مهنة القضاء من أشرف المهن في التاريخ الإسلامي وكان دائما ولاة الأمور في الصدر الأول يعتنون جيدا بتعيين الأصلح والأعلم والأتقى في هذه المهنة نظرا لخطورتها وما يمكن أن يحدث من مخاطر في حال عدم تولي من يصلح لهذا المنصب.. وكان الذي يقع عليه الاختيار يتخوف ويهرب من حمل هذه الأمانة الكبرى نظرا لحساسيتها وتعلقها بمعايير الظلم والعدل وما يمكن أن يعلق في رقبة القاضي من حقوق الناس.. إلا أنه مع مرور الزمن أصبح الكثيرون يتجرأون على هذه المهنة وأصبح التساهل في تعيين القضاة ديدن الكثير من الدول خصوصا ما تسمى بدول العالم الثالث والتي أصبح منصب القاضي للوجاهة والحصول على امتيازات مادية ومعنوية كبيرة، وأصبح معيار التعيين في هذا المنصب في بعض الدول هو كم يملك من مال؟ ومن أي عائلة ينحدر؟! وماذا يعمل والده؟ ناسين أو متناسين حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة، وفي رواية (القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار)..إن هذا الحديث العظيم هو العمدة في هذه القضية التي أثارت خلال الأيام الأخير جدلا واسعا وأصبحت حديث العالم العربي والغربي معا.. الغريب أننا معشر المسلمين عندنا منذ أكثر من 1400 سنة قاعدة عظيمة وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر حيث أوضح الأمر بشكل جلي فالقضاة ثلاثة أقسام قسمان منهم في النار وهو وعيد شديد وقسم واحد فقط في الجنة الأمر الذي يزيد من هيبة الموقع الذي يتولاه القاضي... وفي الحديث تحذير شديد من القضاء بالهوى وهو ما يريده الإنسان لشهوة أو لغرض في نفسه دون أن يكون مطابقا للعدل والحق وهذا من الأمور التي أصبحت تثير الفتنة لأن أجهزة الإعلام صاحبة المصالح توجه الرأي العام ومنهم بعض القضاة الذين يستمعون أو يقرأون عن قصد أو عن غير قصد أقاويل واجتهادات مختلفة في القضايا المنظورة بين يديهم مما قد يجعل البعض منهم يتحامل على بعض الأشخاص أو الجماعات بغير حق فيجلس على المنصة وأحاسيسه مضطربة بين ما بين يديه من مستندات وما يسمعه ويدور حوله من مزاعم وأقاويل وهو أمر شديد الخطورة لأنه يتعلق بأرواح أناس الأصل فيها العصمة ولا تزول إلا بأدلة راسخة واضحة لذا كان أهل العلم يحذرون من قضاء القاضي بعلمه أو بميله لأحد الأطراف وطالبوه بضرورة التنحي فورا إذا شعر بذلك، كما قد يتعرض القاضي لضغوط من السلطان أو من بعض أصحاب النفوذ والمال فإن كان ضعيف النفس ومال لما يرغبون أصبح متبعا لهواه... القاضي الثاني الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في النار هو الذي قضى بغير علم وليس بالهوى كالأول، وهذا القاضي قد لا يكون عنده ميل لطرف معين أو رغبة في إدانته ولكنه يتكاسل ويهمل في العلم بحقيقة الأمر ولا يبذل المجهود اللازم لكي يصل لذلك فيسارع بإصدار حكم عن غيرعلم فيقع في المحظور خصوصا عندما تكون القضية تتعلق بالحياة والموت فيزداد التشدد في طلب العلم بتفاصيل الواقعة وإن فشل في ذلك فالحدود تدرأ بالشبهات وليس عليه أن يصدر حكما والأمر ملتبس أمامه أو الأدلة ناقصة أو آتية من جهة غير محايدة أو لها مصلحة في إدانة أحد أطراف القضية كما أن عليه أن يستمع لدفاع المتهمين عن أنفسهم ويترك لهم المجال كاملا حت يزول الجهل عنه فقد يتبين له أمرا ما لم يفطن إليه من قبل... وعدم العلم يشمل أيضا عدم العلم بالحكم الذي يترتب على الفعل الذي يظن أن المتهمين ارتكبوه فينبغي عليه أن يقرأ ويتعلم ويتأكد ويستشير إن أعيته الحيلة ويتريث فالأمر لا يتعلق بدنيا زائلة بل بآخرة ودماء وحقوق لا يتركها الله بدون قصاص...وهذان القاضيان آثمان حتى وإن أصابا الحق ما داما لم يقصداه وإنما قصد الأول اتباع الهوى وحكم الثاني عن غير علم..أما القاضي الأخير الذي وصفه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة هو من قضى بالحق بعد أن علمه من أدلته وتخلى عن اتباع هواه وأنصف المتهم ومنحه حقوقه كاملة دون تفريط أو إفراط أو خوف من صاحب سلطة أو جاه أو نفوذ أو مال وهذا القاضي حتى وإن أخطأ في الحكم فهو استفرغ وسعه وابتعد عن هواه ولم يقصر في معرفة الحكم ولا في أدلته فإن خفي عليه شيء رغم إرادته فلا تثريب عليه...إن إقامة العدل هي الباب الحقيقي للاستقرار المجتمعي وبدونه تضطرب الأمور وتزول البركة وتفسد حياة الناس مهما كانت قوة بلدانهم فما بالك إذا كانت هذه البلدان تعاني ما تعانيه من تدهور.