كانت هذه الحقبة الحالكة التي امتحنت في ظلها قدرات الإخوان على المقاومة والصمود جذرية في توليد أفكار وتوجهات داخل صفوفها.. لقد أذاق نظام ناصر في غمرة معركته الإنتقامية، والتي كانت تعني كذلك بالنسبة إليها لحظة موت أو حياة.. فجمال عبد الناصر والموالون له من الضباط داخل هيئة قيادة الثورة وجد نفسه وجها لوجه مع الرئيس محمد نجيب، الذي لم يكن مطمئنا لتوجهات الضباط وانسجاميتهم السياسية، وكان يرفض أن يكون هؤلاء الضباط الذين ترعرعوا تحت جناحه أن يُستخدموا، ويستخدموا موقعه وصورته من أجل الإستيلاء على الحكم.. لقد رفض محمد نجيب أن يكون مجرد رئيس جمهورية بشكل صوري، كما شدد على رفضه أن تنهج الثورة، ثورة يوليو، نهجا ديكتاتوريا وتسلطيا، لذلك أبدى نجيب رغبته في العودة إلى الحياة النيابية والسياسية بدل تعليقها مجددا. ورغم عدم تحمس الإخوان للتعددية الحزبية التي كانوا ينظرون إليها بعين غير راضية لأنها مصدر الفساد السياسي، إلا أنهم وقفوا إلى جانب الرئيس محمد نجيب ضد جمال عبد الناصر، والموالين له. وكان عبد القادر عودة جد مقرب من الرئيس نجيب، غريم جمال عبد الناصر.. وانسكن الإخوان بشبح ناصر، وهذا ما جعلهم يركزون في تحليلهم لنظامه على الجانب الذاتي المغرق في الذاتية والشخصانية، ما دفعهم إلى الإرتداد على الصعيد الفكري والسياسي إلى الموقف الدفاعي المتخندق في رد الفعل.. لقد تحول ناصر في نظر الإخوان إلى شر مطلق يجب تدميره واستئصاله.. ويأخذ بعض المراقبين والمعلقين على الإخوان تعاطيهم مع محنتهم بشكل غلب عليه قصر النظر المتسم بالنزعة الثأرية المطلقة، وذلك ما انعكس سلبا على الديناميكية التي كانت تميز نشاطهم الفكري في المرحلة الأولى من التأسيس، حيث أضحى الجمود الفكري والإنغلاق على الذات ومعاداة الإجتهاد هي السمات والصفات الغالبة على فكر ونشاط الإخوان.. شعر ناصر أنه تمكن من تقليم أظافر الإخوان، وأن قصة تهديدهم لوجوده أصبحت من الماضي، وهذا ما جعله يوافق أن يفرج عن مرشد الجماعة حسن الهضيبي لأسباب صحية وإنسانية لكبر سنه.. لكن إشارة مثل هذه من لدن ناصر لم تكن كافية للإطفاء النهائي لتلك النار التي كان يتلظى بها المعذبون من الإخوان الذين لم يصدقوا أنهم فعلا خسروا معركتهم وخرجوا منها فاشلين ومنكسرين.. أليس الله معهم؟! هكذا كانوا يعتقدون أو أصبحوا يعتقدون بعد تلك الأيام الشداد التي اصطلوا بلهيبها الجهنمي.. وكان لابد لهذه الحالة المأساوية التي عاشها الإخوان من لسان معبر ومبين.. ولم يكن هذا اللسان سوى ذاك الرجل الكهل الذي لم يلتحق إلا في وقت متأخر بتنظيم الحسن البنا.. سيد قطب... كان الرجل مثقفا، مقربا في بداية مشواره من العسكر، وله كل تلك المكانة والإحترام في نظر الليبراليين والعلمانيين والقوميين.. ولم يكن قطب يتصور، حتى في قمة خلافاته مع الضباط الأحرار، أن تكون في مصر مثل هذه الآلة المتوحشة المدمرة لكل روح إنسانية في سبيل الإحتفاظ بالحكم... لقد عاش سيد