هل الإيمان ضروري في حياتنا، أم أنه من الكماليات يمكن الاستغناء عنه.. هل يقوم بدور المقيد والمعطل لانطلاقتنا، أم أنه يضع عنا الإصر والأغلال التي كانت علينا.. ما الذي يستطيع الإيمان تقديمه للبشرية في عصر الحضارة والعلم، وهل لايزال يملك القدرة على سد فراغ في حياة البشرية لا يستطيع غيره سدة؟؟ الإيمان يعني أن تنظر إلى الحياة نظرةً جديدةً وترى نفس الأشياء التي يراها غير المؤمن من زاوية مختلفة. كل من المؤمن والكافر يعيشان على نفس الأرض ويأكلان نفس الطعام ويشاهدان نفس الطبيعة، لكن الفرق هو أن المؤمن يرى في كل ما حوله آيات بينات تستدعي فكره وتدفعه إلى الخشوع والسكينة، بينما يراها غيره ظواهر مألوفةً لا تستحق التوقف عندها.. طريق الإيمان هو التفكر، وفي القرآن مئات الآيات التي تدعونا إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وفي الحديث فإن تفكر ساعة خير من عبادة سنة.. التفكر يعني أن يخرج الإنسان من دائرة الإلف والعادة ويرى في كل ما حوله جديداً ومثيراً ودالاً على الله.. التفكر يعني أن يرتفع مستوى حساسيتنا تجاه الظواهر الطبيعية من حولنا فلا نمر عليها مرور الكرام حتى لا نكون من الغافلين أو المعرضين.. وبذلك فإن المؤمن الحقيقي يجب أن يكون فيلسوفاً حسب التسميات المعاصرة لأن الفيلسوف هو الذي يقرأ في الأشياء العادية معان جديدةً تبعث فيه روح الدهشة والإثارة.. سنضرب أمثلةً تبسيطيةً لمعرفة ما الذي يضيفه الإيمان إلى الإنسان.. كل من المؤمن وغير المؤمن يأكلان الطعام..لكن بينما يأكل غير المؤمن طعامه بنهم فإذا شبع قام وواصل هيامه في الدنيا دون أن يجد في الأمر أي معنىً يستحق التوقف فإن المؤمن إذا وضعت أمامه وجبة الطعام دخل عقله في سلسلة طويلة من التفكر والتدبر فتذكر كم من الأيدي عملت لإنجاز هذه الوجبة من زارع وصانع وتاجر حتى وصلت إليه، وكيف أن مكونات هذه الوجبة ربما جمعت من أصقاع العالم ومرت في بلاد كثيرة قبل أن تصل بين يديه، وماذا لو لم تكن الأرض ممهدةً للزراعة، وماذا لو لم يكن هناك ماء لري الزرع.. وماذا لو تعطلت مهنة واحدة من المهن الكثيرة التي ساهمت في إنجاز هذه الوجبة.. ثم يتفكر ماذا لو لم يكن يمتلك أسناناً قاطعةً وجهازاً هاضماً، أو لو أنه كان يعاني من إحدى الأمراض التي تحرمه من التمتع بلذة الطعام، وكم من الناس حوله لا يستطيعون أن يشتروا هذا الطعام، أو أن يتناولوه.. مثال آخر حين يذهب الإنسان للنوم فإنه يلقي بجسده على الفراش ويغط في نوم عميق وشخير.. بينما المؤمن يستحضر في عقله وقلبه كل جوانب النعمة فيحمد الله أن كفاه وآواه ويتذكر كم ممن لا كافي له ولا مأوى يبيتون في الشوارع، وكم من الناس في هذه الساعة قد حرمهم المرض أو الهم والقلق أو الحزن من هذا النوم الهانئ.. إن للإيمان فوائده العاجلة قبل الآجلة، فاستشعار أوجه النعمة يضاعف شعور اللذة والاستمتاع بها، ويبعث في النفس الرضا والسعادة، فمن يتدثر بغطائه وهو يستحضر في مخيلته البرد القارس في الخارج سيتلذذ بالدفء أكثر ممن لم يتذكر البرد أصلاً، ومن يأكل الطعام الشهي بعد جوع سيتلذذ بمذاق الطعام أكثر ممن يأكل وهو شبعان.. مثل هذه الأسئلة التي يفرضها الإيمان على صاحبه تخرج الإنسان من حالة الإلف والعادة القاتلة وتوقظ فيه ملكة التساؤل وتنمي إحساسه بالحياة.. وحين يدرب الإنسان نفسه على التساؤل والخروج من النمط المألوف بطرح أسئلة (ماذا لو) فإنه لا يعود أسيراً للواقع بل يصير قادراً على الاكتشاف والإبداع.. إن الخروج من الإلف والعادة مقدمة ضرورية للإبداع مثال من المستوى الاجتماعي.. هناك حدث واحد وهو مقتل القذافي.. لكن نظرة كل من المؤمن وغير المؤمن تختلف تجاه هذا الحدث.. فالإنسان بدون الإيمان يراه حادثاً مجتزأً مقطوعاً من أي سياق.. لكن الإيمان يستدعي في قلب الإنسان السياق التاريخي لهذا الحادث فيراه حلقةً في سلسلة طويلة من مصارع الظالمين ويخشع قلبه وهو يتدبر تغير الأحوال وتداول الأيام وكيف صار عزيز الأمس ذليل اليوم، وكيف ينفض السلطان والأعوان عن إنسان حكم أربعين عاماً بهذه السهولة، وكيف يسكر الإنسان بنشوة السلطة حتى يغفل عما ينتظره من عاقبة أليمة. المؤمن يقرأ في هذا الحادث قانوناً تاريخياً، فيستفيد منه حتى لا يكرر الأخطاء، لأن من خصائص القانون الثبات والتكرار، بينما