تصفحت حوارا مطولا أجرته جريدة الجمهورية الجزائرية مع الأستاذ الدكتور مولود قاسم نايت بلقاسم – رحمة الله عليه – بتاريخ 13/07/1985 ، و أختصر سيرة الرجل أنه كان يَكتب و يُحاضر بخمس لغات ( العربية ، الفرنسية ، الانجليزية ، الألمانية ، و السويدية ) ، و معرفة أقل و متفاوتة بأكثر من عشر لغات أخرى ( يونانية ، لاتينية ، جرمانية ، سلافية ، و لغات رومانية أخرى ، و صدق والده حين قال عنه حينذاك و هو صغير" إني أخاف عليه من كثرة القراءة " ، و فعلا نضج فكره مبكرا و أصبح منبرا جاذبا للمنابر الفكرية يسيل بالحكم و الرؤى الثاقبة فهو القائل : إن الأمة التي لا تحافظ على الأساس و الأصل ، لن يكون لها في التاريخ فصل ، تدخل المعارك بلا نصل ، و لا تربطها بالأصل همزة وصل ، ثم يتساءل بعد ذلك : إلى أين يا أمة الإسلام ؟ إلى نهاية الإسلام ؟ أهادفة و غائية ، أم تبعية ثغائية ببغائية ؟ . الحوار نشطه الصحفي عبد الحميد عبيدي و نشر في ست حلقات ، و جُمع مع عديد حوارات أستاذنا في كتاب شيق للأستاذ أحمد بن نعمان بعنوان : مولود قاسم نايت بلقاسم ، حياة و آثار ، شهادات و مواقف ، نختزل منه هذا المعبر الممتع بتفسير الصيغ اللفظية. المحَاوِر للأستاذ : استعملتم ثلاثة مفاهيم حول تاريخ الدولة الجزائرية. 1- نشأة الدولة الجزائرية 2- بعث الدولة الجزائرية 3- استرجاع استقلال الدولة الجزائرية فهل استعرضتم رأيكم حول هذه الألفاظ الثلاثة ؟ مولود قاسم : بمناسبة ذكرى الأمير عبد القادر ، خربش مخربشون و ثرثر مثرثرون في الصحافة و الاذاعة و التلفزة الجزائرية : إن الأمير عبد القادر أنشأ أول دولة جزائرية حديثة ، هذا خطأ لأن الأمير عبد القادر لم ينشء هذه الدولة ، و إنما بعثها لماذا بعثها ؟ لأنها كانت موجودة ، انهارت سنة 1830 ، و هو بعثها من جديد إلى الوجود سنة 1832 ، أي سنتين بعد ذلك نعم ، بعد مبايعته في جامع البيعة في معسكر. وعندما نقول أن الأمير عبد القادر أنشأ الدولة الجزائرية الحديثة ، فمعنى ذلك أنه قبل سنة 1832 لم تكن هناك دولة جزائرية . و هذا يعني محو الدولة الجزائرية في العهد العثماني ، التي دامت ثلاثة قرون و 15 سنة تقريبا ، و معنى هذا –أيضا- إلغاء حوالي قرنين من عمر الدولة الزيانية الجزائرية ، التي كانت عاصمتها تلمسان ،كما تعلمون . فالعصر الحديث يبتدئ سنة 1453 م ، و هي السنة التي فتح فيها المسلمون اسطنبول ( القسطنطينية ، الآستانة ) ، على يد محمد الفاتح ، ذلك الصنديد الكبير (نحن نقول فتح القسطنطينية ، و النصرانية ، و الصهيونية تقولان سقوط القسطنطينية ).من تلك السنة يبتدئ العصر الحديث ، و تنتهي القرون الوسطى (بالنسبة إلى أوروبا ، طبعا ، أما بالنسبة إلينا فقد كانت النور و الازدهار ). وعندما نقول نحن " ان الأمير عبد القادر أسس الدولة الجزائرية الحديثة " فمعنى هذا أننا ظللنا منذ سنة 1453 ونحن بدون دولة ! ، أقول : لا ، هذا تزوير للتاريخ ، يؤكد الدعاية الاستدمارية الفرنسية ، و لذا أقول أن الأمير عبد القادر لم ينشء الدولة الجزائرية الحديثة ، و إنما بعثها ، حيث زالت لمدة سنتين : 1830-1832 ، فأعادها ، و بعثها من جديد ، عندما استلم المقاليد بيديه ، و قاد المقاومة الشعبية ، ففي سنة 1832 بدأ مقاومته هو ، و بعث دولتنا ،جميعا ، طبعا سنة 1832 . أما الدولة الجزائرية العثمانية التي وضع لها الغزو الفرنسي حدا يوم 05 جويلية 1830 ، فكانت منذ 1516 و قبلها كانت الدولة الزيانية منذ الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي ، ، أي أنه كانت لدينا دولة في العصر الحديث منذ الدولة الزيانية نفسها في منتصف قرنها الثالث ، أي ما قبل الأخير ، فضلا عن الدولة الجزائرية العثمانية التي بدأت سنة 1516 ، و لذا فلا يجوز لأحد أن يقول أن "دولة الأمير عبد القادر هي أول دولة جزائرية حديثة " ، لأن معنى هذا هو أننا نمحوا أربعة قرون تقريبا من تاريخنا ، و نضرب عنها صفحا ، و نعزز بهذا دوغول و أصحابه و نساند نظريتهم ، و ندعم زعمهم ، و نؤكد ادعاهم و تزييفهم للتاريخ ، و تحريفهم لماضينا ، هذا هو الفرق