قطب حياة المعتقلات، واكتشف بأم عينيه ما يحدث وراء الأسوار وفي سراديب السجون.. كان ذلك مهولا ولا يمكن أن يتصوره عقل امرئ. وأدت به مثل هذه المحنة إلى نقلة غير مسبوقة بالنسبة لمفكر مصري إسلامي حديث نحو الرديكالية الإيديولوجية والفكرية والسياسية.. هذا ما جعل محللا مثل محمد خلف الله يعلق على هذه الفترة من الإعتقال التي مر بها قطب وآثارها على نفسيته وتوجهاته قائلا.. "إن المحنة السجنية لسيد قطب كانت العالم المباشر في تحول فكره وتصلبه وانضمامه إلى الفكر الإسلامي الناشئ في الهند والباكستان، ممثلا في أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي"، ولقد راح قطب يشكل مثل هذا التوجه عبر ثلاثيته الشهيرة التي كانت بمثابة الخلفية الفكرية للعقيدة السياسية الجديدة التي اعتمدتها الموجة الجديدة من الناشطين المنتمين لجماعة الإخوان، والذين تعرضوا للتعذيب والإذلال والإهانة والتجريد من كل آدمية... وتتشكل الثلاثية من ثلاثة نصوص، هي أقرب إلى البيانات الإيديولوجية.. وهي كتاب "هذا الدين" و«المستقبل لهذا الدين"، ثم النص ذائع الصيت "معالم في الطريق". ومن خلال هذه النصوص التأسيسية الثلاثة أبان قطب عن خصائص المنهج الإسلامي مقارنة بالمناهج الغربية، وما يمتاز عنها انطلاقا من ربانيته التي لا تتماشى مع كل ما هو وضعي، وركز كذلك على عقم المحاولات الساعية إلى ضرب "طلائع البعث الإسلامي" ونعت من يقوم بذلك، طبعا، وهي الأنظمة، أنها تنتمي إلى الجاهلية وإن تعددت أساليبها وأشكالها وبيئاتها وأزماتها. ومن خلال نص المعالم عمل قطب أن تدرك الطليعة الجديدة أهمية دورها وتاريخيته من حيث رسالتها والآمال في تحقيق الخلاص التام المعلقة عليها وحقيقة وظيفتها، كما تدرك في الوقت نفسه طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة بجذورها في هذا العالم.. وكانت هذه الصياغة الجديدة لعقيدة الإخوان النضالية تسعى لمجاوزة الوضع الجاهلي وصولا إلى ابتكار واستيحاء النبوة والنموذج المحمدي هذا عبر نسج خطاب إيديولوجي ناف لكل الأنساق الأخرى المغايرة، ومتضمن بشكل عميق لنزعة سلفية يقول عنها طارق البشري.. إن الجانب السلفي (الراديكالي) من دعوة قطب لا يعني في إطار منطق الدعوة الرجعية بالمعنى السياسي والإقتصادي الشائع الآن، ولكنه يعني لديهم الراجعية، أي العودة، أي رفض الأصول الحضارية والعقائدية التي وجدت وشاعت. الراجعية هنا تعني المقاومة، مقاومة الإقتحام والغزو الحاصلين، لقد قيل إن سيد قطب في (معالم في الطريق) بلغ قمة الرجعية لأنه حكم على مجتمعنا كله بالجاهلية، ولكن فهم (معالم في الطريق) في إطار منطق الدعوة الإسلامية يكشف أن سيد قطب لم يغل في الراجعية، بل غلا في المقاومة.. لأنه بذل مجهوده في إيضاح كيفية إعداد كتيبة الصدام للعودة إلى الإسلام، وأبان في (لا إله إلا الله) معنى الإنخلاع عن المجتمع الحاضر بكل قيمه ومؤسساته ورموزه. وإذا كانت الجاهلية هي نظام ما قبل الإسلام، فإن