بقلم: جميل مطر لا شيء يعادل متعة مناقشة موضوع صعود الإنسان وانحداره سوى مناقشة موضوع صعود الأمم وانحدارها. بعيدا عن النظريات، وبعضها يعود إلى قرون خلت، تعددت فى الآونة الأخيرة الخلافات بين المفكرين الأمريكيين وترددت الإتهامات المتبادلة حول ما إذا كانت أمريكا أمة انحدرت، أم أمة متوقفة تلتقط الأنفاس لتستأنف الصعود. تيار يتهم الإنحداريين، بأنهم يعكسون فى كتاباتهم توجهات (طبقة ثرثارة) وتيار يتهم المتفائلين دوما والواثقين بدون تردد بأنهم متعصبون وخياليون، بل وأنهم بتطرفهم يتسببون فى أن يكون الإنحدار الذى ينكرونه أسرع والعواقب وخيمة. لم يدرك الرئيس أوباما أن إصراره على التأكيد بأن أمريكا بخير ولا صحة لما يقال عن انحدارها سيزيد نار الخلافات الفكرية فى المجتمع الأمريكى اشتعالا. خرج مثلا إدوارد لوس الإعلامي المعروف وكبير المحررين فى صحيفة فاينانشيال تايمز بكتاب بعنوان (حان وقت البدء فى التفكير.. أمريكا وسمعة الإنحدار)، حلل فيه مظاهر التدهور التى شابت مختلف أوجه الحياة فى أمريكا. كتب عن (نظام سياسي يقف على طريق مسدودة، وثقافة سياسية حقودة الطابع والسلوك، وتشوهات اقتصادية ومالية تسببت فيها انحرافات فى أسواق مال ومصارف وسياسات وول ستريت الخرقاء، وقلة كفاءة التعليم الإبتدائي والثانوي، ومرافق عامة متدهورة وأيدلوجية معادية للعلم). يناقش لوس فى كتابه وفي مقالات نشرها فى الصحيفة التي يعمل لحسابها حال أمة انتشرت فيها كازينوهات القمار، وتعاني أجهزتها للرعاية الاجتماعية والصحية من صعوبة مواجهة الأمراض الاجتماعية والعقلية والجسمانية الناتجة عن زيادة عدد المواطنين الذين يمارسون القمار. ويعيد تأكيد دعاوى اليسار، بخاصة ما يتعلق منها بسوء توزيع الدخول والاتساع الرهيب فى الفجوة بين الأغنياء والفقراء. مجتمع المليونيرات أصبح مجتمعا للبليونيرات، بينما انخفضت بشدة دخول الطبقة الوسطى وهي الطبقة التى تدفع الآن الثمن الأكبر للإنحدار الأمريكى، بل إنها بما أصابها من إفقار أصبحت هي نفسها عاملا من أهم عوامل توالي الإنحدار. يعتقد لوس أن أخطر ما في قضية الإنحدار هو أن كثيرا من المسؤولين الأمريكيين لا يدركون مدى خطورة الوضع الذى آلت إليه الأحوال الأمريكية وأن الإنحدار مسألة تستحق أن تحظى بأولوية اهتمام القادة الذين لا يتوقفون عن رفض كل إشارة إلى الإنحدار، ومنهم الرئيس أوباما. إيان بريمر، كاتب آخر لا يقل شهرة، يصدر له كتاب بعنوان (كل أمة لنفسها) ينعى فيه نهاية الولاياتالمتحدة كدولة عظمى والمهيمن الوحيد، ولكن في الوقت نفسه يحذر من وضع دولي يخلو من القيادة الدولية. ففي غياب أمريكا لن توجد G8 أو G20 أو G2 (الصين وأمريكا). سيكون هناك ما يمكن أن يطلق عليه G Zero. عالم بلا قيادة أي عالم الفوضى، ما لم تسارع أمريكا بالنهوض مجددا. تتراوح ردود الطرف الآخر، أي الطرف الرافض لطرح المتشائمين والانحداريين، بين ردود سطحية وانفعالية وردود حادة صادرة عن اقتناعات أيديولوجية أو سياسية. يرد أحد الكتاب على لوس مستغربا تجاهله لحقيقة أن أمريكا التى يزعم أنها تنحدر أخرجت للبشرية جوجل والفيس بوك وبحوثا علمية رائعة وتكنولوجيا للفضاء وجامعات هي الأفضل في العالم. يقول مارك ، إن القوة الناعمة الأمريكية ما زالت تلعب دورا مؤثرا في المحافظة على مكانة أمريكا، وإن التنبؤ بانحدار أمريكا مسألة مألوفة منذ عام 1979 حين تنبأ إيزرا فوجل، الأستاذ الشهير في جامعة هارفارد، بسقوط أمريكا عندما أصدر كتابه ذائع الصيت (اليابان الدولة رقم 1). ردود أخرى تستحق التأمل ثم التعمق. كتب والتر راسيل ميد، الأستاذ بكلية بارد والكاتب المرموق يقول: إن (جماعة في أمريكا تصورت خطأ وبدون تدقيق كاف أن عملية التغيير التى يشهدها توازن القوى الدولي في الوقت الراهن تعنى انحدار أمريكا). يجد ميد لهذه الجماعة بعض العذر، إذ أنها استيقظت فجأة على أزمة مالية طاحنة ومؤشرات على سقوط الرأسمالية الأنجلوسكسونية وصعود نموذج الرأسمالية الصينية. استيقظت على حربين في أفغانستان والعراق استنزفتا قوة أمريكا ودمرتا قدرتها على إدارة الصراع في الشرق الأوسط.. هذه الجماعة فسرت اجتماع هذه الظواهر في وقت واحد بأنه يعني أمرا واحدا، يعني (انحدار أمة). لدى Meed وجهة نظر تستحق الإهتمام، فهو يرى أن الأمر ليس بهذه البساطة، بل يراه شديد التعقيد. أمريكا، في رأيه، تمر فى وسط مرحلة (إعادة توازن) تاريخية. لقد عاش العالم عقودا عديدة على أكتاف تحالف ثلاثي أقامته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. هذا التحالف المتكون من أمريكا وأوروبا واليابان لم يعد قادرا على الوفاء بالمهام الملقاة على عاتقه. ويعتقد البروفيسور، ميد، أن بوش وأوباما، كليهما بذلا جهودا خارقة لوضع سياسة خارجية تسعى لبناء شراكة حديثة تناسب المهام الجديدة، مثل حرية التجارة وتبنى سياسة نقدية جديدة، ودمج العالم النامي في النظام المالي العالمي، ومساعدة الدول الخارجة من حلف وارسو على سرعة الإنتقال إلى العالم الغربى. ولا شك أن أحداثا مهمة وقعت وفرضت نفسها على التحالف الثلاثى الذي تولى قيادة العالم بعد الحرب، فقد انكمشت أوروبا على نفسها لتتمكن من التركيز على عملية إندماج دول أوروبا الشرقية في النظام الأوروبى الجديد، وتطرفت أوروبا الجديدة فارتكبت أخطاء معينة مثل تبنى اليورو، الأمر الذى تسبب فى تعطيل عمليتي إصلاح سوق العمالة وسياسات الدعم. وفي آسيا وقع تطور لا يقل أهمية، إذ استفادت دول كثيرة فى آسيا من نظام حرية التجارة والتوسع في الاستثمارات فنمت بسرعة كبيرة، ولكن على حساب اليابان. بمعنى آخر تراجعت أوروبا واليابان في وقت واحد تقريبا، وصارت أمريكا وحيدة في حلف ثلاثي، ركنان فيه أصابهما العطب، ولكن لم يختفيا. في الوقت نفسه، كانت تركيا تبتعد عن أوروبا، وباعتبار أن قيمتها ارتفعت بخاصة بعد أن أصبحت قوة مؤثرة في الشرق الأوسط ولاعبا معتبرا فيها، لم يعد خافيا أن تأثيرها تجاوز تأثير الإتحاد الأوروبي في بعض القضايا وفي دول الشرق الأوسط. من ناحية أخرى خرجت الهند والصين إلى ساحة السباق للتنافس على من يحل محل الإتحاد الأوروبي كلاعب اقتصادي أول في أفريقيا. هكذا وجدت أمريكا نفسها تقود العالم فى إطار (مجموعة سباعية) بعد أن اشتركت في قيادة العالم لستين عاما في إطار (مجموعة ثلاثية). وجدت نفسها مع مجموعة تضم إلى جانب اليابان وأوروبا تركيا والصين والهند والبرازيل. لاحظت وأنا أقرأ ما كتبه البرفيسور ميد، أنه يتعمد عدم الإشارة إلى روسيا وهو بذلك يندرج ضمن عدد من المفكرين الأمريكيين الذين ينكرون أهمية روسيا في الحال والمستقبل. ويتنبأ الكاتب بأن السنوات القادمة ستكون سنوات شاقة بالنسبة