بين الإنشاء و البعث ، بالنسبة لدولة الأمير عبد القادر ، و عموما ، بالنسبة لأية دولة ،لأن الإنشاء يكون من العدم ... فالدولة الجزائرية الحديثة كانت موجودة قبل الدولة الجزائرية العثمانية ، فضلا عن دولة الأمير عبد القادر ، أي منذ الدولة الزيانية ، و منذ بداية العصر الحديث سنة 1453م ، و إنما الدولة الزيانية انتهت بصفة رسمية سنة 1516م ، بالنسبة إلى عموم القطر ، و فيما بعد بقليل بالنسبة إلى تلمسان و ضواحيها . و على كل حال قبل سنة 1554م ، و لكنها منذ 1453م و هي حديثة ، فالدولة الجزائرية الحديثة بدأت إذن سنة 1453م مع السنة الأولى من بداية العصر الحديث و الأمير عبد القادر بعثها ، و لم ينشئها سنة 1832م ، بعد أن وضع لها الغزو الفرنسي حدا سنة 1830 ، ثم بعثتها من جديد جبهة التحرير الوطني ، بعد الأمير عبد القادر. أما بالنسبة إلى الاستقلال و الحرية ، و استرجاع الاستقلال ، فالفرنسيون و بعض القوم التبع عندنا ، عن وعي أوغير وعي ، يكتبون : " الجزائر استقلت سنة 1962 ، حصلت على استقلالها سنة 1962 ، نالت استقلالها سنة 1962 " . أنا أقول : " استرجعت و استعادت استقلالها سنة1962 " ، و ليس نالت و لا حصلت و لا حتى انتزعت استقلالها ، استرجعت ، بعد أن انتزع منها ، لأنها كانت مستقلة قبل ذلك ، فقدت استقلالها يوم 05 يوليو 1830 ، ثم استعادته و استرجعته يوم 05 يوليو سنة 1962 ، لأن قولك :" أن الجزائر استقلت سنة 1962 " معناه أن الجزائر قبل هذا التاريخ لم تعرف أبدا الاستقلال لم تكن أبدا مستقلة ، و لم تكن أبدا دولة ، و لم تكن أبدا أمة ، و هذا يدعم الدعاية الاستدمارية المعنتة ، المصرة على التزييف و التحريف. هذا هو الفرق بين هذه الصيغ ، إذن : حصل على الاستقلال ، و استرجع الاستقلال ، و بين بعث الدولة الجزائرية أو إنشاء الدولة الجزائرية .فالدولة الجزائرية كانت موجودة منذ ماسينيسا ، بل منذ أجداده ، منذ العصر القديم ، قبل الميلاد و كانت متوالية في العصور الاسلامية المتعاقبة .من الدولة النوميدية التي أسسها أجداد ماسينيسا إلى توقفها بعد مقتل يوغورطا سنة 104 قبل الميلاد ثم جاءت الدولة الاسلامية حيث كنا جزءا من الدولة الاسلامية في عهد الخليفة الراشد الرابع –رضي الله عنه- ، ثم في العهدين الأموي و العباسي ، حيث تأسست الدولتان الرستمية ثم الزيرية ، ثم جاءت الدولة الحمادية ، ثم الدولة الزيانية ، ثم الدولة الجزائرية العثمانية ثم دولة الأمير عبد القادر ، و هي كلها دول جزائرية متعاقبة ، فإذا قلنا أن الأمير عبد القادر هو الذي أنشأ الدولة الجزائرية فهذا يعني أننا قبل ذلك لم تكن لنا دولة في العصر الحديث منذ 1453م ، و هذا نفس ما ادعاه دوغول ، و جيسكار ديستان ، و إدغار فور ،و ميشيل جوبير و آخرون . وعكسا لكل ادعاءات المستدمرين، و على رأسهم دوغول ، كانت الدولة الجزائرية منذ ما قبل المسيح بقرون ، قبل الدولة الفرنسية نفسها بقرون ، و استمرت كذلك على مختلف عهودها ، و هي دائما تزول مدة ثم تبعث من جديد ، لهذا نجد جبهة التحرير الوطني عندما كونت حكومتها المؤقتة يو 19 سبتمبر 1958 ، سمتها " الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية " ، و قالت في إعلان تكوينها " إن هذه الحكومة القصد منها إعادة إحياء أو بعث الدولة الجزائرية من جديد " و ليس إنشاء الدولة الجزائرية من العدم ، من نقطة الصفر ، من صفحة بكر ، بيضاء . توقفت الدولة الزيانية الجزائرية الحديثة سنة 1516 ، بنشأة الدولة الجزائرية العثمانية الحديثة في تلك السنة التي دامت حتى سنة 1830 ، ثم تلتها دولة الأمير عبد القادر الحديثة سنة1832 حتى سنة 1847 ، ثم أحيتها من جديد جبهة التحرير الوطني بتكوين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الحديثة ، و باسترجاع الجزائر استقلالها ، الذي اعترف به الجنرال ديغول و العالم يوم 03 يوليو 1962 ، ثم بعث الدولة الجزائرية الحديثة الخامسة بإعلان الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية ، و هي فعلا ، نعم ، الدولة الجزائرية الحديثة الخامسة منذ سنة 1453 م.