شارع كريسكاكي بأثينا فضاء واسع لشراء الوثائق المزورة نهاية المغامرة بمحتشدات وسجون اليونان (الحرقة)، (الهدة)، (التقلاع)، مصطلحات كثيرة، ولكنها تفيد معنى واحدا فقط لا غير، الهجرة غير الشرعية، بأية طريقة كانت، وعبر أية بوابة وجدت، برا أو بحرا، فالمهم هو الوصول إلى الضفة الأخرى للمتوسط، فبعدما تطرقنا في الجزئين الأول والثاني إلى (الحرقة عن طريق قوارب الموت) قررنا اليوم أن نخوض التجربة من جديد لكن بطريقة أخرى أكثر أمنا، وأخف ضررا ، وهي بلوغ الأراضي التركية بغية التسلل إلى البلدان الأخرى، حيث أن عددا كبيرا من المغتربين الجزائريين اتخذوا من تركيا سبيلا لبلوغ اليونان ومن ثم الوصول إلى الدول المجاورة لها، وذلك عبر تواطؤ بعض الأتراك الذين يقومون بتهريب المهاجرين برا وبحرا مقابل مبالغ أقل تكلفة وفي وضع يشوبه نوع من المجازفة وإن كانت النتيجة في الأخير واحدة، الدخول إلى أوروبا مهما كلف الأمر. تحقيق حسيبة موزاوي التدابير والإجراءات الصارمة والرادعة سواء التي اتخذت في بلدان جنوب المتوسط أو التي حددتها حكومات ضفته الشمالية، لم تكن لتردع مئات بل آلاف الشبان الباحثين عن الحياة الغربية، فقد شهدت بلادنا خلال السنوات القليلة الماضية ارتفاعا متزايدا في الأرقام على مستوى سلم الهجرة غير الشرعية إلى الدول الأوروبية. تركيا نقطة عبور إلى الحدود اليونانية ومن هذا المنظور حاولنا استقراء بعض المعطيات والتي من خلالها وقفنا على نوع آخر من الهجرة غير القانونية إنما تحت غطاء الهجرة على الطريقة القانونية والسر يكمن في السفر إلى أوطان وبلدان أخرى مرتبطة بأوروبا، ومن ثمة تبدأ الترتيبات والتدابير للحرقة خير دليل على ذلك تركيا، هذا البلد الذي صار يستهدفه الحراقة الجزائريون، ويتخذونه كمركز عبور إلى الحدود اليونانية ثم الدول الأوروبية الأخرى ونذكر في ذلك كل من بولونيا، فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا الخ، فبعد بلوغ العاصمة اليونانية أثينا يعمد الحراقة إلى شارع (كريسكاكي) حيث تباع مختلف الوثائق المزورة وكذا العملات الصعبة. ومن هذا الباب منهم من يزور بطاقة تعريف أفغانية وأخرى فلسطينية قصد طلب اللجوء السياسي إلى اليونان ومنهم من يزور بطاقة تعريف أوروبية للعبور إلى الدول الأوروبية المجاورة. الدخول إلى تركيا يكون بجوازات السفر مغامرة الشاب (أمين) في تركيا، كانت صعبة ومحفوفة بالمخاطر لكنه يؤكد أنه مستعد لتكرارها إن أتيحت له الفرصة، وكشف أمين في لقاء ب(أخبار اليوم)، عن تفاصيل هذه المغامرة التي قادته رفقة 12 شابا أقدموا على الهجرة السرية من جنسيات مختلفة وانتهت بتوقيفه بعد نجاته من الجيش التركي وسجنه قبل طرده إلى الجزائر. التقينا الشاب (أمين) الذي ينحدر من الجزائر العاصمة، حرص على عدم الكشف عن هويته لكنه روى لنا عن تفاصيل مغامرته، عندما حزم أحد الأيام ملابسه التي يملكها في حقيبة صغيرة باتجاه جزيرة (مايوركا) الإسبانية. انطلق أمين رفقة 12 (حرافا) آخر من تركيا نحو الأراضي اليونانية ومنها العودة إلى إسطنبول، يقول (راودتني فكرة الإبحارالسري بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي أتخبط فيها أنا وأغلب شباب المدينة وبعد أن تحصلت على معلومات بأن هناك مجموعة كبيرة مرشحة للهجرة السرية تتسلل إلى الأراضي اليونانية ومنها إلى ألمانيا مرورا بالغابة الفاصلة بين تركيا واليونان أردت تجريب حظي)، وأضاف أمين (قررت خوض المغامرة بعد استخراج جواز سفري في شهر مارس المنصرم، حيث عملت(بزناسي) في الملابس والأحذية وعند توفير المبلغ ، قمت بكراء تذكرة السفر وسافرت باتجاه تركيا من مطار هواري بومدين بطريقة قانونية. شبكات تهرب الحراقة من تركيا إلى اليونان ووصل (أمين) ومرافقوه إلى مطار إسطنبول، حيث كان