انتقل إلى رحمة ربه يوم الجمعة الماضي 4 أفريل الشهيد الحي مفكر الحضارة الإسلامية الشيخ محمد قطب شقيق الشهيد سيد قطب عن عمر مديد بلغ الرابعة والتسعين وكانت وفاته في جدة حيث عاش الرجل نصف قرن أستاذا للدراسات الإسلامية بمكةالمكرمة ولاجئا ناجيا من طاغوت العسكر في مصر بعد أن أقدم جمال عبد الناصر في أوت 1966 على تنفيذ حكم الإعدام في المفكر العبقري سيد قطب صاحب (في ظلال القرآن) ورفاقه وبعد أن ابتلي الإسلاميون بمحنة عظمى على أيدي أجيال من الحكام التغريبيين وبعد أن تشتت الأمة مزقا خرقا من الدويلات الهزيلة الواهية، في حين تكتل الصليبيون والصهاينة في خلافات أخذوا قواعدها بكاملها من الخلافة الإسلامية التي اغتالوها سنة 1924. وتوفي قبله بمدة قصيرة العالم الإسلامي الشيخ عبدالكريم العاني وهو من أجل علماء العراق الذي وافاه أجله يوم 27 جانفي 2014 وهو لاجئ في اليمن. والغريب أن الرجلين رحمهما الله عاشا وتوفيا في المنفى غريبين عن مرابع صباهما فكانا من بين الغرباء في الحياة والوفاة فطوبى للغرباء كما كان يقول أبو ذر الغفاري. ولم يزل حيا من هؤلاء القمم الشامخة بين من تجاوز التسعين سوى فضيلة الشيخ الإمام سيدي محمد أبو سردانة قاضي قضاة فلسطين والأردن أمد الله في أنفاسه ونفعنا بعلمه فقد كان لي في أيام الشدة والمنفى نعم السند ونعم النصير مباشرة أو عن طريق نجله زميلي في جامعة قطر د. عز الدين أبو سردانة وكتب للملك الحسين وإلى شقيقه ولي عهده الأمير الحسن بن طلال في التسعينات رسالة يزكيني فيها لديهما حين كنت ملاحقا من إنتربول بسعي كيدي من الطاغوت ولكن العاقبة للمتقين من قبل ومن بعد فأنظر اليوم عاقبة الظالمين. لي مع الشيخ محمد قطب بعض الذكريات التي لا تمحى من الوجدان فقد زارنا في الدوحة عديد المرات وتشرفت بتناول الغداء معه سنة 1998 وبتبادل الرأي في بيت جاري وصديقي وصديقه الأستاذ في الجامعة القطرية جمال عطية برفقة طيب الذكر المرحوم الأستاذ عبد العظيم الديب أحد أقطاب الإخوان والذي كتب لي مقدمة أعتز بها لكتابي (نحو مشروع حضاري للإسلام) المنشور في مكةالمكرمة سنة 1996 وكذلك صحبة المفكر المصري والعالم القانوني الدستوري الكبيرأحمد كمال أبو المجد أطال الله عمره. وكان الشيخ محمد قطب يتجاوز في أحاديثه تفاصيل المحنة التي عاناها هو وشقيقه وإخوانه لأنه كما قال فهو يحمد الله عليها كامتحان عسير يختار له الله سبحانه من عباده من يصطفيهم وكان أغلب حديثه متجها للمستقبل منشغلا بمحنة المسلمين جميعا لا بمحنته ولا بمحنة أسرته ويذكرنا بما كان كتبه في كتابه (جاهلية القرن العشرين) من توصيف لحالة الأمة بعد انهيار سدها المنيع المتمثل في خلافتها الموحدة الجامعة وتقسيمها دويلات ضعيفة عاجزة بين ليبرالية واشتراكية تلك المذاهب التي تبناها الحكام العرب حين تخلوا عن الشريعة السمحاء فتحولت دولهم اليوم إلى أذيال منهوبة وبيادق مسلوبة تابعة للقوى الغربية المسيحية الطاغية. وكان رحمه الله يتابع تساؤلاته: (حسب موقع ويكيبيديا): هل بدأنا التحرك الصحيح الذي هو تجلية العقيدة، وتقويم ما انحرف من مفهوماتها، مع التربية على مقتضى هذه العقيدة، تربية تحول مقتضياتها إلى سلوك واقعي؟ أم هو مجرد دروس تثقيفية في شتى المعارف الإسلامية! وهل الخطوة الصحيحة هي استعجال الصدام مع الأعداء قبل إعداد القاعدة المناسبة لهذا الصدام، ولاستمراريته في حجمها وصلابتها حتى يؤتي ثماره المرجوة؟. أم هو تحاشي الصدام جهد الإمكان حتى تتهيأ القاعدة الواجبة؟. وهل وعينا خطط أعدائنا كيلا نفاجأ بها، ولا يستغرقنا الذهول كلما نزلت بنا واحدة من ضرباتهم أو خديعة من خدائعهم، ما بين محاولات الإبادة ومحاولات الاحتواء؟ وقبل ذلك وبعده هل تجردنا لله حق التجرد، حتى نستأهل أن يمن علينا بالنصر الموعود؟ أم أن أهواءنا الشخصية هي المسيطرة، فمنها ننطلق وحولها ندور؟ ويختم هذه التساؤلات المثيرة بقوله المملوء باليقين: ولكني رغم كل شيء أشعر دائماً بالتفاؤل العميق بالنسبة إلى مستقبل الدعوة ويعلل تفاؤله باستقرائه لسنن الله والتتبع لظواهر مشيئته وقدره، فلو كان في قدر الله أن ينتهي الإسلام من الأرض لكان زوال الخلافة هو الفرصة الملائمة لذلك، وبخاصة أن ذلك هو مقصد الأعداء من تدمير الخلافة، بيد أن هذا الحدث ذاته هو الذي مهد لإنشاء حركته العالمية.. ولو كان في قدر الله أن تموت الحركة الإسلامية لكان التعذيب الوحشي، ومحاولات الإبادة الجماعية في السجون والمعتقلات كافية للقضاء على كل أمل بحياتها، على حين نرى الضد من ذلك، فبعد كل مذبحة ينبثق مدد جديد من الشباب يعتنق الدعوة ويتفانى من أجلها. كانت خاتمة الحديث كما ساقه موقع ويكيبيديا استفسار الأستاذ عن أحب مؤلفاته إليه، فكان جوابه: من المعتاد أن يقول المؤلف إن كتبه كلها أبناؤه، وكلها عزيز عليه. وأنا أيضاً أقول هذا، ومع ذلك فقد يكون (الإنسان بين المادية والإسلام) وهو باكورة كتبي، أحبها إلي، فضلاً عن كونه الابن البكر فهو يشتمل على الخطوط الرئيسة التي انبعثت منها عدة كتب تالية في مجال التربية وعلم النفس. ..ذلك هو محمد قطب الذي أشرق اسمه مع مؤلفاته الطافحة بالجديد من الفكر الحي النابع من الرؤية الإسلامية، التي خلصت من شوائب التقليد، فكانت إحدى المنارات القليلة التي تبين للقارئ المسلم طريقه الموصل إلى عز الدنيا وسعادة الآخرة فرحمة الله عليه. وفي الختام لا بد أن أذكر لقرائي الأعزاء مقالتي التي كتبتها منذ 48 سنة ونشرتها لي جريدة العمل التونسية يوم 3 سبتمبر 1966 أي بعد خمسة أيام من جريمة إعدام الشهيد سيد قطب وكان عنوانها ومحورها القطيعة مع عبد الناصر وفكره القومي العربي بعد تلك الجريمة وأشدت فيها وأنا ابن العشرين آنذاك بكفاح وفكر سيد قطب وذكرت الناس بأن بورقيبة تدخل لدى عبد الناصر لإنقاذ حياة السيد قطب عن طريق سفير تونس آنذاك المرحوم محمد بدرة فلم يستجب له وكان بورقيبة تدخل قبل ذلك لدى عبد الكريم قاسم وأنقذ حياة صديقه محمد فاضل الجمالي وزير خارجية العراق سابقا فاستجاب له حاكم العراق سنة 1959وجاء الجمالي إلى تونس ضيفا مبجلا ومربيا فاضلا إلى أن توفاه الله فيها وكان من بين أصدقائي الخلص قبل أن تصيبنا نحن أيضا بدورنا محنة المنفى رحم الله جميعهم وغفر الله لهم ولنا وهو خير الغافرين.