غير المؤمن لا يراه سوى حدث عابر فلا يستقي منه أي عبرة ولا يمنعه من أن يقع في نفس الخطأ في المستقبل فيكون هلاكه.. الإيمان يدفع صاحبه لأن يظل دائماً في حالة من اليقظة الفكرية والشاعرية، فحالة التفكر التي يعيشها المؤمن تنمي لديه ملكة التحليل والتساؤل وتوسع خياله، فالمؤمن هو الأقدر على الخروج بفكره من قيود المألوف، لأنه يتخيل دائماً خلاف هذا المألوف: ماذا لو لم تكن هناك جبال، أو لم تكن الأرض ممهدةً، ماذا لو كان الليل سرمداً أو النهار سرمداً، ماذا لو كان الماء أجاجاً أو غائراً، ماذا لو لم تكن هناك شمس أو قمر، ماذا لو لم يخلقنا الله زوجينً ذكراً وأنثى، ماذا لو لم يكن الناس شعوباً وقبائل، أو لم يكونوا مختلفين في الألسنة والألوان.. هذه الأسئلة يستثيرها القرآن في عقولنا عبر طرحه لمئات الأمثلة على ظواهر في غاية البساطة في الأرض مثل الجبال الأوتاد والليل اللباس والنهار المعاش والنوم السبات مما يولد الإنسان ويموت وهي أمام عينيه حتى يعتادها فيغفل عن موطن القدرة فيها ولا يرى فيها ما يستثير فكره، فيعيد القرآن تذكيرنا بها لنستكشف فوائدها ونتحرر من أسر الإلف والعادة. الإلف والعادة هو الداء القاتل، فحين تدخل مدينةً لأول مرة فإن مبانيها وشوارعها وتصميمها الرائع سيبهرك ويدعوك إلى الإعجاب والدهشة، لكن إذا أقمت فيها بضعة شهور أو سنوات فإنك لن تعود قادراً على المحافظة على نفس شعور الدهشة والاستمتاع الذي كنت تحس به بادئ الأمر لأن تكرار المشاهدة بشكل يومي يقتل الإثارة ويبعث على الملل، ومهما كان المنظر الطبيعي رائعاً وخلاباً فإن تعود العين على مشاهدته يفقده جاذبيته، ويجعل منه شيئاً عادياً، لذلك فقد ذم القرآن طول الأمد وجعله مدعاةً لقسوة القلب «طال عليهم الأمد فقست قلوبهم».. إن تعود الناس على أحوال معينة لأمد طويل يقتل روح الاستكشاف لديهم ويدعوهم إلى الكسل والتوقف عن محاولة التجديد والتغيير.. ما يصنعه الإيمان هو أنه يحافظ على روح الاستكشاف متقدةً في قلب الإنسان حتى لا تنطفئ جذوتها فيقسو قلبه ويخمد حماسه واستمتاعه وإبداعه، فيذكرنا دائماً بأوجه القدرة في أكثر الظواهر إلفاً واعتياداً من حولنا، ويدعونا إلى ديمومة التفكر في خلق السموات والأرض، وإلى السير في الأرض لمشاهدة الجديد الدال على قدرة الله وعظمته..يستعمل القرآن تعبير الحي والميت لوصف المؤمن والكافر، وهذا التعبير ليس مجازياً فحسب، بل إنه يعبر عن حقيقة الحالة التي يعيشها كلاهما. فالكافر هو الذي انطفأت في قلبه روح التأمل والاستكشاف فأصيب بالبلادة ولم يعد يرى في هذه الحياة أي باعث على الإيمان والخشوع، ولم يعد ينتفع بسمعه وبصره وفؤاده فهو كالميت، غافل عن الآيات معرض عنها لا يرى فيها إلا نمطاً مألوفاً لا يستحق التوقف والتفكر فيه «قد مس آباءنا السراء والضراء». وبذلك عطل أي قدرة لديه على الاستفادة في حياته.. حالة البلادة هذه يعبر عنها القرآن في مواضع كثيرة بأوصاف مثل: غافلون، في خوض يلعبون، يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل، في غمرة، في سكرتهم يعمهون، وهم في حقيقة الأمر سكارى لأنهم فقدوا إحساسهم بالحياة، وصاروا يقضون أيام عمرهم في رتابة وملل دون إثارة وتجديد.. لا يترك الإيمان أثره على الإنسان في الجانب الفكري وحسب، بل إن هذا الأثر يطال الجانب الشاعري أيضاً، فالإيمان يحرض في الإنسان شاعريته، لأن المؤمن هو الأقدر على الاستمتاع بالحياة، والإيمان يرفع مستوى إحساس الإنسان بالطبيعة من حوله ويصنع منه إنساناً مرهف المشاعر فتتيقظ شاعريته وينصت بقلب مفتوح إلى تسبيحة الكون الرائعة..فالمؤمن هو الذي يرى في صوت الرعد وشقشقة العصافير، ونقيق الضفادع تسبيحاً باسم الله، والمؤمن هو الذي يقرأ في اخضرار الأرض معنى الحياة بعد الموت، والمؤمن مدعو لأن يشارك الكون في هذه المنظومة البديعة بالتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، فلا تعتريه الغفلة والكسل في أي وقت من الأوقات ويظل منسجماً مع مخلوقات الكون في نسق واحد.. إن الإيمان النابض بالحياة والذي يقوم على التفكر والتأمل والخروج من دائرة الإلف واتباع الآباء هو الذي يصنع الإبداع والتقدم في حياة البشرية، وليس ذلك الإيمان التقليدي الطقوسي البارد هذا إن صح أن نسميه إيماناً أصلاً.. والله أعلم..