بقلم: جوزيف س. ناي تُرى هل تنغلق الولاياتالمتحدة على نفسها وتصبح انعزالية؟ طُرِح هذا السؤال عليّ من قِبَل عدد من زعماء عالم المال والسياسة في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير في دافوس، ثُم سمعت السؤال نفسه مرة أخرى بعد بضعة أيام في مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي. وفي كلمة قوية ألقاها في دافوس أعطانا وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إجابة لا لبس فيها: (إن أمريكا أبعد ما تكون عن الانسحاب وفك الارتباط، بل هي فخورة بأن تكون أكثر انخراطاً ومشاركة من أي وقت مضى). ولكن السؤال ظل باقيا. خلافاً للمزاج في دافوس قبل بضع سنوات، عندما تصور العديد من المشاركين بالخطأ أن الركود الاقتصادي انحدار أمريكي طويل الأجل، فإن الرأي السائد هذا العام كان أن اقتصاد الولاياتالمتحدة استعاد الكثير من قوته الأساسية. وركز أصحاب النظرة المتشائمة إلى الاقتصاد بدلاً من ذلك على أسواق ناشئة مألوفة سابقاً مثل البرازيل وروسيا والهند وتركيا. الواقع أن الانزعاج الشديد إزاء انعزالية الولاياتالمتحدة حركته أحداث أخيرة. فبادئ ذي بدء، هناك رفض أمريكا (حتى الآن) للتدخل العسكري في سوريا. ثُم هناك انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان قريبا. وقد خَلَّف إلغاء الرئيس باراك أوباما لرحلته إلى آسيا في الخريف الماضي، بسبب الجمود السياسي في الكونغرس الأمريكي وما نتج عنه من التعطيل المؤقت للحكومة، انطباعاً رديئاً لدى زعماء المنطقة. ومع تركيز كيري لوقته ورحلاته على الشرق الأوسط، بات العديد من الزعماء الآسيويين يعتقدون أن السياسة الخارجية بتوقيع أوباما (إعادة التوازن) الإستراتيجي نحو آسيا استنفدت وقودها، حتى برغم تصاعد التوتر بشكل مستمر بين الصين واليابان والذي تجلى في تصريحات زعماء البلدين في دافوس. كان التصرف الأكثر فظاظة من منظور (دافوس) هو رفض الكونغرس الموافقة على إصلاح صندوق النقد الدولي وإعادة تمويله، حتى برغم الموافقة على الخطة التي لم تُضِف عبئاً كبيراً إلى أعباء دافعي الضرائب الأمريكيين قبل سنوات من قِبَل مجموعة العشرين بقيادة أوباما. وعندما سألت أحد أعضاء مجلس الشيوخ البارزين عن سبب تراجع الكونغرس عن الالتزام بتعهد أمريكي، أرجع الأمر إلى (المشاكسة المحضة)، وهو ما يعكس مزاج الجمهوريين في حزب الشاي اليميني وبعض الديمقراطيين اليساريين. وبوسعنا أن نستشف المزيد من الأدلة التي تؤكد الانعزالية الأمريكية من استطلاع أخير للرأي أجراه مركز بيو للبحوث ومجلس العلاقات الخارجية. ووفقاً لاستطلاع الرأي فإن 52% من الأمريكيين يعتقدون أن الولاياتالمتحدة (لابد أن تهتم بشؤونها الخاصة على المستوى الدولي وأن تترك للدول الأخرى أن تتدبر أمورها على أفضل نحو في إمكانها بنفسها). وقال الرقم نفسه تقريباً إن الولاياتالمتحدة أصبحت (أقل أهمية وقوة) مما كانت عليه قبل عشر سنوات. والمشكلة في هذه التصورات سواء في الداخل أو الخارج هي أن الولاياتالمتحدة تظل الدولة الأكثر قوة على مستوى العالم، ومن المرجح أن تظل كذلك لعقود من الزمان. ويكاد يكون من المؤكد أن حجم الصين وسرعة نمو اقتصادها من الأمور التي ستزيد من قوتها النسبية في مواجهة الولاياتالمتحدة. ولكن حتى عندما تصبح الصين الدولة صاحبة أضخم اقتصاد على مستوى العالم في الأعوام المقبلة فإنها سوف تظل على بُعد عشرات السنين خلف الولاياتالمتحدة من حيث نصيب الفرد في الدخل. وعلاوة