كان “ابن الجوزي” لا ينكر على طلب لذّة الدّنيا من طريق مباح، لأنّه ليس كلّ أحد يقوى على الترك، وإنّما المحنة من طلبها فلم يجدها، أو وجدها في طريق الحرم فأجتهد في تحصيلها، وهو لا يبالي كيف يتمّ هذا التّحصيل. ولقد كان يرى أنّ التقوى صمّام الأمان، وأنّ من أحبّ تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال، وقال الرسول الله (ص): {البرّ لا يبلى، والإثم لا ينسى، والدّيان لا ينام، وكما تدين تدان}. ولقد أشكل على الناس أمر النفس وماهيتها، مع إجماعهم على وجودها، ثمّ أشكل عليهم مصيرها بعد الموت. فهذا “أحمد بن حنبل” يقول أرواح المؤمنين في الجنّة، وأرواح الكفّار في النّار، ثم إنّ من تعرّض إلى النفوس وإلى مصائرها بعد الموت تأمّل كذلك أمر الدنيا والآخرة، فوجد حوادث الدنيا حسّية طبيعية، وحوادث الآخرة إيمانية يقينية. وأنّ الإنسان إذا خرج يمشي في الأسواق ويبصر زينة الدّنيا، ثمّ دخل إلى المقابر، فتفكّر النهاية والبلى والموت ورقّ قلبه، فإنّه يحسّ بين الحالتين فرقا واضحا. ومن تأمّل في الشهوات الدّنيا رآها مصائد هلاك، فخاخ تلف، وهناك من شغلتهم الدنيا، في الحين الذي يجب أن لا يأمن الإنسان الدّنيا، فالزمان لا يثبت على الحال كما قال الله عزّ وجل: {وتلك الأيّام نداوتها بين الناس} فتارة فقر، وتارة عنى وتارة ذلّ وتارة عزّ. ولقد انشغل “ابن الجوزي” بمراحل وقال: تأمّلت أحوال النّاس في حالة علوّ شأنهم فرأيت أكثر الخلق تتبيّن خسارتهم، فنمهم من بالغ من المعاصي من الشباب، ومنهم من فرّط في اكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللّذّات. وكلّهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوة ضعفت، أو فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات. فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت، قال وا أسفاه على ما جنيت، وإن لم يكن له إفاقة صار متأسّفا على فوات ما كان يلتذّ به، فأمّا من أنفق عصر الشباب في العلم فإنّه في زمان الشيخوخة يحصد جني ما غرس ويلتذّ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما بفقد من لذّات البدن شيئا بالإضافة إلى ما يناله من لذّات العلم. ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمالهم في اكتساب الدّنيا، وأنفقت زمن الصبا والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني ممّا نالوه إلاّ ما لو حصل ندمت عليه، ثمّ تأملت حالي فإذا عيشي في الدّنيا أجود من عيشهم، وما هي بين النّاس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوّم. وكان الرسول (ص) يقول: {اللّهم إنّي أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم وعذاب القبر، اللّهم ما آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير زكّاها أنت وليّها ومولاها: اللّهم إنّي أعوذ بك من نفس لا تشبع}، ومعنى ذلك أنّ النفس بجوهرها ليست جامدة وراكدة، بل بالعكس لابدّ لها من الحركة والنّمو والتكامل ولكن ضمن إطار التقوى. ولكي تكتسب النفس التقوى، وتحقّق الغاية من وجودها يجب على الإنسان أن يعمل على محاسبتها وكما قال الرسول (ص): {لا يكون العبد تقيّا حتّى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه}. هذه هي النفس كما هي عند “ابن الجوزي” و«ابن حنبل” وكما هي في الحديث النبوي الشريف، فالإنسان الذي يعدّ نفسه لمسارها القويم، هو نفسه الإنسان الذي يحقّق قيمته الذاتية، القائمة على اعتباره مخلوقا راشدا، مسؤولا مؤتمنا على نفسه. ولقد قال أبو حامد الغزالي: إذا أراد الله عزّ وجل بعبد خيرا، بصّره بعيوب نفسه، فإذا عرف المرء العيوب أمكنه العلاج. وتطلب العيوب في التراث الإسلامي عادة في الأخلاق، فالبصير بعيوب نفسه هو المطّلع على خفايا الآفات وهو يتوسّل إلى طلب هذه العيوب باستشارة الشيخ والأستاذ، أو يطلبها من الصديق الصّدوق المتديّن، أو يستفيدون معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، لأنّ عين السّخط عند الغزالي تبدي مساوئ المرء. حقائق مصطنعة حيا الإنسان في الغضون التي ينشئ فيها حقائق، فهي حياة متكاملة ذات معنى، لكن في كثير مكن