطرة المحتل، وعرف القطاع الزراعي في هذه الفترة ازدهارا كبيرا، ما دفع الخبراء الاقتصاديين وأهل الاختصاص في عالم الزراعة إلى القول إنّ استمرار الثورة الزراعية كان سيجعل من الجزائر يابان الوطن العربي. ارتكزت سياسة الرئيس الراحل هواري بومدين على قطاع الفلاحة والتصنيع والثقافة، واعتبر أنه لا يمكن نجاح واحد من هذا الثلاثي دون الآخر، لأنه لا يمكن بناء صناعة دون وجود المادة الأولية، وكان يعتقد أن الزراعة المصدر الوحيد لهذه الأخيرة، بمعنى أنه لا يمكن على سبيل المثال فتح مصنع للطماطم المصبرة دون أن يكون لدينا مردود كافي من هذا المادة الغذائية الأساسية، كما أنه لا يمكن فتح كذلك مصنع للجبن إذا ما لم تكن لدينا ثروة حيوانية تدر الحليب الكافي لصناعة هذا الأخير أيضا. فالنهوض بالزراعة في الجزائر لا يكفي بتوفير المادة الأولية وحدها أو توفير الآلات الزراعية الكافية، بل ينبغي النهوض بالمجتمع الريفي وبالفلاح على الخصوص، وذلك هو الطريق الذي سلكه الرئيس هواري بومدين عندما رفع التحديات، حيث بدأ بتوزيع آلاف الهكتارات على الفلاحين وتوفير لهم المساكن، من خلال مشروع ألف قرية سكنية للفلاحين وقضى على البيوت القصديرية والأكواخ التي كان يقطنها الفلاحون، وأمده بكل الوسائل والإمكانات التي كان يحتاج إليها. منذ 34 سنة من رحيل الرئيس هواري بومدين أو كما سمي بأبي الثورة الزراعية، ما تزال التساؤلات تطرح إلى اليوم حول الأسباب والمشكلات التي غيرت السياسة الزراعية في الجزائر، بعدما كنت الجزائر بلدا مصدرا للحبوب إلى أوربا حتى و هي تحت سيطرة المحتل، بحيث تقول الأرقام إن نسبة تصدير الجزائر لحبوبها إلى أوروبا كانت تقدر بحوالي 80 بالمائة، وعرف القطاع الزراعي في هذه الفترة ازدهارا كبيرا رغم الظروف، وهذا بفضل السياسة التي وضعها بومدين بالحفاظ على الأراضي الزراعية، وإنجاز السدود (السد الأخضر)، وهو من أكبر المشاريع في عهد الرئيس هواري بومدين، الذي يربط بين الحدود الجزائريةالشرقية والغربية على مسافة 1500 كيلومتر طولا و20 كيلومترا عرضا، للحد من تقدم الرمال نحو الشمال ووقف ظاهرة التصحر، أما اليوم فقد تحول العقار الفلاحي إلى إسمنت من أجل حل أزمة السكن، ولم تجد الجزائر من سبيل لتحقيق اكتفائها الذاتي سوى اللجوء إلى عملية الاستيراد من الخارج، ولم تعد حينها الجزائر يابان الوطن العربي، مثلما قال في ذلك الرئيس هواري بومدين عام 1972 وقال أن الجزائر ستخرج بشكل كامل من دائرة التخلف. بومدين جعل من التخطيط أولى خطوات التنظيم لقد استطاع الرئيس هواري بومدين أن ينقذ الشعب الجزائري من المجاعة منذ توليه الحكم إلى غاية وفاته بفضل سياسية الإصلاح الزراعي واهتمامه بالمشكلات الريفية والتخطيط القوي الذي جعله من أولى خطوات التنظيم، لأنه كان يرى أن كل عمليات التنظيم والتنمية تقوم على التخطيط وتتخذه لها طريقا ومنهاجا، واستخدامه الموارد الطبيعية بطريقة علمية وعملية وإنسانية لتحقيق الخير للمواطن وتوفير له حياة الرفاهية، ورفع التحدي