على ذلك، فحتى إذا لم تتعرض الصين لنكسة سياسية محلية كبرى فإن التوقعات القائمة على نمو الناتج المحلي الإجمالي وحدها تتسم بأحادية البُعد وتتجاهل المؤسسة العسكرية في الولاياتالمتحدة والمزايا التي تمنحها إياها قوتها الناعمة. وتتجاهل هذه التوقعات أيضاً العيوب الجيوسياسية التي تعاني منها الصين داخل آسيا. إن ثقافة أمريكا القائمة على الانفتاح والإبداع سوف تضمن دورها كمركز عالمي في عصر حيث تعمل الشبكات على تكميل السلطة الهرمية، إن لم تكن تحل محلها بالكامل. والولاياتالمتحدة في وضع يسمح لها بالاستفادة من مثل هذه الشبكات والتحالفات، إذا انتهج القادة الأمريكيون استراتيجيات ذكية. ومما يشكل أهمية كبرى من الناحية البنيوية أن الكيانين اللذين يضارعان اقتصاد الولاياتالمتحدة ونصيب الفرد فيها في الدخل أوروبا واليابان حليفان لأمريكا. وعندما نتحدث عن موارد ميزان القوى فإن هذا من شأنه أن يعزز موقف أمريكا الصافي، ولكن ليس من دون حفاظ قادة الولاياتالمتحدة على هذه التحالفات وضمان التعاون الدولي. إن الانحدار وصف مضلل لأمريكا اليوم، ومن حسن الحظ أن أوباما رفض الاقتراح القائل بأنه لابد أن يتبنى استراتيجية تهدف إلى إدارة ذلك الانحدار. وخلافاً لروما القديمة فإن الولاياتالمتحدة، بوصفها زعيمة في البحث والتطوير والتعليم العالي والنشاط التجاري، ليست في انحدار مطلق. ونحن لا نعيش في (عالم ما بعد أمريكا)، ولكننا أيضاً لم نعد نعيش في (العصر الأمريكي) في أواخر القرن العشرين. وفي العقود المقبلة سوف تكون الولاياتالمتحدة (الأولى) ولكنها لن تكون (الوحيدة). ويرجع هذا إلى حقيقة مفادها أن موارد القوة لدى العديد من الكيانات الأخرى الجهات الفاعلة سواء من الدول أو غير الدول آخذة في النمو، ولأنه في عدد متزايد من القضايا سوف يتطلب تحقيق النتائج الأمريكية المفضلة ممارسة القوة مع الآخرين وعلى الآخرين بنفس القدر. وسوف تشكل قدرة قادة الولاياتالمتحدة على الحفاظ على التحالفات وإنشاء الشبكات بُعداً مهماً في تعزيز قوة أمريكا الصارمة والناعمة. والمشكلة التي تواجه قوة الولاياتالمتحدة في القرن الحادي والعشرين ليست الصين فحسب، بل وأيضاً (صعود بقية القوى). والحل ليس العزلة، بل انتهاج استراتيجية الانتقائية على غرار ما دعا إليه الرئيس دوايت أيزنهاور في خمسينيات القرن العشرين. وتبدأ استراتيجية القوة الذكية بالتقييم الواضح للحدود. فالقوة المتفوقة ليست مضطرة إلى مراقبة كل الحدود واستعراض قوتها في كل مكان. وهذا هو السبب الذي جعل أيزنهاور يقاوم بحكمة التدخل المباشر على الجانب الفرنسي في فيتنام في عام 1954. وكان أيزنهاور محقاً بشأن أمر آخر أيضا: وهو أن القوة العسكرية التي تتمتع بها الولاياتالمتحدة تعتمد على الحفاظ على قوتها الاقتصادية. وبناء الأمة في الداخل ليس الانعزالية التي يخشاها المنتقدون، فهي على العكس من ذلك تشكل أهمية بالغة للسياسة الخارجية الذكية. والاستراتيجية الذكية تتجنب توريط قوات برية في حروب كبرى على القارة الآسيوية. غير أن مثل هذا التوجه الحكيم ليس كمثل الانعزالية. فالولاياتالمتحدة تحتاج إلى الجمع بين موارد قوتها الناعمة وقتها الصارمة بشكل أفضل. وكما قال أوباما في خطاب حالة الاتحاد في عام 2014: (ففي عالم يتسم بتهديدات معقدة، يعتمد أمننا على كافة عناصر قوتنا بما في ذلك الدبلوماسية القوية القائمة على المبادئ). ولعل أيزنهاور كان ليقول نفس الكلام دون أن يتهمه أحد بالانعزالية.