الأحيان قد تكون هذه الحقائق مصطنعة. ومثلما هناك كلمة حقّ أريد بها باطل، كذلك هناك حقائق مصطنعة أي لا تمتّ إلى الحقائق إلاّ بالاسم. ويذكر “ابن الجوزي” في كتابه “صيد الخاطر” بأنّه رأى جماعة من الخلق يتعلّلون بالأقدار، وهذا تعلّل بارد، وهو يشير إلى ردّ أقوال الأنبياء والشّرائع جميعها. لقد قال الناس لعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) ندعوك إلى كتاب الله، فقال: كلمة حق أريد بها باطل. وكذلك قول الممتنعين عن الصدقة: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}. فإذا كان التوفيق أصل الفعل، فإنّ التوفيق أمر خفي، والخطاب بالفعل أمر جلي، فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الحقي، وممّا يقطع هذا الاحتجاج أن يقال لهذا القائل: أنّ الله سبحانه لم يكلّفك شيئا إلاّ وعندك أدوات ذلك الفعل ولك قدرة عليه، فإن كانت القدرة عليه معدومة والأدوات غير محصّلة فلا أمر ولا تكليف، وإن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك وهواك، فأسع بها في إقامة مفروضك. وينصح “ابن الجوزي” بعدم التعلّق بأمر لا حجّة للإنسان فيه، ويذكر انّه ما لجرح بميّت إيلام. وكان يقول أن المعافى لا يعرف قدر العافية إلاّ في المرض، كما لا يعرف شكر الإطلاق إلاّ في الحبس. وكان يرى أنّ من رزق قلبا طيّبا، فليراع حاله وليحترز من التغيير، والبعد عن الشبهات لا تتمّ إلاّ بدوام التقوى. ومعنى هذا أنّ على الموجود أن يفهم معنى وجوده، ومن فهم معنى وجوده يعلم أنّ العمر قصير، وأنّه يضيعه بالنوم والبطالة والحديث الفارع وطلب الذات، والأولى أن تكون أيّامه أيام عمل، لازمان فراغ. والسعيد من انتبه لنفسه، وعمل بمقتضى عقله، فيكون قد استعدّ لآخرته، ولم يعمل ببلاهة الملحدين. ويظهر أنّ نهي النفس عن الهوى هي من الحقائق الأساسية، ولقد قال سفيان الثوري ما عالجت شيئا أشدّ عليّ من نفسي، مرّ عليّ. وهذا يحيى بن معاذ الرازي يقول: جاهد نفسك بأسياف الرياضة، وتكاد الرياضي تكون حكرا على الصوفي يحدّدها كيفما يشاء فهي عند الغزالي على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذى من جميع الأنام، فيتولّد من قلّة الطعام موت الشهوات، ومن قلّة المنام صفو الإرادات، ومن قلّة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات، وليس على العبد شيء أشدّ من الحلم عند الجفاء، والصبر على الأذى، وإذا تحّركت من النفس إرادة الشهوات والآثام، وهاجت منها حلاوة فضول الكلام، جرّدت عليها سيوف قلّة الطعام، من غمد التهجدّ وقلّة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلّة الكلام، حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام، وتصفيّها من ظلمة شهواتها، فتنجو من غوائل آفاتها. وعند الغزالي أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، ويهمّنا نحن نفسه، هذه التي نهاها الله عن الهوى، واشتغل الغزالي بترويضها. وذكر الجنيد عن نفسه فقال: أرقت ليلة، فقمت إلى وردي، فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها، فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس فخرجت، فإذا رجل ملتفّ في عباءة، مطروح على الطريق، فلمّا أحسّ بي قال: يا أبا القاسم، لإليّ السّاعة، فقلت يا سيدي من غير موعد! فقال بلى، سألت الله عزّ وجلّ أن يحرّك لي قلبك، فقلت قد فعل، فما حاجتك؟ قال: متى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت إذا خالفت النفس هواها، فأقبل على نفسه فقال: اسمعي، فقد أجبتك بهذا سبع مرّات، فأبليت أن تسمعيه إلاّ من الجنيد، ها قد سمعتيه. لقد انشغل “الغزالي” بحالات المتصوّفين، وذكرها واستدلّ بها، أو جعل منها قضايا عرضها وجعل منها شواهد في بياناته التي عرضها في إحياء علوم الدين. وقد كان يدعو إلى رياضة النفس، ونهيها عن الهوى. وكان يقول أنّ حاصل الرياضة وسرّها أن لا تتمتّع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر، إلاّ بقدر الضرورة، فيكون مقتصر من الأكل، والنّكاح، واللباس، والمسكن، وكلّ ما هو مضطرّ إليه، على قدر الحاجة والضرورة. وكان يرى المرء إذا مات لا يتمنّى