أمام الدول المتقدمة ومنها الولاياتالمتحدة التي شهدت رواجا كبيرا في المجال الزراعي، فيما سمي ب: “الثورة الخضراء” التي انتهجها البروفيسور نورمان بورلوج المعروف برمز الثورة الزراعية وساهم من خلالها في إنقاذ العالم من المجاعة في القرن العشرين، ويعتبر البروفيسور نورمان بورلوج المولود عام 1914 في ولاية أيوا أبو الثورة الزراعية بلا منازع، وأنشأ على الطريقة الفرعونية من خلال عمله في مؤسسة “روكفيلر” مركزا للحنطة والذرة عام 1963، وحصل على عدة جوائز منها ميدالية الكونغرس الذهبية عام 2007 قبل وفاته عن عمر يناهز ال: 95 سنة. تقول التقارير إن “الثورة الخضراء” ساهمت بشكل كبير في مضاعفة الإنتاج الزراعي في الفترة بين 1960 و1990، واستفادت منها آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على وجه الخصوص، بفضل التجديد الريفي، وهو السؤال الذي ينبغي أن يطرح على المسؤولين على قطاع الفلاحة حول تضارب السياسات الزراعية التي انتهجتها الجزائر بعد وفاة الرئيس بومدين، وتأخر الجزائر في انتهاج سياسة “التجديد الريفي”، بدليل أن نسبة اليد العاملة في قطاع الفلاحة شهدت تراجعا كبيرا، بحيث بلغت 25 بالمائة عام 1999 بعدما كانت تصل إلى 60 بالمائة في نهاية الستينيات (1967)، كما أنها لا تشارك سوى بنحو 14 % من الإنتاج الداخلي الخام. قانون 90 قذف بالعقار الفلاحي في مستنقع المزايدة المسؤولون على القطاع يرجعون الأسباب إلى العشرية السوداء، التي أدت إلى استفحال ظاهرة التبعية الغذائية وحتمت على الجزائر اللجوء إلى “الآخر” لتوفير ما يشبع أفواه 34 مليونا من عدد سكان الجزائر، حيث تستورد الجزائر حسب آخر التقارير ما بين 30 و50% من حاجياتها من الحبوب وحدها، وكانت فاتورة استيراد الحبوب في سنة 2008 تفوق مليار دولار بسبب موجة الجفاف الذي طبع الموسم الفلاحي في تلك السنة، وارتفعت في سنة 2011 إلى حوالي 10 مليار دولار، مسجلة ارتفاعا بنسبة 66 بالمائة مقارنة من التي سبقتها (2010)، بالإضافة إلى استيراد غبرة الحليب بنسبة 60 بالمائة، و95 بالمائة من حاجياتها من السكر، فضلا عن استيرادها اللحوم الحمراء المجمدة (من الهند)، هذه المعطيات تعتبر عبءا كبيرا على كاهل الاقتصاد الوطني، مثلما أكده الخبراء الاقتصاديون بسبب سوء التخطيط الزراعي وإهمال هذا القطاع الحساس، دون أخذ الحيطة من المستقبل فيما يعرف بمرحلة ما بعد البترول. كما أن القوانين التي صدرت مؤخرا تعكس التنظيمات والإصلاحات التي وضعها الرئيس هواري بومدين في بداية السبعينيات (قانون الثورة الزراعية وتأميم الأراضي الفلاحية وإنشاء التعاونيات الفلاحية)، يأتي في عهد الشاذلي بن جديد مشروع الاستصلاح الزراعي في 1984، وذلك بإنشاء 3400 مزرعة فلاحية اشتراكية، في إطار إعادة هيكلة أملاك الدولة، ثم مشروع المستثمرات الفلاحية عام 1987، ودائما حسب الأرقام المسجلة فإنه تم آنذاك إنشاء نحو 28 ألف مستثمرة فلاحية جماعية ونحو 5000 مستثمرة فلاحية فردية، أما قانون 90 فقد ألغى مشروع