صديقه ينتظره، كان قد تعرف عليه عبر (الشات) في مواقع الأنترنيت وكان اللقاء بالمكان المسمى (أكساري) الواقع بإسطنبول وأقام هناك في فندق (الخليل)، واستغل تواجده للقيام بجولة سياحية لمدة يومين وقام خلالها بضبط موعد مع فاتح المرشد (أي الشخص الذي يسهل تهريب الشباب عبر الغابة) وهو جزائري الجنسية، مؤكدا أن تمرير (الحرافة) نشاط رائج في تركيا. وفي اليوم الرابع، يقول أمين (خرجت من الفندق في حدود الساعة الثانية ظهرا وتوجهت إلى محطة القطار، كنت أفكر في مصيري داخل الغابة المحفوفة بالمخاطر نظرا للحكايات التي كنت أسمعها عن تلك الغابة)، وكشف أنه دفع مبلغ 300 أورو للمرشد فاتح رفقة 12 شابا آخرا من مختلف الجنسيات وركب الجميع القطار لمدة 7 ساعات إلى غاية الحدود اليونانية التركية. غابة ''إيديرنا ''...مخاطر الألغام وملاحقات الأكراد في اليوم الخامس، يعترف أمين بشيء من الألم وهو يسترجع تفاصيل المأساة، أنه انتابه شعور غريب أشبه بالغربة والحنين إلى العائلة والوطن. كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، كان هناك 12 شابا مع المرشد عندما توغلوا في الغابة سيرا على الأقدام عبر الجسر فوق وادي، وكانت تلك الليلة ممطرة، ويضيف (توقفنا ثلاث مرات الأولى لتناول الطعام والثانية لرصد تحرك الأكراد كونهم من قطاع الطرق الذين ينشطون داخل الغابة، أما المرة الثالثة التي توقفوا فيها فكانت في حدود الساعة الثالثة صباحا لرصد تحركات قوات الأمن اليونانية التي تلاحق (الحرافة)، وأكد أمين أن المكان كان ملغما وتنقل مع رفقائه بحذر وتمكنوا من الخروج من الغابة في حدود الساعة السابعة صباحا ودخلوا بلدة (أورسياد) اليونانية وكان المرشد يرافقهم. أخيرا في بلدة ''أورسياد'' اليونانية عند الوصول إلى نهاية الغابة ظهرت بلدة (أورسياد) اليونانية، وهنا شعر أمين حسب روايته بارتياح (بقينا عند مخرج الغابة مختبئين وسط الأحراش للتخطيط للتنقل إلى (أثينا) (وتفرق الجميع وظل هو مع صديق جزائري الجنسية يدعى (سمير)، يرتقب وصول القطار الذي سينقلهما نحو منطقة (ألكسندرو بولي)، وفي حدود الساعة السابعة والنصف صباحا، يقول أمين (لاحظت شابا يترصدنا ويلاحقنا، غيرنا المكان وبعد حوالي نصف ساعة تمت محاصرتنا من طرف رجال الأمن اليوناني)، ويعترف أمين أنه حاول الفرار لمسافة 25 مترا قبل أن يهدده أحد عناصر الأمن بإطلاق النار عليه، ليتم اقتياده نحو المركز وخضع للاستجواب، قلت لهم فلسطيني الجنسية وجئت من تركيا للبحث عن لقمة العيش (وظل محتجزا لمدة خمسة أيام مع (حراقة) آخرين من جنسيات مختلفة مغاربة وتونسيون وجورجيون، حيث كنا نتحدث عن مشاكل الحياة وطريقة إلقاء القبض علينا وتارة أخرى نثير مواضيع سياسية واجتماعية. هجوم الأكراد ومطاردات الجيش التركي بعد أيام من السجن، تم ترحيل (الحرافة) على متن زورق من اليونان ليتم إنزالهم في الواد المحاذي للغابة ليتحولوا إلى (حرافة) مزدوجين من تركيا إلى اليونان ومن اليونان إلى تركيا بعد طردهم باتجاه تركيا وتنقلوا مشيا على الأقدام لساعات ليلا قبل أن يصطدموا بالأكراد (فررنا في اتجاهات مختلفة وأنا تبعت المرشد الذي توغل وسط الأحراش والأشواك)، وبعد حوالي ساعتين من ذلك تدخلت قوات الجيش التركي ونصبت كمينا(للحرافة) داخل الغابة على الحدود التركية اختبأنا وسط الأحراش، فقال لنا المرشد (يجب أن تفروا عند اقتراب الجيش منكم بأمتار باتجاهات مختلفة)، ويواصل أمين بشىء من الضحك (كدت ألفظ أنفاسي خاصة بعد سماعي كلمة (غال) أي توقف بالتركية لمدة ساعة من الزمن ولم أتوقف عن الركض، ونجوت من قبضتهم وخرجت من الغابة واختبأت مع الناجين داخل بيت كان عبارة عن ورشة بمنطقة أيديرنا ننتظر وصول القطار نحو إسطنبول)، ويواصل أمين سرد قصته (وصلنا إلى محطة القطار في