الرّجوع إلى الدنيا إلاّ من لاحظّ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلاّ بأن يكون القلب مشغولا بمعرفة الله وحبّه، والتفكيرّ فيه والانقطاع إليه، ومن لم يقدر على ذلك فليقترب من أربعه رجال بمواصفاتهم: رجل مستغرق قلبه بذكر الله، فلا يلتفت إلى الدنيا إلاّ في ضرورات المعيشة فهو من الصّدّيقين، ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلاّ بالرّياضة الطويلة، والصبر على الشهوات مدّة مديدة. ورجل استغرقت الدنيا قلبه، ولم يبق لله تعالى ذكر في قلبه، إلاّ من حيث حديث النفس، حيث يذكر باللّسان لا بالقلب، وهذا عند الغزالي من الهالكين. ورجل اشتغل بالدنيا والدين، ولكن الغالب على قلبه هو الدين، فهذا لابدّ له من ورود النار، إلاّ أنّه ينجو منها سريعا، بقدر غلبة ذكر الله تعالى على قلبه. ورجل اشتغل بهما جميعا، لكن الدنيا أغلب على قلبه، فهذا يطول مقامه في النار، لكن يخرج منها لا محالة، لقوة ذكر الله تعالى في قلبه، وتمكّنه من صميم فؤاده، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه. هذه حقائق لأربعة رجال، دعا الغزالي إلى أن يتقدّم المرء منهم، وعليه بعد ذلك أن يختار طريقا من هذه الطرق الأربع. ولا شك أنّ الطريق الذي انتهجه الرجل الذي استغرق فلبه بذكر الله هو الطريق المفضّل عند الغزالي، وهو طريق التصوّف. وكان “ابن الجوزي” يقول: أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرّخص، فكنت كلّما حصل شيء منه فاتني من قلبي شيء، وكلّما استنارت لي طريق التحصيل، تجدّد في قلبي ظلمة فقلت يا نفس السّوء الإثم حوّاز القلوب.. إنّ الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذّت.. ومازال “ابن الجوزي” يغالب نفسه فتغلبه تارة، ويغلبها تارة أخرى ثم تدعو الحاجة إلى تحصيل ما لابدّ لها منه. وخلا يوما بنفسه فقال لها: ويحك اسمعي أحدّثك: إن جمعت شيئا من الدنيا من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟ فقالت: لا، فقال لها: المحنة أن يحظى به الغير ولا تنالين إلاّ الكدر العاجل. ولقد أمرها بأن تترك هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله، وليس فقط أن تتركي ما هو محرم. وكثير من البشر من رضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها، وقد قال الله تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، وقال في سورة الحديد:{اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد}. وهذا حسب الغزالي ذمّ لها، والنفس لديه تؤدّب كما يؤدّب الطير والدواب، وتأديبها يتمّ بأنّ تمنع من النظر، والأنس والفرح بنعيم الدنيا. وطريق المجاهدة والرياضة لكلّ إنسان تختلف أحواله، والأصل فيه أن يترك كلّ واحد ما به فرحة من أسباب الدنيا. ويظهر أنّنا كلّما انشغلنا بالنفس وبرياضة النفس، كلّما عدنا إلى تقويم الدنيا ومدى أهمّيتها عند من يرفضونها كليه ويرون أنّ ذمّها والدعوة إلى ذمّها هو خير ما يجب الدعوة إليه. لكن نتبيّن من جهة أخرى قيمة الدنيا وأهميّتها كثيرا ما ترتبط ارتباطا مباشرا بقيمة العمل المبذول لإحيائها. وهذا ما يؤكّد أنّ العلاقة بين الإنسان والدنيا هي علاقة جوهرية وإيجابية، ففيها يجد الشروط الضرورية لوجوده واستمراره، وفي المقابل عليه أن يقوم فيها بدور فاعل وخلاّق من أجل إحيائها ورفع قيمتها، حتى تصبح موضعا للانتفاع كما رآها الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) حين قال: {الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة}، وهذا المعنى يتّسقّ اتساقا كاملا مع ما جاء به القرآن، حيث نجد أنّ دور الإنسان في الدنيا يتصف بنفس القوة والفعالية، بل يأخذ طابعا شموليا باتت جميع الكائنات بموجبه مسخّرة للإنسان عليه أن يستثمرها وينتفع بها، ولكي يقوم بهذا الدور الفاعل على وجه أكمل لابدّ له من كشف القوانين التي تتحكمّ بتلك الظواهر الكونية لمعرفتها والسيطرة عليها من أجل استثمارها. والغزالي يرفض الدنيا، ويدعو إلى ترويض النفس حتى لا تقع في لذّاتها وترّهاتها، وهو يعتبر كلامه كله عن النفس وترويض النفس حقائق استخلصها من الدرس الصوفي. ...يتبع