اعتبر الخبير الاقتصادي بشير مصيطفى، أن الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها الجزائر خلال العام 2011 تعبر عن حقيقة تراجع قدرات الطبقة المتوسطة وفئة الموظفين، كما تعبر عن عجز السياسة الاقتصادية الوطنية في خلق مناصب شغل قارة وحفز الطلب المناسب لصنع الثروة ودعم المؤسسات المنتجة، معتبرا أن زيادة واردات الجزائر من الحبوب خلال هذه السنة تعطي مؤشرا سلبيا ومقلقا، حيث دعا في حوار خص به «السلام» إلى إطلاق وزارة للاقتصاد وحكومة تقنوقراط للنهوض بالاقتصاد الوطني خارج قطاع المحروقات. بداية، كيف تقرأون من وجهة نظر خبير اقتصادي ما شهدته الجزائر خلال عام 2011 من احتجاجات بالجملة كانت شرارتها ظروف العيش المتدنية؟ بطبيعة الحال يشكل الوعي بالحقوق المدنية في أي مجتمع المشجع الأول للتعبير عن مطالب محددة، وفي الجزائر تزامن ذلك مع رفع حالة الطوارئ واستعداد الحكومة لضخ السيولة في كتلة الأجزاء مستفيدة في ذلك، بالتوازنات المالية الكبرى واحتياطي الصرف ومرونة الأجهزة الأمنية وهذا شيء ايجابي من الناحية السياسية. أما من الناحية الاقتصادية فالأحداث تؤكد فعلا تراجع قدرات الطبقة المتوسطة والموظفين على الوفاء بمتطلبات العيش في بلد نفطي وغني مثل الجزائر، وهذا مؤشر يدعو إلى إعادة النظر في السياسة الاقتصادية المنتهجة لحد الآن والعاجزة عن خلق مناصب شغل قارة وحفز الطلب المناسب لصنع الثروة ودعم المؤسسات المنتجة. وكيف تقيّمون الاقتصاد الجزائري خلال عام 2011؟ لا يختلف كثيرا عن السنوات الثلاث الماضية نمو مستقر في حدود أربعة بالمائة، استقرار في مداخيل المحروقات بسبب استقرار الأسعار مما شجع على مزيد من الاستيراد مع ثبات قدراتنا التصديرية في حدود 56 مليار دولار، حيث ليس هناك أي تطور في حجم الصادرات خارج المحروقات ولكن زيادة واردات الحبوب تعتبر مؤشرا سلبيا ومقلقا عن اتجاه السياسة الفلاحية في البلاد. كما أن اللافت في سنة 2011 هو انعقاد الثلاثية مرتين وتراجع الحكومة عن شرط الدفع المستندي عند التحويل لغرض التجارة الخارجية مما يؤكد هشاشة القرارات الاقتصادية للحكومة، وعموما فإن زيادة «السميغ» أي الحد الأدنى للأجور ب 3000 دج لم يكن حدثا مهما من زاوية نظر الطلب الداخلي على الرغم من تأثيره الكبير في موازنة 2012، والمطلوب الآن هو الضغط على التضخم وتكاليف المعيشة وليس رفع السيولة في كتلة الأجور. أصدرتم مؤخرا كتابا بعنوان «حريق الجسد» الذي يتطرق إلى وضعية الاقتصاد الجزائري بين سنوات 2008 و2011، ما هي الخلاصة التي خرجتم بها من خلاله؟ الاقتصاد الوطني يعيش على الريع، لكن الثروة لازالت متواضعة بحيث لا تساهم الصناعة بأكثر من 5 بالمائة في الناتج الداخلي الخام، والفلاحة فقط 8 بالمائة والباقي كله خدمات ومحروقات وأشغال كبرى وبناء أي الاستثمار الحكومي. أما عدد المؤسسات المنتجة في البلد لا يزيد عن 300 ألف، وهذا قليل جدا في دولة عدد سكانها 39 مليون نسمة وتتحمل 10 مليون مؤسسة، كما أن البطالة زادت ب 10 بالمائة حسب مصادر حكومية وب 20 بالمائة حسب مصادر مستقلة، ما يعني أن الاقتصاد الجزائري لايزال بعيدا عن التشغيل الكامل، كما أن فائض احتياطي الصرف الذي وصل إلى 210 مليار دولار يدل على أن الاقتصاد الوطني يتجه إلى الادخار أكثر مما يتجه إلى الاستثمار. ومن جانب آخر، فإن حجم الواردات المقلق يضعنا أمام مستقبل مجهول في حالة تطور الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو، حيث أن ما هو المطلوب الآن إطلاق وزارة للاقتصاد تتكفل بوضع الاقتصاد الوطني على سكة التنمية عبر استراتيجية حقيقية للنمو المستديم المبني على الثروة والإنتاج وليس على المحروقات. برأيكم..ما هي المخططات التنموية الواجب اتباعها في ظل التغيرات التي طرأت على المجتمع الجزائري، وفي ظل ما تشهده بلدان مجاورة وشقيقة؟ قبل المخطط يجب التفكير في استراتيجية فك الارتباط بالنفط وبالسوق الخارجية أي استراتيجية حفز النمو بحفز الموارد المحلية، حيث أن هناك أربعة قطاعات مرشحة لدعم الاقتصاد الوطني والمطلوب الاستثمار فيها بكل قوة، وهي تتمثل في الصناعات الغذائية لتحقيق الأمن الغذائي، الصناعات البتروكيمياوية بسبب المزايا التنافسية للجزائر في مجال المحروقات، الصناعات الميكانيكية والالكترونية والكهربية بسبب القاعدة الصناعية الجزائرية الموروثة عن حقبة السبعينات وأخيرا صناعة المعلومات بسبب الموارد البشرية المؤهلة في الجزائر. توقعتم حسب تصريحات سابقة لكم أن الاقتصاد الجزائري سيتأثر بشدة بسبب أزمة منطقة اليورو، وذلك لارتفاع أسعار المواد الغذائية، تزايد الأعباء الجبائية وتراجع المشاريع الاستثمارية، هل ترون أن الجزائر مقبلة على فصل جديد من مسلسل الاحتجاجات ولهيب الجبهة الاجتماعية؟ الاحتجاجات نعم ستتواصل بسبب القيود الفنية على قدرة الحكومة في الاستجابة عن طريق ضخ السيولة كما فعلت في 2011، كما أن الموارد محدودة والآثار الحقيقة لأزمة اليورو كما توقعت تبدأ بعد الشتاء أي بعد مرحلة الطلب على طاقة التدفئة. ولذا مازلت أقترح تحويل احتياطي الصرف إلى استثمارات حقيقية في الفروع التي ذكرتها وخاصة في المنتجات ذات الطلب الداخلي الواسع. كيف يمكن للحكومة الجزائرية التعامل مع الوضع المرتقب؟ ليس هناك حلول سحرية في الاقتصاد بل حلول منطقية، من وجهة نظري نحن بحاجة إلى وزارة للاقتصاد وإلى حكومة تقنوقراط ذات خلفية اقتصادية بسبب الترابط الشديد بين الجبهة الاجتماعية وهشاشة الاقتصاد الوطني واتجاهات الإصلاحات السياسية. على المدى القصير يجب تثمين أفضل للموارد المتاحة لصالح المؤسسة المنتجة وفي المدى المتوسط والبعيد يجب الإجماع على استراتيجية صناعية للبلاد تقوم على خفض الواردات، رفع الصادرات خارج المحروقات والتشغيل والتنمية الجهوية. كانت البلديات خلال مختلف الاحتجاجات المقصد الأول لصب جام الغضب الشعبي، كيف تقيمون أداء السلطات المحلية في الجزائر، وهل ترون أنها عجزت في تجسيد البرامج التنموية بما يكفل العيش الكريم للمواطن؟ لا يمكن أن نتحدث عن فعالية المجالس المحلية في نظام سياسي يعطي القرارات المهمة للإدارة أي للحكومة، حيث أن الوالي في الجزائر هو المقرر الحقيقي وفي غالب الأحيان تصطدم الخيارات المحلية مع بطء وثقل الإدارة الشيء الذي يفسر لنا ضعف التنمية المحلية. أظن أنه من المناسب الآن إتباع سياسة القرارات اللامركزية وليس السياسات المركزية، حفز الجباية المحلية من خلال الاستثمارات ذات الطابع المحلي وإطلاق شبه حكومات محلية في شؤون التنمية والأسواق والاقتصاد. ما هي نظرتكم لسياسة السكن في الجزائر بما أن مشكل السكن كان السبب الرئيسي في كثير من الاحتجاجات التي شهدتها الجزائر خلال العام 2011، وما هي اقتراحاتكم في هذا المجال؟ لو قمنا بإحصاء السكنات الشاغرة في الجزائر لوجدنا مليون شقة شاغرة وهذا يكفي لإسكان جميع فئات الشعب، ولو حررنا سوق الإيجار ونظمناه لأمكن فتح قطاع الإيجار السكني للجميع وبأسعار منخفضة، ولو عالجنا مشكل العقار في الولايات لاستطعنا دعم الترقية العقارية بتكاليف أقل، ولو حررنا مواد البناء من المضاربة والاحتكار لأمكن خفض تكاليف البناء ب 25 بالمائة على الأقل، لكن الحكومة الآن تبقى معتمدة على ميزانية الدولة وهذا مناسب في حال التوازنات المالية للبلاد ولكن الأمر يختلف في حال ضعف الميزانية، لذا من الأحسن العمل على تشجيع الترقية العقارية للخواص. أخيرا، ما هي توقعاتكم بما ستخرج به لجنة التحقيق في أسعار المواد الغذائية؟ في اقتصاد مبني عن الاحتكار لا يمكن الحديث عن تحقيقات جدية، كما أن ترتيب دولة في المراتب المتأخرة على سلم الفساد لا يسمح بإنتاج حلول جذرية لمشكلات الفقر والبطالة، وأتصور أن تطهير الاقتصاد من ممارسات الغش والتهرب والفساد يبدأ مع وضع تقاليد الحكم الصالح موضع التنفيذ أي انتخابات نظيفة وتعيينات في المناصب العليا على أساس الكفاءة وليس الاعتبار الحزبي أو المجاملات وهذا رهان آخر أمام الجزائر خلال الفترة القادمة.