للدبلوماسية الأمريكية التي يتعين عليها أن تضع شبكة من المواءمات والترتيبات والمؤتمرات التى تساعد دول القيادة السباعية على فهم بعضها للبعض الآخر والتأقلم مع أساليب حديثة في قيادة النظام الدولي. ستكون الحاجة ماسة إلى مباحثات طويلة مع الشركاء الجدد بدون تجاهل الشريكين القديمين، وبناء قاعدة من المؤسسات السياسية كتلك التي بنيت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وإقامة مراكز بحث مشتركة وتبادل مكثف للزيارات الفنية والدبلوماسية والعسكرية. وحسب هذا المنطق في التحليل ستكون أمريكا كما كانت على امتداد الستين عاما الماضية، الدولة الرئيس في مجلس إدارة ولكن بأعضاء أكثر من أعضاء مجلس الإدارة السابق. أما الرد الأقوى على تيار الإنحداريين، فجاء بقلم الكاتب اليمينى الكبير، روبرت كاجان، صاحب الكتاب الشهير بعنوان (العالم الذى صنعته أمريكا). يقول كاجان في مقال حديث، إن كثيرا من الناس يخطئون إذا اعتقدوا أن هناك سياسة خارجية أمريكية خاصة بالجمهوريين والمحافظين وسياسة خارجية أخرى خاصة بالديمقراطيين. السياسة الخارجية الأمريكية، في كل الأوقات وتحت كل القيادات، انعكاس دائم ومتواصل لمبادئ المحافظين الجدد، أي أنها في الأصل الثابت سياسة خارجية يمينية متطرفة. يقول كاجان هذا الكلام وهو العضو في مجلس السياسة الخارجية الملحق بمكتب السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية، وفي الوقت نفسه هو المستشار في الشؤون الدولية لحملة ميت رومني المرشح ذى الحظوظ الأوفر في الحزب الجمهوري. يقول كاجان بكل الصراحة الممكنة إن التدخل العسكري الأمريكي في دول أجنبية تقليد ثابت ودائم في السياسة الخارجية الأمريكية. أمريكا تدخلت عسكريا أكثر من 25 مرة منذ عام 1898 أي أنها تتدخل مرة كل أربع سنوات ونصف وتتدخل مرة كل عامين ونصف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتدخلت 16 مرة في الاثنين وعشرين سنة الأخيرة، هي الفترة من 1989 حتى الآن. الأساس في السياسة الخارجية الأمريكية حسب رأي روبرت كاجان هو مبادئ (المحافظون الجدد)، لذلك لن نجد في واشنطن إلاّ قليلين جدا من النادمين على التدخل العسكري في العراق رغم أنهم جميعا يعرفون أن الحرب قامت على الكذب. وبصراحة مماثلة يعترف كاجان بأنه مثل الرئيس أوباما يأسف لأنه تعاطف مع الثورة التي أسقطت حاكما مستبدا فى مصر. وقال بالنص (إذا كان الحليف هو مبارك، فأنا أعترف بأنني كنت أحد المنادين بضرورة التخلي عنه تماما كما كنت أحد المنادين بالتخلى عن أناستازيو سوموزا دكتاتور نيكاراجوا، وعن فرناندو ماركوس دكتاتور الفلبين. أعتقد اعتقادا جازما أن دعم أمريكا لعدد من الحكام المستبدين خلال الحرب الباردة كان خطأ كبيرا وأن دعم المستبدين العرب في المرحلة اللاحقة كان أيضا خطأ كبيرا ونحن ندفع الآن ثمن ارتكاب هذا الخطأ). ويستطرد كاجان قائلا: (إن أمريكا يجب أن تتعامل مع الإخوان المسلمين بعقل مفتوح)، ووصف نفسه بأنه (رخو) عندما يتعلق الأمر بالإخوان المسلمين، مضيفا، بأن (ديمقراطية مصرية بهذه السمات الإسلامية قد تكون في مصلحتنا). المدهش في النهاية هو أن هذا الكاتب الشهير والمتفائل الكبير والرافض لمزاعم الإنحداريين يلخص رؤيته لمستقبل أمريكا بالعبارة التالية (حرب دائمة في الخارج ومعاشات تقاعد أقل للمسنين في الداخل).