من الواضح أن هناك الكثير ممن يعتبر أن الزعيم الليبي معمر القذافي جرى التأمر عليه والقضاء على نظامه لأسباب تتعلق بنشر الديمقراطية والحرية ولأطماع غربية في الثروة النفطية الليبية إلا أن الحقيقة هي في غير ذلك، بل هي في أن العقيد القذافي أراد أن يطبق الأفكار التي بدأ بها الجنرال الفرنسي شارل ديغول حين أعلن في الستينات من القرن الماضي الحرب على العملات الورقية بعد أن استمع إلى طرفة تقول أن لوحة من لوحات الفنان روفائيل عرضت للبيع فدفع الإعرابي ثمنها نفطا ودفع الروسي مقابلها ذهبا ولم يحصلا عليها بينما دفع الأمريكي رزمة بقيمة عشرة آلاف دولار فكانت من نصيبه. القذافي يجدد طرح فكرة ديغول وحين علم ديغول بأن هذا المبلغ لا يتعدى في نهاية المطاف قيمة 3 دولارات إذ أن القيمة الحقيقية للعملة الأمريكية من فئة 100 دولار تساوي ثلاثة سنتات فقط صرح حينها أن فرنسا سوف تتخلى عن تداول الأوراق المالية الخضراء وستعود في حساباتها الدولية إلى التعامل بالذهب. وقد فكرت دول أخرى بالمعيار الذهبي أيضا إذ أن الزعيم الليبي معمر القذافي كان المبادر الأساسي في الابتعاد عن الدولار في الحسابات الدولية داعيا الدول العربية والإفريقية إلى التخلي عن التعامل به وإلى اعتماد عملة موحدة جديدة مبنية على الدينار الذهبي. وكان القذافي قد عزم على إصدار العملة الجديدة منفردا معتمدا بذلك على الإحتياطي الذهبي الليبي فقط كي ينتهي كما قال هو "من إطعام الدجاليين الورقيين" واقترح القذافي على أساس هذه العملة الجديدة الموحدة تشكيل دولة عربية إفريقية موحدة يزيد تعداد سكانها عن 200 مليون نسمة. وأيد الكثيرون من قادة البلدان العربية (مصر والسودان وتونس واليمن وغيرها) وغالبية البلدان الإفريقية هذه الاقتراحات التي أثارة حفيظة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وشكلت لديهم ردود فعل سلبية جدا ما دفعهم للتقارب مع الزعيم الليبي وإقناعه بالتخلي عن هذه الأفكار إلا أنه لم يغيير رأيه وبقي صامدا إلى أن تسارعت الأحداث واعلنت الحرب على ليبيا تحت غطاء حماية حقوق الإنسان الليبي ومحاولة انتزاع النفط من الزعيم القذافي. إلا أن حقيقة العدوان على ليبيا هي في أن العقيد القذافي حاول تكرار ما بدأ به الجنرال ديغول بالخروج من منطقة العملات الورقية وبالعودة إلى الأساس الذهبي للعملات أي أنه حاول الاعتداء على أقدس المقدسات لدى العالم المعاصر ألا وهو مصالح المنظومة البنكية العالمية. دول أخرى تعيد طروحات القذافي ولم يكن القذافي الوحيد الراغب في اعتماد معدن الذهب أساسا للعملة الوطنية بل أخذ أصحاب البنوك السويسرية يهتمون بالذهب فقد جرى في العام 2011 طرح مبادرة برلمانية في المجلس الوطني السويسري حول إدخال وحدة نقدية إضافية وهي "الفرنك الذهبي" إلى التداول ليكون عملة عامة قادرة على حماية الفرنك الورقي من حمى شراء المستثمرين الأجانب للفرنك السويسري في حال الهبوط الحاد في قيمة الدولار أو اليورو. ويزداد اليوم التوجه نحو العودة إلى الأساس الذهبيى حتى في أمريكا ففي ولاية