الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، وشرح صدورنا للإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد _ صلى الله عليه وسلم _ وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: - يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابرَ* كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ* ثمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(1). جاء في كتاب _إيجاز البيان في سُوَر القرآن للصابوني_ حول السورة السابقة قوله:(سورة التكاثر مكية، وهي تتحدث عن انشغال الناس بالدنيا وشهواتها عن طاعة الله، وعن تكالبهم على جمع حطام الحياة، حتى يبغتهم الموتُ ويقطع عليهم متعتهم، وينقلهم من القصور إلى القبور، وقد تكرر الزجر والتهديد في هذه السورة الكريمة {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لبيان خطأ الناس في اشتغالهم بالفانية عن الباقية، ونسيانهم لما أمامهم من المخاطر والأهوال، التي لا يجوزها ولا ينجو منها إلا من قدَّم صالح الأعمال)(2). من الجميل أن نتحدث عن الدار الآخرة، لأن الناس قد تسيطر عليهم الأمور الدنيوية، فتنسيهم الدار الآخرة، لذلك يجب علينا دائماً أن نتذكر دار البقاء، فعش يا أخي ما شِئْتَ فإنك ميّت، وَأَحْببْ مَنْ شِئْتَ فإنك مُفَارقه، واجمعْ من المال ما شِئْت، وارتقِ من المناصب ما شِئْت، لكنْ إيَّاك أن تنسى بأن سهم الموت لك مُلاحق، كما في قوله تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}(3)، وكما جاء في قوله سبحانه وتعالى أيضا:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}(4)، وها هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم _ يُذَكّرنا بالموت قائلاً: (إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ، كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا جِلاؤُهَا؟ قَالَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَتِلاوَةُ الْقُرْآنِ)(5)، ورحم الله القائل: قَرُبَ الرحيلُ إلى ديار الآخرة فاجعل إلهي خيرَ عُمْري آخره فأنا المسكينُ الذي أيامُهُ وَلَّت بأوزارٍغَدَت مُتواترة آنسْ مبيتي في القبور وَوَحْدَتي وارحمْ عظامي حين تبقى ناخرة فلئنْ رحمتَ فأنتَأكرمُ راحمٍ فبحارُ جُودِكَ يا إلهي زاخرة وَتَولّه باللُّطْفِ عندَ مآلهِ يا مالك الملكِ وربّ الآخرة وعند دراستنا للسنة النبوية الشريفة نلاحظ أن رسولنا _ صلى الله عليه وسلم _ كان يخاف على أمته مِنْ أن تُبْسطَ الدنيا عليهم، كما جاء في الحديث الشريف: (عَن عَمْرَو بن عَوْفٍ الأَنْصَارِيَّ -وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا- أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَت الأَنْصَارُ بقُدُومِ أَبي عُبَيْدَةَ فَوَافَقتْ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَلَمَّا صَلَّى بهم الْفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ: أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بشَيْءٍ، قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) (6). ومن الأمور التي تذكرنا بالآخرة: أ- زيارة القبور: ورد في فضل زيارة القبور أحاديث عديدة منها: * عن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوها؛ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ )(7). * وعن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه- قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم -: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوها؛ فَإِنَّ فِيْهَا عِبْرَةً)(8). ب- تشييع الجنائز: ورد في فضل تشييع الجنائز أحاديث عديدة منها: * عن أبي هريرة _ رضي الله عنه- قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ_، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟، قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ)، وفي رواية: (أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ)(9). ج- زيارة المريض: لقد جعل الإسلام زيارة المريض حقاً للمسلم على أخيه المسلم، وواجباً يقوم به تجاه إخوانه، ومن المعلوم أن زيارة المريض تُؤلف بين القلوب، وتترك أثراً طيباً في النفوس، وتزرع المحبة بين المسلمين، كما أنها تُذكّر الإنسان بالآخرة، لذلك جاءت الأحاديث الشريفة تحثّ عليها ومنها: * عن أبي هريرة_ رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله_ صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ عزَّ وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُده، أما علمتَ أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتُك فلم تُطْعمني! قال: يا ربّ كيف أُطِعمك وأنتَ ربّ العالمين، قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان فلم تُطْعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمتَهُ لوجدتَ ذلك عندي، يا ابنَ آدم استسقيتُك فلم تسقن! قال: يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تَسْقِه! أما إنك لو سَقَيْتَهُ لوجدتَ ذلك عندي!)(10) . * وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال: قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ، نَادَاهُ مُنَادٍ: بأَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً)(11). * وعن ثوبان_ رضي الله عنه_ عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال: (إنَّ المُسلمَ إذا عَادَ أخاه المسلم لم يَزَلْ في خُرفَةِ الجنَّةِ حتى يرجع، قيل: يا رسول الله وما خُرْفةُ الجَنَّةِ؟ قال: جَنَاها)(12). * وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أصبح اليوم منكم صائمًا، قال أبو بكر: أنا، قال: من عادَ منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من شهدَ منكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما اجتمعن في رجلٍ إلا دخل الجنة)(13). د- النظر إلى أحوال الفقراء والمساكين: ومما يجعل الإنسان سعيدًا تَذَكّره لِلْجنّة، فمهما أصابك في الدنيا من فقرٍ أو مرض أو غير ذلك، فإن صبرتَ عليه وعملتَ صالحًا، فموعدك الجنة، كما قال تعالى:(سَلاَمٌ عَلَيْكُم بمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(14). لذلك يجب على الإنسان أن ينظرَ إلى من هو أفقر منه، فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ :(انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (15). ومن المعلوم أن رسولنا _ صلى الله عليه وسلم_ قدْ حثّنا على حبّ المساكين والعطف عليهم، فعن أنس _ رضي الله عنه- أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال: (اللهمَّ أَحْيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زُمْرة المساكين يومَ القيامة ، فقالت عائشة _ رضي الله عنها _ : لِمَ يا رسول الله؟ قال: إِنَّهم يدخلونَ الجنةَ قبلَ أغنيائِهم بأربعينَ خريفاً، يا عائشةُ لا تَرُدِّي المسكينَ ولوْ بشِقِّ تمرة، يا عائشةُ أَحِبّي المساكين وَقَرِّبيهِمِ فإنّ الله يُقَرّبُكِ يومَ القيامة ) (16). ومما يُلَيّن القلب ما ثبت عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ أن رجلاً شكا إلى رسول الله _ صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: (امسَحْ رأسَ اليتيمِ، وأطعِمِ المسكينَ) (17). أخي القارئ: إن راحة المؤمن تكون في الجنة، فلا راحةَ له قبلها، فقد سُئل الإمام الجليل أحمد بن حنبل_رحمه الله- متى الراحة؟ قال: إذا وَضَعْتَ قدمك في الجنة ارتحتَ. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين الهوامش: 1- سورة التكاثر الآية (1-8) 2- إيجاز البيان في سور القرآن للصابوني ص(311) 3- سورة النساء الآية (78) 4- سورة الرحمن الآيتان(26-27) 5- أخرجه البيهقي 6- أخرجه البخاري 7- أخرجه ابن ماجه 8- أخرجه أحمد 9- أخرجه مسلم 10- أخرجه مسلم 11- أخرجه الترمذي 12- أخرجه مسلم 13- أخرجه البخاري 14- سورة الرعد الآية (24) 15- أخرجه أحمد 16- أخرجه أحمد 17- أخرجه الطبراني