سيد قطب عندما وصم المجتمع الحاضر بالجاهلية، يكون في تصوره قد نقل الدعوة ونظام الإسلام مستقبليا دعوة ونظاما، ليكن الموقف من عموم الدعوة الإسلامية وتفصيلاتها ما يكون، ولكن علينا أن نفهم منطلقها الداخلي وسياقها، وكيفية بنائها لعقلية الداعي إليها، وكيفية تحريكها لبواعثه، فلسفة الداعي للإسلام سلفية راجعية مقاومة، وهي ذات منظور مستقبلي. لقد بعثت مثل تلك المقاومة التي مثلها سيد قطب نوعا آخر من الآمال "الخلاصي"، الآمل الآخروي المرتبط أساسا بالحياة والصمود والتضحية تحت الراية الحديثة، والمبتكرة من جديد للجهاد.. لكن جهاد لا يقوم على التعبئة الجماهيرية وعلى النشاط السياسي والدعوي العلني، بل يقوم على النزعة الحلقية أوالفردية التي تقوم بها الطليعة الجديدة التي نظر لها قطب في "المعالم" ونشاط هذه الطليعة المتدثرة بالعمل السري لا يكون إلا ذي نزعة انقلابية، وهو العنف المقدس.. أوالإرهاب المستهدف للشخصيات والرموز.. ولقد ظهرت مثل هذه الأفكار داخل السجون ومعتقلات التعذيب التي جعلت قطب يرى مصر.. مجتمعين أو دارين، دار الجاهلية، ودائرة الطليعة أو الصفوة الربانية التي أصبحت في ظل سيادة الطاغوت غريبة، في حين من المفروض أن لا تكون ثمة من سيادة إلا سيادة الله.. ولا حكم إلا حكم الله... ولا عبودية إلا للرب وحده... ولقد شعر المرشد العام للجماعة حسن الهضيبي بخطورة المنحى الذي بدأ ينمو داخل الجماعة ويخترق صفوف أبنائها، وهو الشيخ الذي ابتلته المواجهة مع الحكام وحركته السياسية، فانبرى محاورا ومجادلا لمثل هذه الطروحات التي تكشف عن يأس وثأر ومقاومة هي أقرب إلى الإنتحار.. فكتب كتابه الذي عنونه "دعاة لا قضاة"، لكن مثل هذا الخطاب الداعي إلى استخدام العقل والرجوع إلى الحكمة وتجنب فخ الثأر، لم يجد آذانا سامعة لدى أولئك الذين ذاقوا المرارة على أيدي زبانيتهم... فلجأت مجموعة من هؤلاء المناضلين إلى إعادة تأسيس تنظيم سري مسلح يسعى إلى الإنقلاب على نظام الحكم، والإطاحة ب«الطاغوت"، وكان ذلك في عام 1959، بينما كان قطب لازال يقبع وراء القضبان.. وكانت هذه المجموعة التي قررت الإنتقال إلى الفعل تجتمع في بيت شقيقة محمد الغزالي، وهو الإخواني السابق، والرجل الذي كان يقوم بالرقابة الدينية للكتابات الفكرية التي كان يؤلفها سيد قطب في معتقله، بعد أن سُمح له بالكتابة.. ويشير جيل كبيل، صاحب "الفرعون والنبي"، إلى أن أولى الخلايا عقدت اجتماعها في عام 1957 لتدارس الأسباب التي أدات إلى محنة 1954، "إلا أن عملية إعادة تشكيل (التنظيم المسلح السري) لم تتجسد في الواقع إلا مع بدايات 1959، وهذا التنظيم الجديد - حسب كبيل - لم يأخذ ملامحه العامة والمكتملة إلا في عام 1962، وكانت خلايا المجموعات الجديدة تنتشر في أكثر من مدينة، منها القاهرة، دمياط، الإسكندرية والبحيرة. وعملت الهيئة العامة لهذه المجموعات على تشكيل هيئة إرشاد تتكون من أربعة أشخاص.. ورغم أن قطب كان بعيدا عن الأجواء