أدى سقوط النظام القديم وانكشاف ما كان مستورا في تونس بن علي إلى ردة فعل قوية نتج عنها تشكيك قطاعات واسعة من الشعب فيما كان يعد إلى وقت قريب من أساسيات الوفاق الوطني، و الذي يصب دون شك في صالح حركات كانت تصنف على أنها راديكالية و متطرفة. لكن في المقابل، لا بد من التنويه بان الأشواط الهائلة التي قطعتها تونس على طريق الحداثة، خلال العقود الستة الماضية، جعلتها تستعصي إلى حد كبير على قوى التخلف و الردة. و هذا ما أكدت عليه نتائج آخر استطلاع للرأي قام به المرصد التونسي للانتقال نحو الديمقراطية، يأتي قبل أسابيع قليلة من انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر الجاري. جاء حصاد قوى الحداثة في نتائج الاستطلاع متميزا، و بما لا يقل عن 72% من مجموع الأصوات، مقابل 28% فقط لقوى الردة، حيث كان نصيب حركة النهضة الإسلامية 25%، بالإضافة إلى نسبة 3% من المستطلعة آراؤهم كانت من نصيب حركة الشيخ عبد الفتاح مورو. وجاء الحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة الأستاذ نجيب الشابي في مقدمة قوى الحداثة، بواقع 16% من مجموع الأصوات، يليه التكتل الديمقراطي من اجل العمل و الحريات بقيادة د. مصطفى بن جعفر (14%) و حزب المؤتمر من اجل الجمهورية بقيادة د. منصف المرزوقي الذي حاز على 8% من الأصوات، محرزا بذلك تقدما مهما مقارنة بنتائج الاستطلاعات السابقة، التي دفع فيها هذا الحزب المتكون أساسا من نشطاء حقوقيين و علمانيين، ثمن تصرفات رئيسه مثل تصريحه المتسرع بترشحه للرئاسة ما أن وطأت قدماه مطار تونسقرطاج الدولي. تأتي بعد ذلك سلسلة من الأحزاب التي حصلت على نسب تتراوح بين 3% - 2% ، من بينها أحزاب منبثقة عن الحزب الحاكم السابق و المنحل، و حزب العمال الشيوعي التونسي بقيادة المناضل حمى الهمامي، و القطب الديمقراطي الحداثي بقيادة حزب التجديد برئاسة السيد احمد إبراهيم، و حزب العمل التونسي بقيادة الأستاذ عبد الجليل البدوي القريب من الاتحاد العام التونسي للشغل. ما تعنيه هذه النتائج أولا و قبل كل شيء أن لعب البديل الحداثي و الديمقراطي دورا رئيسيا في المجلس التأسيسي القادم أصبح في متناول اليد، بما في ذلك صياغة الدستور المرتقب و تكوين الحكومة الجديدة، مع دعوتنا للحذر كل الحذر من أن الطريق إلى جهنم الردة في تونس الثورة قد يكون معبدا هو الآخر بالنوايا الحسنة. لذلك، توجب العمل الجماعي الجاد من اليوم لتعزيز جبهة قوى الديمقراطية و الحداثة و تهيئتها لتحمل مسؤولياتها التاريخية في القريب العاجل، مما يقتضي: بدء القادة نجيب الشابي، مصطفى بن جعفر وأحمد إبراهيم بالعمل المشترك حال صدور نتائج انتخابات التأسيسي، بما في ذلك الاتفاق على مرئياتهم في شان الدستور الجديد و التوجهات العامة للحكومة الجديدة، وبدء الاتصالات مع كافة الإطراف الأخرى التي تشاركها نفس التصورات المجتمعية لما يجب أن تكون عليه تونس الغد، درءا لمخاطر التشتت في حال تشكل المجلس التأسيسي من موزاييك أحزاب صغيرة قد تحكم على عمله بالشلل، والاتفاق المبدئي على ترشيح د. مصطفى بن جعفر لرئاسة الدولة، و هو إجراء لم يعد يمثل إشكالية بعد أن أعلن قادة حزب المؤتمر من اجل الجمهورية قبولهم بذلك. بالإعلان المشترك عن ميلاد الجبهة الديمقراطية والحداثية، بالمواصفات المنوه عنها سابقا، سوف تتعزز مصداقية هذه القوى الفاعلة في الداخل، مما سوف يمثل عامل انفراج و استقرار على الساحة الوطنية، كما سيقلل من درجة عدم اليقين في الخارج، مما سوف ينعكس بالإيجاب على السياحة و الاستثمار الأجنبي. بينما الفشل على هذا المستوى من شانه أن يقذف بتونس في أتون المزايدات السياسية والانقسامات و التي لن تكون في صالح قوى الحداثة و قد لا تكون حتى في صالح القوى المعادية. لذلك يبقى الأمل معلقا على ميلاد جبهة الديمقراطية والحداثة التونسية.