هواري بومدين عندما أمم الأراضي الفلاحية وجعل مردودها في خدمة الشعب، وشجّع هذا القانون على إعطاء الصلاحية للفلاح في التصرف في العقار الفلاحي وتأجيره، وصدر في هذا الشأن قانون 1996 المتضمن حق التملك للأرض وحق تأجيرها في إطار ما سمي باقتصاد السوق. الاستغلال العقلاني للينابيع المائية كافٍ لحل أزمة الري من جانب آخر فمسألة “الري” الفلاحي ما تزال تشكل هاجسا بالنسبة للفلاحين، فرغم الجهد الذي بذلته الدولة منذ التعددية إلى اليوم من خلال إنجاز السدود والحواجز المائية، غير أن برنامج الري الزراعي يطرح مشكلا أساسيا من جانب أنه يكلف ميزانية الوزارة قدرا كبيرا لتغطية العجز الموجود، على مستوى 420 ألف هكتار من الأراضي الزراعية المروية، من مجموع 8.2 ملايين هكتار مساحة الأراضي الصالحة للزراعة على المستوى الوطني، الحلول حسب أهل الاختصاص موجودة لو عملت الدولة على وضع رؤية خاصة في مجال تسيير مياه السقي، وتنويع نطاق استغلال مصادر المياه في إطار عقلاني مدروس وتوسيع المساحات المسقية، علما أن هذه الأخيرة، وتحقيق الهدف ليس ببعيد المنال إذا ما استغلت الجهات المختصة “الينابيع المائية” استغلالا جديا وعقلانيا، وعدم ترك المياه تضيع على السطح، ورسم خريطة خاصة لربط هذه الينابيع بالسدود. مطالبات بمراجعة السياسة الزراعية يلّح متخصصون على حتمية مراجعة السلطات للسياسة الزراعية المنتهجة وتوخي تدابير مستحدثة لتأطير العقار الزراعي، وبعث الأنشطة الزراعية والاستغلال الزراعي والتنظيم المهني، وكذا إجراءات للتأطير العلمي والتقني من أجل تحسين مستوى التأهيل المهني لعموم المزارعين، للنهوض بالقطاع الزراعي في الجزائر الذي ظلّ يعاني من عديد المشكلات خلال الفترة الأخيرة، احتكاما لمعاناة المسألة الزراعية من شدّ وجذب بين مطلب حماية العقار الزراعي والحفاظ عليه، ومطلب ضمان دينامية حقيقية من أجل الاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية. ويتعلق الأمر بتنفيذ “شبه ثورة زراعية” ستعنى بإعادة بناء القطاع الزراعي في الجزائر على أسس صلبة، تلافيا لتكرار أزمات الحبوب والبطاطا وتوابعهما، وتحسين الأمن الغذائي من أجل تمكين الجميع من الغذاء السليم والكافي، وضمان تطوّر متحكّم فيه لتنظيم قطاع الزراعة ووسائل تأطيره في سبيل رفع إنتاجيته وقدرته التنافسية، من خلال تطبيق مبدأ دعم الدولة المدروس للتنمية الزراعية. كما يشدد أخصائيون على حساسية تثمين أنواع الإنتاج الزراعي واعتماد نظام جودة (العلامة الزراعية، تسمية المنشأ، توضيح مراحل الإنتاج، وجودة المنتوج البيولوجي)، مع ضمان استمرارية المستثمرات الزراعية والحفاظ عليها عبر هياكل زراعية مكيّفة، والارتقاء بالمستوى المعيشي للمزارعين من خلال تكفل الدولة بتوفير الظروف الملائمة لدينامية تنمية المناطق الزراعية، مع تشجيع إدماج الشباب من حملة الشهادات في مسار تحديث المستثمرات الزراعية و تسييرها، بما سينعش القطاع الزراعي ويخرجه من مستنقع اللااشتغال على كثير من الضروب الجديدة.