السرية للمجموعة، إلا أنها التقت آراءها في أن تسلم له قيادتها، وذلك بسبب ما أصبح له من صدقية وجاذبية حصل عليها بسبب الظروف التي عاشها في المعتقل، والصمود الذي أبداه عبر كتاباته التي استثارت الحماسة في نفوس الشباب في جماعة الإخوان.. وفي ماي 1964، استفاد سيد قطب من عفو رئاسي لأسباب صحية، لكن كان ذلك بوساطة من الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف.. وكانت الجماعة التي وضعت خطتها ضد نظام ناصر متسرعة، حسب زينب الغزالي، التي قالت فيما بعد إن كان على الجماعة السرية التي اقترحت أن يكون قطب أميرها.. أن يستمر مخططها في مدة التربية والتكوين والإعداد... وأن يستغرق برنامجنا التربوي ثلاثة عشر عاما، عمر الدعوة في مكة، لكن رغبة الإنتقال والإستعجال كانت أسبق.. وبعد إعادة إلقاء القبض على قطب ومحاكمته من جديد في أوت 1965، أقر قطب بوجود تنظيم سري قائلا:«أعضاء القيادة تحدثوا معي طويلا وذكروا لي أنهم ليسوا وحدهم، وإنما وراءهم مجموعات أخرى من الشباب، وذكروا لي تاريخ هذه المجموعات، وقالوا إنهم من سنة 1959 حتى عام 1963 كونوا مجموعات، وبعد عدة لقاءات قالوا إن لهم تنظيما سريا يرجع إلى عدة سنوات سابقة، وإن هذا التنظيم قائم على أساس أنه فدائي ينتقم لما جرى للجماعة عام 1954، ولكن أنا قلت إن هذا الهدف صغير لا قيمة له، ونتائجه أخطر من فوائده.. وأجاب لماذا قبل أن يكون على رأس التنظيم قائلا:«كي لا يركب الشباب رؤوسهم إذا لم يجدوا قيادة تضبطهم وتؤمن تصرفاتهم الفردية". في 26 أوت 1966، تم إعدام سيد قطب.. وزج بناشطين آخرين في المعتقلات والسجون.. وتحول التعذيب إلى سمة أساسية من سمات الآلة الناصرية السياسية القمعية، بحيث طالت كل المعارضين من الإسلاميين إلى الليبراليين إلى الشيوعيين.. ووجد الأعضاء الذين خرجوا من السجون أو مكثوا على الحياد القاتل في تلك الفترة العسيرة ينطوون على أنفسهم ويتخلون عن خطابهم ومحاولاتهم في الإنتقال أو يفرون طلبا للنجاة من الخارج.. ومن بين البلدان التي أوت هؤلاء الإخوان المطاردين، المملكة العربية السعودية، وكان ذلك في الخمسينيات، لكن استمر ذلك في الستينيات والسبعينيات.. وكان هذا الإيواء بمثابة طوق النجاة الذي رمى به حكام السعودية إلى الإخوان المضطهدين من قبل نظام ناصر، حيث تم احتضانهم وتشجيعهم لمواصلة دعوتهم من جهة، ونشاطهم الدعائي ضد جمال عبد الناصر الذي كان في تلك الفترة الخصم اللدود للسعودية بشكل خاص، وللأنظمة التي كان يطلق عليها من طرف الناصريين والموالين لنظام ناصر من القوميين واليساريين، بالأنظمة الرجعية والحليفة للإمبريالية والإستعمار.. لقد شكلت هذه المحنة وأخواتها لحظة مهمة في مسار الإخوان.. فهل جعلهم ذلك يعيدون التفكير في استراتيجيتهم، وهل دفعهم ذلك إلى إعادة النظر في أسس نظرتهم الفكرية ورؤيتهم الإيديولوجية.. خاصة ما ترتب عن اختفاء ناصر من الحياة السياسية من تحديات جديدة، داخل ساحتها وخارجها..؟!