يوتا الأمريكية تم الاعتراف في العام 2011 بقانونية تداول سبائك الذهب والفضة والمعادن الثمينة الأخرى كعملة قابلة للتسديد كما تنوي عدة ولايات أخرى منها كارولينا وكانزاس الانضمام إلى هذه المبادرة إذ من الهام جدا أن يكون لدى المواطنين حرية اختيار العملة المغايرة كليا كون المنظومة المالية العالمية اليوم مبنية على الاستحقاقات الإئتمانية أي أنها مبنية على لا شيئ وعلى العالم أن يدرك ذلك. ويرى خبراء أن هذه التدابير التي قد تعتبر إجراءات شكلية إلا أنها تدل في الوقت ذاته على فقدان الثقة لدى الأمريكيين بالعملة الورقية "الدولار" المترنحة والسياسة المالية العرجاء للولايات المتحدة لذلك تلجأ منظومة الاحتياطي الفيدرالية والبنوك المركزية في العالم بهدف القضاء على هذه الرغبة باستخدام الذهب والمعادن الثمينة في التداول النقدي إلى خفض قيمة الذهب بشكل متعمد كي لا تتمكن المعادن الثمينة من منافسة الدولار الورقي. ويعتبر فقدان الوسائل الأمينة لحماية قيمة الحياة من إحدى معضلاتها الاقتصادية المعاصرة كما تفقد العملات الورقية هذه الميزة بشكل واضح وعلى مدى ما يقارب من ألفي سنة تقريبا وحتى قبل 40 - 50 سنة مضت كان الذهب يعتبر أهم وسيلة للإدخار وعملة قابلة للتبادل. أمريكا تصدر التضخم إلى الدول النامية ولكن اليوم يجري تبادل البضائع وفقا لعملة تفقد قيمتها يوميا بالتدريج ويأتي هذا الوضع في صالح الأغنياء الذين يهيمنون على الأنشطة المالية العالمية التي يبلغ حجمها 250 ترليون دولار أي تزيد نسبتها عن حجم الناتج الاجمالي المحلي العالمي ب360 بالمائة منه بمعنى آخر إن حجم الذهب المستخرج في العالم كله لا يزيد عن 170 ألف طن تقريبا وأن قيمته الحالية لا تتعدى 7 ترليون دولار ما يدل على أن القسم الأعظم من رؤوس الأموال في العالم لا قيمة حقيقية لها في واقع الأمر وعلى أن المنظومة المالية العالمية مبنية على حجم هائل من الديون. ومن جهة أخرى يطبع المنظم المالي الأمريكي سنويا واحد ترليون دولار لتغطية العجز في الميزانية ولدعم التوازن المصرفي في البلاد وخشية من التأثير سلبا على سعر الدولار وإيجابا على سعر الذهب تقوم منظومة الاحتياطي الفيدرالية ببيع الذهب عبر المؤسسات المالية المستفيدة الثلاث (جي بي ومورغان وغولدن ساكس) بواسطة شراء سندات ذهبية تستبدل بسبائك ذهبية بأسعار مخفضة ثم تباع هذه السبائك في السوق الآسيوية محققة بذلك أرباحا خيالية من جهة وحامية الدولار من المخاطر المحيقة به من جهة أخرى. إن استصدار العملة الأمريكية بهذه الكميات الهائلة لا يمكن أن يستمر إلى الأبد ولابد من أن يفجر التضخم الجاري اليوم في قيمة الدولار والذي مازالت الولاياتالمتحدة تتمكن من التحكم به عن طريق تصديره إلى الدول المتعاملة بالدولار وخصوصا النامية منها ما يدل على أن هناك تنافس جار بين الغرب الذي يعتمد على العملة الورقية والشرق الذي يحاول الاستناد إلى الذهب ولا شك أن هناك نخبة في الغرب تدرك تماما أن تدمير الدول التي تحاول حماية ثرواتها لن يمنع شمس العملة الورقية من الأفول.