حدود الساعة الخامسة صباحا بإيديرنا بعد اختبائنا بالمسكن ننتظر وصول القطار في حدود السابعة والنصف صباحا المتوجه نحو إسطنبول وفي حدود الساعة السابعة، قرر المرشد أن يأخذ معه شابين لاقتناء تذاكر السفر حيث ذهب معه جزائري ومغربي تم رصدهما من طرف عناصر الأمن التي ألقت القبض على الشاب الجزائري وفر المرشد والمغربي نحو الورشة، قال لنا المرشد يجب أن نذهب جميعا لركوب القطار والمغامرة بدون تذاكر وكان ذلك). ركب (الحرافة) القطار، وبعد انطلاقته بحوالي ساعة جاء القابض فقال له المرشد أن نقطة بيع التذاكر كانت مغلقة (فتركنا وذهب فحمدت الله كثيرا على نجاتنا مرة أخرى من قبضة الأمن التركي وفي الفندق استرجعت جواز سفري بعد محاولة فاشلة للوصول إلى الحلم الضائع بقيت حوالي خمسة أيام أخرى سياحة في تركيا ثم عدت أدراجي نحو مسقط رأسي الجزائر العاصمة وأنا أعمل حاليا في التجارة). مروان عاد من اليونان في صندوق خشبي وبعد أيام من البحث عن من خاضوا مثل هذه التجربة، توصلنا إلى (عمي كمال) الذي راح ابنه (مروان) ضحية مجازفته فمن الجزائر لتونس فتركيا ليصل إلى اليونان ويعود في صندوق خشبي. عمي كمال يروي تفاصيل قصة مروان التي مازالت تدمي القلوب قبل العيون (مروان البالغ من العمر 22 سنة والذي أبلغت عائلته من طرف السلطات المحلية في الفاتح من أفريل 2008 بوفاته بدولة اليونان مما ترك حالة من الخوف. وخلال زيارتنا له قال والده عمي (كمال) الذي يفوق سنه 60 سنة أن ابنه أنهى الدراسة بمستوى التاسعة أساسي قبل أن يلتحق بمركز التكوين المهني حيث تحصل منه على دبلوم اختصاص ميكانيكا وبقي بدون عمل ثم التحق لأداء واجب الخدمة الوطنية حاول بعدها إيجاد عمل لكن دون جدوى وباشر بعدها أعمالا حرة في التجارة. ليواصل حديثه معنا وعلامات الحزن بادية عليه والدموع لا تتوقف عن النزول وأخبرنا أن العائلة تتكون من تسعة أفراد وجميعهم بدون عمل الأخ الأكبر للضحية البالغ من العمر 30 سنة يعاني البطالة وبدون سكن والزوجة قررت مغادرة المنزل باتجاه أهلها بل واضطرا في بداية الزواج تأجيل الإنجاب لغاية الحصول على سكن واشتغل بناء بمركز الشباب أين تعرض لحادث عمل تسبب له في بتر إصبعه ولا يزال ينتظر حقوقه من قبل صندوق الضمان الاجتماعي بعدما تخلى عنه رب العمل. وأضاف عمي كمال الذي يشكو إعاقة بنسبة 90 بالمائة أنه شخصيا ضحية الاستعمار الفرنسي وبقي قاصرا ومعوقا لا تتعدى المنحة التي يتلقاها شهريا 7 آلاف دينار رغم العديد من المراسلات التي وجهها للجهات المعنية على حد قوله ورغم أن الجزء الأكبر من يده اليسرى مبتورا وإصبعين من اليد اليمنى وكذا عينه اليسرى التي لا يبصر بها، وبخصوص ابنه المتوفى مروان أكد عمي كمال أن السبب الوحيد الذي جعله يغادر المنزل البحث عن القوت بتونس قبل أن يتصل بهم من تركيا مرة واحدة وانقطعت بعدها أخباره تماما. لم تنتظر العائلة طويلا قبل أن تتصل بها مصالح البلدية في الفاتح من شهر أفريل 2008 تبلغهم بأن الابن قد توفي بدولة اليونان وحزن كل معارفه عليه نظرا للمكانة الطيبة والأخلاق الرفيعة التي يمتاز بها الابن مروان والعلاقات الجيدة لجميع العائلة مع الوسط الاجتماعي بهاته المنطقة جعلت الكل يواسيهم أحزانهم ويتألم معهم وخصصت لهم البلدية سيارة إسعاف لنقل الجثة وضمان الإتصال اليومي بالقنصل الجزائري في أثينا. لتبقى تركيا طريق (الموت) الجديدة التي شقها آلاف الشباب من الولايات ال48 للوطن قصد بلوغ الضفة الأخرى.. إلا أن القلة القليلة منهم فقط نجحوا في العبور إلى دول أوربا الغربية، ومنهم من يموت على طول الحدود اليونانية التركية. أما الناجون منهم فتتلقفهم سجون ومحتشدات اليونان قبل أن يقرروا العودة إلى الوطن الأم طواعية بعد أن ضاقوا ذرعا بالمعاملة الوحشية خلف القضبان..